غزة الأيقونة: بقيَت المقاومة.. وتبقى فلسطين 

حربانِ إسرائيليّتان، واحدة على غزّة وواحدة على لبنان، والنهايةُ وَقْفانِ لإطلاق النّار واحدٌ في غزّة وآخَرُ في لبنان، وما بين الاثنين قاسمٌ مشترك واحد هو أهداف معلَنة وغيرُ معلَنة لم تتحقق لا هنا ولا هناك. وما يَعنينا في هذه المقالة هو شأنُ غزة - موضوع الحدث، على أن يليها لاحقًا حالة لبنان بَعد انتهاء فترة الأيام الستّين الرجراجة، دون الوقوع في إشكالية المقارنة بين الحالتين الإثنتين.

إنتهت حرب غزة وبقيت أرض غزة. انسحب جنود الاحتلال وبقي عناصر المقاومة. اندحرت دبابات “الميركافا” وبقي أهل غزة وبقيت معهم جدلية تشارلز داروين (1809- 1882) في “أصل الأنواع” وهربرت سبنسر (1820- 1903) في “مبادئ علم الأحياء” حول: البقاء لمن؟ هل البقاء للأقوى والأذكى؟ أم للأصلح وللأكثر استجابةً للتغيير والأكثر قدرةً على التكيّف مع ظروف البيئة؟ أم الأمران معًا؟

البقاء للبيئة الولّادة للمقاومة، التي خرجت بإخراج الأسيرات الإسرائيليّات من السّيارات، تحتفل بالنصر المدمّى، تحتضن المقاومة المزيّنة ببنادقها الحامية، المتأّلقة بزِيّها العسكري الكامل الذي يسمّيه الإسرائيلي “الزّيّ الأوّل”.

إنّها إذن معركة بقاء، بقاءِ الشعب والأرض؛ بقاءِ التاريخ والجغرافيا، وكلُّها بقاءات طبيعيّة من لدن الله وفضاءات شعبية لله، عندما ينصهر كل الشعب في بوتقة الشهادة بكل أوارها وفِخارها، بالمفرق الزمني أو بالجملة المكانية، ولهذا تبقى وتنمو. أمّا التّضادّ معها فإنّه ريح عابر وغثاء سيل طارئ ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾ (الرعد: 17)

ولأن الأرض لأهلها فإنّ المقاومة تمكث في الأرض فوقها وتحتها، كما يمكث سكّانها ولو مشردين في خيام ممزّقة كأشلائهم في المجزرة المفتوحة مثل “صندوق الفرجة” للأمة الواقفة على التلّ “من الخليج إلى المحيط، ومن المحيط إلى الخليج كانوا يعدّون الجنازة وانتخاب المقصلة”، كما في توصيف الشاعر الكبير الراحل محمود درويش، وكذا سائر “حضارات” العالم التي لم تُوقِف الحرب ولا مجرم الحرب المطلوب بمذكِّرة اعتقال للمدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية منذ 22 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. لكنّه منذ عام وثلاثة أشهر يذبح غزة؛ يتفنن في إبادتها؛ يناطح حجارتها ويطحنها ولو دون جدوى. المدنيون لديه مجرد أرقام؛ خمسون ألف شهيد وعشرة آلاف مفقود تحت الركام ومئة ألف جريح (7‎%‎ من سكانها) هم وقود المحرقة الإسرائيلية؛ إيغالٌ في القتل للقتل، وولوغٌ في الدّم الفلسطيني، وإمعانٌ في التّدمير الممنهج للعمران المدني، ولو أدى إلى مقتل آلاف الضباط والجنود وإصابة 14،000 بمعدل 1000 شهرياً (يديعوت أحرونوت) برغم موازين قوى غير تماثلية، وخسارة الاقتصاد الاسرائيلي 80 مليار دولار، دون تحقيق هدف واحد، بدءًا من القضاء على حركة حماس وكل فصائل المقاومة التي ظلت تقصف الغلاف وصولاً إلى القدس وتُفجّر الدبابات، مرورًا باستعادة الأسرى بالقوّة والتي لم تحصل إلا بالتفاوض والتبادل، وصولًا إلى التّطهير العرقيّ و”خطّة الجنرالات” في الشمال.

أما وقد توقف إطلاق النّار، فلم يعد مجدياً السؤال: هل أنّ بنيامين نتنياهو كان بحاجة إلى “طوفان الأقصى” ليشنّ كلّ هذا العدوان، أم أنه تذرّع بالطوفان وكان ما كان، والكلّ يعرف جيدًا أنه لا يحتاج ذريعة كما لم يحتجها أسلافه في أيّ عدوان.

إذا كانت مشكلة نتنياهو مع سكان غزة حصراً، فربّما يكون الجواب بالإيجاب، ولكن الكون يعلم أن مشكلته مع فلسطين كلِّها، وشعبها كلِّه، وتاريخها كلِّه، وقبل كل شيء مع الجغرافيا ولعنتها مع غزّة، التي تمنى رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين أن يصحو يومًا فيجد البحر قد ابتلعها”.

مشكلة الإسرائيلي مع غزة تبدأ من مشكلته مع اسمها ومعناه الذي يؤكد “أبو التاريخ الكنَسي” يوسابيوس القيصري أن “غزّة تعني العِزة والمَنَعة والقوّة بسبب الحروب الكثيرة التي صمدت غزة خلالها” ويوافقه بذلك المؤرخ الفلسطيني عارف العارف بأن ٱسمها مأخوذ من “القوّة والمنَعة والشدّة”.

اليوم بقيت المقاومة وأُوقف العدوان وانتصرت غزّة بصمودها الأسطوري، شعبًا ومقاومةً، لتبقى درّةَ التّاج الفلسطينيّ، وأيقونةَ مقاومتِه.. أمّا غُزاتها فلهم شتاتهم الذي منه أتَوها وإليه يعودون

إذن غزة أولاً تعني العزّة، والعزة هي التي ترفع الرأس أو تُبقيه مرفوعًا ولا ترفع الرّاية البيضاء، ترفع السّلاح بوجه المحتلّ ولا تسلّم له، ولهذا قاتلت غزة بلحمها ولم تستسلم، وكانت مستعدة كلها أن تستشهد.

وغزة ثانيًا تعني المنَعة، والمنَعة هي المناعة المانعة، المنيعة المُمانعة، العاصية على الحصار والخراب والدّمار، ولهذا صمدت محاصرة 18 عامًا منذ العام 2007 حتى الآن.

وغزة ثالثًا تعني القوّة، والقوّة هي المقاوَمة للاحتلال، التي قاومت وما تزال وستبقى بكل ما أوتيت مذ وجدت غزة وسُكِنَت وعصَت على الغزاة.

وغزّة رابعًا تعني الشدّة التي تصبر عليها إلى حين زوالها، وما من شدّة مرّت على شعب أشدّ من هذه الحرب التي حمَلتها غزة وتحمّلتها وحدَها باللحم والدّم وكلّ ما تملك ولا تملك ولم تبدّل تبديلا.

على الرّغم من أنّ ٱسمها تبدّل أو تعدّل دون أن يتغيّر بتبدّل الذين عبَروها أو استوطنوها بدءًا من الكنعانيين – الذين نقل ابن خلدون “أنهم من العرب البائدة” – مرورًا بقدامى المصريين الفراعنة، إلى العرب السائدة، الذين أسمَوها “غزّةَ هاشم” بن عبد مناف الذي مات فيها أثناء عبورها بتجارته نحو مكّة (524 .م) وصولاً إلى سيطرة الأتراك الذين أسقطوا منها “هاشمَ” العربيّ القرشيّ ولم تسقط عروبتُها.

إقرأ على موقع 180  من أوكرانيا إلى غزة.. حرب واحدة بجبهات متعددة! 

بعد مشكلة الإسرائيلي مع ٱسمها، مشكلته مع تاريخها الذي يحاول تزويره، ولأنّ غزة من أقدم المدن في العالم فقد عُرِفَت بأنها “بنت الأجيال” فجيلها الأول وسكّناه فيها يعود إلى 3000 سنة ق.م، كما يؤكد عالم الآثار البريطاني “السير فلندرس بتري” بقوله “إنّ غزّة أنشئت قبل الميلاد بثلاثة آلاف عام”. وكلما خُرِّبت عادت وعُمِرت، حتى الإسكندر الأكبر خرّبها عندما دخلها عام 332 ق.م بعد حصار شديد كما فعل نتنياهو اليوم، وكما يؤكد المُؤرِّخون فإنّ أوّل من بناها، واستوطنَها هم العرب المعينيّون، أمّا أوّل من سكنَها فهم العرب الكنعانيّون خلال الألف الثالثة قَبل الميلاد، وإليهم نُسِبت أرض كنعان (فلسطين).

نعم فلسطين التي أعادتها غزة بدمها ولحمها إلى العالميّة لتبقى الهويّة، وتحيا القضية، وتُبعَث حية، بعد طوفان “الاتّفاقات الإبراهيميّة” السابقة واللاحقة قبل “طوفان الأقصى” وبدونه، الاتّفاقات التي كانت عليها أخطر من اتفاقات أوسلو، وقد تعود مع عودة ترامب لكن في مناخ من “العولمة” الفلسطينية يؤرّخ لحقبة جديدة من تاريخ فلسطين هذه المرة بدم وتاريخ غزّة التي وصفها المستشرق الأميركي “ريتشارد غوتهيل” في مقدمة كتاب صدر عام 1907 بأنّها “مدينة مثيرة للمهتمّ بدراسة التاريخ”.

تاريخ هوية يقول إنّ غزّة قبل الدعوة الإسلامية كانت تجُوبها قوافل العرب، ثمّ كانت أوّل مدينة فلسطينية تفتحها الجيوش الإسلامية عام 635 م. وتاريخ مقاومة يقول إن الصّليبيّين احتلّوها عام 1099م، وعاثوا فيها تدميرًا وخرابًا، على غرار الاسكندر ونتنياهو، وحكَموها بالحديد والنّار نحو ثمانية عقود دون جدوى، ليستعيدَها صلاحُ الدّين الأيّوبي في معركة حِطّين عام 1187م، ويستولي عليها العثمانيّون من المماليك أربعةَ قرون (1516- 1917)، يومَ احتلَّتها بريطانيا في الحرب العالمية الأولى، لتنطلقَ فيها مقاوَماتٌ للاحتلال الانكليزي حتى عام 1967 عندما وقعت تحت الاحتلال الإسرائيلي وبلغت فيها تلك المقاوَمات – خلال السّنوات الثلاث الأولى – عنوانَ تحقيق صحيفة “صاندي تايمز” البريطانيّة عام 1969م: “غزّة في اللّيل للفدائيّين”. ويومَها شهِدت فلسطين 971 اشتباكًا مع الاحتلال، 730 منها في غزّة وحدها كما تؤكّد دراسة زكريا العثامنة “المقاومة المسلّحة في قطاع غزة (1967 – 1974)”.

أما اليوم فقد يكون الأمرُ مجردَ هدنة مؤقتة أو طويلة، لكنّها بالتأكيد لن تكون وقفًا نهائيًّا لإطلاق النار، وهذا هو الأرجح إسرائيليًّا وفلسطينيًّا. إسرائيليًّا لأنه عدوّ تقول توراته وتاريخه أنه لا يؤمَن جانبُه، ولأن نتنياهو يتطلّب استمرار وجوده السّياسيّ تحويلَ الصّفقة من “هزيمة إستراتيجيّة” إلى “خسارة تكتيكيّة”، وفلسطينيًّا لأنّ وقفه الأبديّ يُميت القضيّة، ولا بدّ من مقاومةٍ تُخرِج الاحتلالَ كما أخرجته من قبل بٱنتفاضتين: الأولى “ٱنتفاضة الحجارة” عام 1987م، والثانية “ٱنتفاضة الأقصى” عام 2000م، التي أدّت إلى الانسحاب الإسرائيلي من غزّة عام 2005. لكنه لم يكن كافيًا للاحتلال كي يفهم يومَها عقدة غزّة، فحوّل الإنسحاب إلى أربع حروب على غزّة: “الرصاص المصبوب” (2008)؛ “عامود السّحاب” (2012)؛ “الجرف الصامد” (2014)؛ و”السّيوف الحديديّة” (2023).

حروبٌ إسرائيليةٌ بمسمَّياتٍ تلموديةٍ شتّى، تُجدّد التراجيديا الفلسطينية على حين غَرّة، لكن غزة بأضحياتها تحيلها ملحمةً مفتوحةً حتى الشهادة حدَّ الطوفان.

بعد “طوفان الأقصى” الفلسطيني الذي اخترق “غلاف غزّة” بمفاعيلَ وجوديةٍ أبعد من الصواريخ البالستية الفرط صوتية، كان المطلوب: بقاء المقاومة، وإنهاء العدوان، واليوم بقيت المقاومة وأُوقف العدوان وانتصرت غزّة بصمودها الأسطوري، شعبًا ومقاومةً، لتبقى درّةَ التّاج الفلسطينيّ، وأيقونةَ مقاومتِه.. أمّا غُزاتها فلهم شتاتهم الذي منه أتَوها وإليه يعودون.

في كتابه “مكان تحت الشمس”، يروي بنيامين نتنياهو حوارًا بينه وبين عجوز فلسطينيّ من مخيّم “جباليا؛ يسأله نتنياهو: من أين أنت؟ فيجيبه: من المجدل فيسأله نتنياهو: هل ستعود إلى المجدل؟ يجيبه الفلسطيني: إن شاء الله يَحلّ السّلام ونعود إلى المجدل. يقول نتنياهو: “إن شاء الله يَحلّ السّلام، وأنت تزور المجدل ونحن نزور جباليا”، فيردّ الفلسطيني: “نحن نعود إلى المجدل وأنتم تعودون إلى بولندا”. انتهى الحوار.

Print Friendly, PDF & Email
غالب سرحان

كاتب لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  تتغيّر الألقاب.. ويبقى الإسم ثابتاً