الدين والحروب.. شرعية العنف تحت راية المقدس

منذ فجر التاريخ، شكّل الدين ركنًا أساسيًا في تشكيل الهويات الجماعية، وكان له دور بارز في توجيه السلوك الإنساني، سواء في تعزيز قيم السلام أو في تأجيج الصراعات. لم يكن الدين في معزل عن السياسة، بل كان أحد أقوى الأدوات التي استخدمت عبر العصور لحشد الجماهير وإضفاء الشرعية على الحروب، حتى تلك التي لم تكن دوافعها دينية خالصة.

سواء في الحروب القديمة أو الحديثة، كان للدين دوره في الصراعات المسلحة، حيث استُخدم لتبرير الفتوحات والغزوات، ولتحفيز المقاتلين على التضحية، وأحيانًا لإضفاء طابع “الواجب المقدس” على القتال. ومع تقدم الزمن، ومع دخول العالم في عصور الحداثة، لم يختفِ هذا التوظيف، بل أعيد تشكيله ليواكب التحولات السياسية والاجتماعية، وليستمر الدين كعامل حاسم في العديد من الصراعات التي شهدها العالم.

الدين.. والحروب قديماً

لم تكن الحروب في الحضارات القديمة مجرد نزاعات على السلطة والثروات، بل كانت ذات طابع ديني في كثير من الأحيان. في مصر القديمة، كان الفراعنة يُعتبرون أبناء للآلهة، وكانت حروبهم تهدف إلى تنفيذ إرادة هذه الآلهة على الأرض. كانت المعارك ضد الأعداء تُصوَّر في النقوش والجداريات على أنها حروب مقدسة لحماية الأرض من الفوضى، التي كان يُعتقد أنها تمثل تهديدًا للنظام الإلهي.

في بابل وأشور، كانت الحروب تُشنّ باسم الإله مردوخ أو آشور، حيث اعتبر الملوك أن انتصاراتهم هي تنفيذ للإرادة الإلهية. لدى الإغريق، لعب الدين دورًا أساسيًا في الحروب، حيث كان المقاتلون يستلهمون الشجاعة من الآلهة، وكانت المعابد تُقدَّم لها القرابين قبل المعارك. الحرب الطروادية، كما صوّرها هوميروس في “الإلياذة”، لم تكن مجرد حرب بين البشر، بل كانت ساحة لصراعات بين الآلهة أيضًا.

أما في الديانة اليهودية، فقد تكرّرت فكرة “الحرب المقدسة”، حيث ارتبطت بعض الحروب في العهد القديم بإرادة إلهية لتوسيع رقعة “الأرض الموعودة”، وهو ما عكس البعد الديني للحروب في ذلك الزمن والمستمرة إلى الحرب الاخيرة على لبنان وغزة والتوسع باتجاه جنوب سوريا.

الحروب الصليبية والفتوحات الإسلامية

مع انتشار المسيحية والإسلام، أصبح للدين دور أكبر في الحروب التي خاضتها الإمبراطوريات والدول. في أوروبا، كانت الحروب الصليبية أبرز مثال على تداخل الدين مع العسكرة، حيث دعا البابا أوربان الثاني عام 1095 إلى حملة عسكرية لاستعادة القدس من المسلمين، مستخدمًا خطابًا دينيًا يحفز الجنود على القتال بوصفه “حربًا مقدسة”.

في العالم الإسلامي، لم تكن الفتوحات مجرد حروب توسعية، بل ارتبطت بالدين في كثير من الأحيان، حيث كان الجهاد يُستخدم كوسيلة لحشد الجيوش وتبرير القتال. ومع تصاعد الخلافات داخل الدولة الإسلامية، ظهر توظيف جديد للدين في النزاعات بين المسلمين أنفسهم، كما في الصراعات بين السنة والشيعة التي استمرت عبر التاريخ حتى اليوم.

على الرغم من أن الدين كان عاملًا رئيسيًا في العديد من الحروب، إلا أنه كان أيضًا مصدرًا للإلهام في حركات السلام والمصالحة. فالمسيحية، الإسلام، واليهودية، وغيرها من الأديان تدعو في جوهرها إلى قيم الرحمة والتسامح، لكن التفسير السياسي لهذه النصوص كان السبب في انحرافها نحو العنف

الحروب الدينية في أوروبا

لم يكن استخدام الدين في الحروب مقتصرًا على الصراع بين المسلمين والمسيحيين، بل شهدت أوروبا نفسها سلسلة من الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت، وبخاصة بعد حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر. اندلعت حرب الثلاثين عامًا (1618-1648) بين الدول الأوروبية تحت رايات دينية، لكنها كانت في جوهرها صراعًا على النفوذ والسلطة، مما يعكس كيف كان الدين يُستخدم أحيانًا كغطاء لمصالح سياسية واقتصادية.

الدين أداة للشرعية السياسية

مع دخول العالم في العصور الحديثة، لم يختفِ توظيف الدين في الصراعات، بل استمر بأشكال جديدة. ففي القرن العشرين، استخدم النازيون رموزًا دينية لتبرير نظرياتهم حول العرق، وادعى بعض قادتهم أن سياساتهم تتماشى مع “الإرادة الإلهية”.

في الشرق الأوسط، ظلّ الدين يلعب دورًا رئيسيًا في النزاعات، بدءًا من الحرب العراقية-الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي، حيث استخدم الطرفان الخطاب الديني لحشد الدعم، وصولًا إلى الغزو الأميركي للعراق عام 2003، الذي رافقته خطابات دينية تبريرية من بعض القادة الأميركيين، بحجة “تحرير العراق” وإحلال “السلام الإلهي”.

الدين في خدمة العنف المسلح

في العقود الأخيرة، شهد العالم ظهور جماعات متطرفة استغلت الدين لتبرير الإرهاب، مثل تنظيمي “القاعدة” و”داعش” اللذين قاما بتوظيف النصوص الدينية خارج سياقها لتبرير عملياتهم القتالية. هذه الجماعات لم تكن أول من يستخدم الدين بهذه الطريقة، لكنها قدمت نموذجًا متطرفًا لاستغلال العقيدة في نشر العنف.

من ناحية أخرى، لم يكن الإسلام وحده المستهدف بهذا التوظيف، فهناك جماعات مسيحية متطرفة في الولايات المتحدة وأوروبا، وكذلك جماعات يهودية متطرفة في إسرائيل، تستخدم الدين لتبرير سياسات التوسع والعنف ضد الآخرين.

الدين أداة للنفوذ السياسي

في العديد من الدول، أصبح الدين أداة رئيسية للصراع السياسي. في الهند، تصاعدت حدة العنف بين الهندوس والمسلمين، حيث تستخدم الجماعات الهندوسية المتشددة الدين لتعزيز القومية الهندوسية وإقصاء الأقليات.

في لبنان، ظلّ الانقسام الطائفي سببًا رئيسيًا للتوترات، حيث تُستخدم الطوائف والمذاهب كأدوات لتوزيع السلطة وتقاسم النفوذ.

إقرأ على موقع 180  لبنان و"لعبة العنف".. وحكايا أولاد القهر!

أما في إفريقيا، فقد شهدت دول مثل نيجيريا صراعات طائفية بين المسيحيين والمسلمين، حيث تُستغل الانقسامات الدينية لتبرير العنف السياسي والاجتماعي.

من الأمثلة الحية على توظيف الدين في النزاعات الحديثة ما يحدث حالياً في سوريا، حيث استُخدم الخطاب الديني من قبل مختلف الأطراف المتصارعة لتبرير القتل والتدمير. فقد شهدت البلاد مجازر وحروبًا طائفية مروعة، آخرها في الساحل السوري حيث ارتكبت المجاز بحق السوريين من الطائفتين العلوية والمسيحية، وسُخّرت الرموز والشعارات الدينية لحشد المؤيدين وتحريض المقاتلين ضد خصومهم. كما استخدمت بعض الفصائل المسلحة الدين أداة لتعبئة الشباب وتحفيزهم على الانخراط في القتال، بينما لجأت أطراف أخرى إلى تسويق الصراع على أنه دفاع عن المعتقدات الدينية. وفي الوقت نفسه، استغلت بعض القوى الإقليمية والدولية هذا التوظيف الديني لتعزيز نفوذها السياسي والعسكري داخل البلاد، مما أدى إلى تعقيد الأزمة وإطالة أمدها.

هل يمكن تحييد الدين عن الحروب؟

على الرغم من أن الدين كان عاملًا رئيسيًا في العديد من الحروب، إلا أنه كان أيضًا مصدرًا للإلهام في حركات السلام والمصالحة. فالمسيحية، الإسلام، واليهودية، وغيرها من الأديان تدعو في جوهرها إلى قيم الرحمة والتسامح، لكن التفسير السياسي لهذه النصوص كان السبب في انحرافها نحو العنف.

في عالم اليوم، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن تحييد الدين عن النزاعات؟

الواقع يقول إن الأمر ليس سهلًا، وبخاصة أن الدين ما يزال أحد أقوى الأدوات في التعبئة الجماهيرية، لكن من الممكن تحقيق ذلك من خلال فصل الدين عن السياسة، وتعزيز قيم التسامح الديني، ونشر التفسيرات الدينية التي تحض على السلم بدلاً من العنف.

إذا كان التاريخ قد أثبت أن الدين قد استُخدم كأداة للحرب، فإن المستقبل يعتمد على كيفية استخدامه كجسر للحوار والتعايش، بدلاً من أن يكون وقودًا للنزاعات والصراعات.

Print Friendly, PDF & Email
داود رمال

صحافي لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  ما بعد اغتيال "السيّد".. إيران هي هدف نتنياهو!