أمريكا في مواجهة المهاجرين أم في مواجهة.. نفسها؟

98,5 % من الشعب الأمريكي هم من المهاجرين، جاؤوا تباعاً، بدءاً من سنة 1620 (أي منذ حوالي 400 سنة)، والأكثريّة الكبرى منهم وصلت في آخر 175 سنة، ومعظمهم بلا تأشيرة دخول مسبقة. فلماذا إذاً كل هذا الضجيج حول المهاجرين "غير الشرعيّين"؟

بغضّ النظر عن حقيقة أنّ المهاجرين، شرعيّين كانوا أم غير شرعيّين، هم ضرورة للمجتمع الأمريكي، وأنّ هؤلاء هم العمود الفقري لقطاعات مثل الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات والتعليم والطبابة والأبحاث والبناء والرياضة والسينما وشركات التكنولوجيا والسوشال ميديا إلخ.. ولولا هؤلاء المهاجرين لكان الاقتصاد الأمريكي (والامبريالي) يواجه صعوبات ضخمة تودي به إلى الانهيار.

وبغضّ النظر عن أنّه حتّى الجيش الأمريكي استفاد ويستفيد من المهاجرين، شرعيّين أم غير شرعيّين، لتجنيدهم في الرتب الدنيا (طبعاً مع وعود بـ”الغرين كارد” والجنسيّة)، ولولا ذلك لكان يواجه مشاكل كبيرة في فرض غطرسته في كل أرجاء المعمورة.

وبغضّ النظر عن أنّ هذه الحقيقة واضحة للعيان، يبقى الإستثمار بموضوع المهاجرين “غير الشرعيّين” والتضييق على الشرعيّين منهم من الأمور التي تستقطب إهتمام معظم الأمريكيّين وتؤجّج الكره للأجانب، وتحديداً أولئك الذين يسهل إضطهادهم لأنّ الصورة النمطيّة للمهاجر غير الشرعي تنطبق عليهم بسبب شكلهم أو لون بشرتهم.

هذا الأمر ليس بجديد في تاريخ أمريكا. الخوف من المهاجرين كان دائماً من الإستراتيجيّات التي استخدمها سياسيّون وغيرُ سياسيّين من أجل زيادة نفوذهم وتأمين مصالحهم أو طلباً للشهرة. مثلاً، مع وصول عشرات الآلاف من الإيرلنديّين إلى أمريكا بين سنتي 1845 و1852 (نتيجة للمجاعة التي حصلت في إيرلندا بسبب تلف محاصيل البطاطا)، راج الكره لهم والتخويف منهم والمطالبة بترحيلهم. وحصل الأمر نفسه مع الإيطاليّين في ما بعد، ومع اليهود، وطبعاً مع السود، واليابانيّين، والفيتناميّين، والصينيّين، والمهاجرين من أمريكا الوسطى، وكذا مع العرب إلخ..

والملفت للانتباه والمثير للإشمئزاز في الوقت نفسه هو أن معظم الذين تعرّضوا لهذا النوع من الإضطهاد أصبحوا مع الوقت أبواق كره وشائعات بغيضة تجاه الذين جاؤوا من بعدهم. عملياً، انتقلوا من خانة المُضّطَهَدين إلى خانة المُضّطَهِدين (وهذا ليس خطأ اللغة العربيّة التي تُغيّر الأدوار بتغيّير الحركات فقط)!

***

الضجّة التي تُثار في موضوع المهاجرين ليست بجديدة. هي عبارة عن حلقة أخرى من مسلسل الإستغلال والإذلال الذي يجب على كل من يأتي إلى القارة الأمريكية أن يتجرّعه. لكن هذه المرّة، يُعرض هذا المسلسل على مرأى من العالم بأسره، ويُولّد ردّات فعل ستضرّ بصورة أمريكا وستزيد منسوب الكره لها

الهجرة إلى أمريكا (مثل الهجرة إلى أوستراليا وكندا وأمريكا الوسطى والجنوبيّة وبعض مناطق أفريقيا) بدأت كجزء من مشروع استعماري هدفه الإستيلاء على أراضي الغير واضطّهاد شعوبها الأصليّة واستغلال ثرواتها. وبسبب ضخامة جغرافية الولايات المتّحدة وأطماعها الإمبرياليّة، فهي تحتاج دائماً – كمصاص الدماء “الدراكولا”؛ (مأخوذة من كلمة draco والتي تعني وحش التنيّن) – إلى “دماء” جديدة (أي المهاجرون)، والهدف هو من دون شكّ إستقطابهم وتحويلهم إلى مصّاصي دماء.

إذاً، ما يحصل الآن مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض له سياقه التاريخي وليس أمراً مفاجئاً.. لذا نشهد حملة إعلامية محمومة لترحيل “المجرمين” الذين دخلوا أمريكا بطرق غير شرعيّة والتضييق على بعض أنواع المهاجرين الشرعيّين (التهديد بسحب الجنسيّة منهم أو عدم تمديد إقامتهم، رفض أو تقليص عدد التأشيرات لطالبي الهجرة أو العمل في أمريكا، إلخ).

وجرت العادة أنّ مزاعم ترامب غالباً ما تكون تضخيماً للواقع أو فضحاً لما تقوم به الأجهزة الأمريكيّة في السرّ، بدليل أنّ معظم الإعلام الأمريكي الذي يُركّز اليوم على هذا الموضوع ليس همّه الدفاع عن المهاجرين بل مشاكسة ترامب. فعندما تُسلّط وسائل الإعلام الضوء، مثلاً، على مواجهة ترامب مع رئيس كولومبيا، فهي لا تقول لنا أنّه في زمن جو بايدن، قامت أمريكا بتسيير 475 رحلة ترحيل مهاجرين إلى كولومبيا، ولم يتطرّق الإعلام الإمريكي (ولا العالمي) لهذا الموضوع أبداً، ولم يعترض الرئيس الكولومبي (مع الإحترام الشديد له) على أيّ من تلك الرحلات أو طالب بإيقافها.

إذاً، ثمة استنسابيّة في تعاطي الإعلام الأمريكي بخاصة والمجتمع الأمريكي عامّةً مع موضوع المهاجرين، وبالتالي يُخفي هذا الاستغلال الاستنسابي أجندة خبيثة. هناك طبعاً مجموعات تدافع عن المهاجرين وتساعدهم بكل الوسائل المتاحة، لكن يتبدى ضعفهم بوضوح عندما تُقرّر السلطات الفدراليّة أخذ الأمور إلى العلن وعندما تمتنع المحاكم عن التدخّل في الموضوع.. وصولاً إلى الترحيل أو التلويح به كما هو حاصل مع توقيع ترامب القرار القاضي بترحيل كل متضامن مع حركة حماس!

***

إذا قرّرنا الخوض في تفاصيل مجتمع المعارضين للمهاجرين نجده متشعّباً ومعقّداً، بحيث أنّه من المستحيل تقسيمه إلى: مع أو ضدّ. لنأخذ مثلاً إيلون ماسك (Elon Musk) وفيفيك راماسوامي (Vivek Ramaswamy) وغيرهم من الأغنياء المناصرين لترامب، خصوصاً في عالم التكنولوجيا والذكاء الإصطناعي، والذين يعتبرون أنّ مجالاتهم لا يمكن أن تستمرّ وتتطوّر وتنافس من دون المهاجرين من أصحاب الكفاءات. ونجد مقابل هؤلاء شريحة من الأثرياء الغوغائيّين المؤيّدين لترامب، ممن يُطالبون بالتوقّف عن إعطاء تأشيرات عمل معروفة بالـ H1B والإعتماد على الكفاءات المحليّة. الأمر نفسه ينطبق على أصحاب شركات الزراعة العملاقة والمزارعين الكبار ومربيّ الماشية والدواجن (وأكثرهم من مناصري ترامب) الذين يعتمدون على العمالة الرخيصة التي يؤمّنها المهاجرون غير الشرعيّين، بينما هناك من يريد التخلّص منهم. إذاً، داخل معسكر ترامب، نجد خلافاً محموماً حول التعامل مع قضية المهاجرين، وما يجري أكثره عبارة عن عراضات يريد ترامب من خلالها الظهور بمظهر البطل القومي الأول الذي يتبنى شعار “أمريكا أولاً”!

إقرأ على موقع 180  حسابات أخرى في عام الجائحة

وليس مستغرباً أنّ موضوع المهاجرين كان من أهمّ الأمور التي شغلت بال الناخبين في الإنتخابات الرئاسية الأخيرة والتي أدّت إلى فوز ترامب بنسبة أصوات شكّلت هزيمة قاسية للحزب الديموقراطي. والملفت للنظر أنّ 56% من الرجال (من كل الفئات العرقيّة) تحت عمر الـ30 سنة صوّتوا لترامب، وهو أمرٌ غير مسبوق، والسبب الرئيسي لذلك يتعلّق مباشرةً بموضوع الهجرة وتشعّباته (خصوصاً إزدياد نسب البطالة والجريمة التي عادةً ما تُنسب إلى المهاجرين، بغضّ النظر عمّا إذا كان ذلك صحيحاً أم لا).

***

نحن أمام تطور خطير ومقلق في المجتمع الأمريكي. فمن الأمور التي يطالب بها ترامب وكثير من مناصريه هو عدم إعطاء أطفال المهاجرين أو الزائرين الجنسيّة إذا ما ولّدوا في أمريكا، وسحب الجنسيّة من المجنّسين في حال ارتكابهم جرائم معينة؛ ولعل بيت القصيد هو في كيفيّة تعريف “الجرائم” والأعمال التي على أساسها يُصنّف البعض بأنهم “أعداء أمريكا”. هنا، يُمكن التحايل على التشريعات والقوانين الأمريكية. مثلاً؛ حقّ الجنسيّة للمولودين في أمريكا مبنيٌ على التعديل الرابع عشر للدستور الأمريكي (تمّ اعتماده في 9 تمّوز/يوليو سنة 1868) والذي جاء خصّيصاً لمعالجة رفض الكثير من الولايات إعطاء الجنسيّة للسود وتعطيل حكم المحكمة العليا في سنة 1857 (المعروف بقضيّة دريد سكوت – Dred Scott Case) بأنّ السود ليسوا مواطنين أمريكيّين ولا يحقّ لهم الحصول على الحماية من الدولة أو القضاء.

إذاً، التعديل الرابع عشر للدستور الأمريكي كان هدفه إنهاء ذلك الغبن. وكون أغلبيّة أعضاء المحكمة العليا الحاليّين مقتنعين بأنّ تفسير الدستور يجب أن يُحصر بنيّة المشرّع وليس بأيّ عامل آخر، يمكنهم أن يحكموا أنّ نيّة التعديل الرابع عشر هو إعطاء الجنسيّة للسود فقط وأنّه لا ينطبق على غيرهم من المجموعات (وعلينا أن لا ننسى أنّ التحايل على القانون هو في صلب تصرّف الدول التي تتشدّق بأنّها تتبع القانون).

لكن في الوقت نفسه، إنّ صدور قرار من هذا النوع سيصيب المجتمع الأمريكي بمقتل لأنّه من دون المهاجرين ستفقد أمريكا كلّ “بريقها” و”عظمتها”، وهذا ليس بخفي على أهل السياسة فيها.

***

في الخلاصة، الضجّة التي تُثار في موضوع المهاجرين ليست بجديدة. هي عبارة عن حلقة أخرى من مسلسل الإستغلال والإذلال الذي يجب على كل من يأتي إلى القارة الأمريكية أن يتجرّعه. لكن هذه المرّة، يُعرض هذا المسلسل على مرأى من العالم بأسره، ويُولّد ردّات فعل ستضرّ بصورة أمريكا وستزيد منسوب الكره لها.. وربّ ضارّة (لأمريكا) نافعة (للعالم).

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  وا عاصياه، وا منصوراه.. وا فيروزاه!