

صمتٌ يلفُّ المكان، والريحُ تولول كأنها تنوحُ على أسرارٍ دفينة؛ على أحاديث لم تُكمَل؛ على خطواتٍ كانت تسيرُ هنا يومًا ثم غابت.
أقترب من القبر بخطًى مترددة، كأنني أخشى أن أوقظ سكونه الأبدي، وأتلمّسُ حروف الإسم المحفورة على الشاهد، أتحسّسها كما لو كنت أتحسس ملامحه للمرة الأخيرة.
الموتُ هنا ليس مجرد فكرة، بل هو حضور طاغٍ؛ هو رائحة الأرض الرطبة؛ هو الفراغ الممتد في العيون؛ هو صوت نبضي المتسارع كأنني أسمعُه للمرة الأولى. أجلسُ قرب المكان الذي يحتضنه، وأهمس: أأنت بخير هناك؟ لا إجابة.. إلا صوت سوى هسيس الريح وهي تعبر بين شواهد الموتى، تحملُ معها ما تبقى من حكاياتهم إلى العدم.
أسمع السؤال يرتدّ إليّ بصيغة مألوفة: أتمناك بخير.
ولكن أين هو الخير في هذا العالم؟الحب هو توقنا إلى الخلود، والموت هو إدراكنا بأن الخلود مستحيل، فنحب أكثر كلما وعينا فناءنا، ونموت شيئًا فشيئًا كلما تعمّقنا في الحب

ثم انفجرت بالبكاء.
الموت والحب.. وجهان لقصة واحدة.
قد يبدو الموت والحب نقيضين، لكنهما في جوهرهما امتدادٌ لبعضهما، كوجهي عملة واحدة، يحمل كلٌّ منهما الآخر في طيّاته. الحب هو توقنا إلى الخلود، والموت هو إدراكنا بأن الخلود مستحيل، فنحب أكثر كلما وعينا فناءنا، ونموت شيئًا فشيئًا كلما تعمّقنا في الحب.
يأتي الحب كضوءٍ يشقّ عتمة وجودنا، يمنحنا شعورًا زائفًا بالأبدية، فنشعر للحظة أن العدم قد هُزم، وأننا سنبقى في ذاكرة من نحب، لكن الموت يضحك في الخلفية، يذكّرنا أن كل شيء عابر، حتى أكثر المشاعر احتدامًا. وبرغم ذلك، لا يكفّ الإنسان عن الحب، كأننا نرغب في خداع الموت، في ترك أثر يتجاوزنا، ولو في قلب شخصٍ آخر.
الفلاسفة اختلفوا حول الموت والحب: أفلاطون رأى الحب صعودًا إلى عالم المثل، حيث الجمال الحقيقي لا يفنى، في حين أن هايدغر رأى أن وعينا بالموت هو ما يجعل لحياتنا معنى، وكأن كل لحظة حبٍّ هي محاولةٌ لهزم العدم القادم. أما نيتشه، فكان يرى أن الحب قوةٌ إرادية تسعى للحياة برغم الموت، لأن الحياة في جوهرها إرادة استمرار برغم زوال الأفراد.
لكن، ماذا لو كان الموت هو ذروة الحب؟ أليست أقصى درجات الحب هي الفناء في الآخر، والتلاشي حدّ الذوبان؟ ربما لهذا تزداد الأحزان عند فراق الأحبة، لأن الحب يجعل الموت أشدّ وطأة، والموت يجعل الحب أعمق ألمًا.
في النهاية، لا حبّ بلا فناء، ولا فناء بلا حب، فنحن نموت حين نحب، ونحب لأننا نعلم أننا سنموت.
(*) نص من وحي أول زيارة لي إلى الجنوب اللبناني، بعد انتهاء حرب لم تنتهِ بعد.