عوض تركيز الجهود السياسية على إنجاح المبادرة الفرنسية وتشكيل حكومة “مهمة” تحاول التخفيف من سرعة الإنهيار الاقتصادي والمالي والمعيشي، بأي شكل من الأشكال، إتخذ النقاش بعداً سياسياً وميثاقياً وطائفياً، مما جعل العديد من المراقبين والقوى السياسية يطالبون بالعودة إلى محاضر اتفاق الطائف لحسم الجدل حول مبدأ تخصيص وزارة المالية للطائفة الشيعية. كما ابرز هذا النقاش أهمية نشر محاضر جلسات إتفاق الطائف والافصاح عن مداولات اجتماعات اللجان النيابية والوزارية واجتماعات الهيئة العامة للمجلس النيابي والحكومة كحق أساسي يساعد بتعزيز الشفافية والمساءلة.
إن موضوع تخصيص حقيبة وزارة المالية للطائفة الشيعية هدفه تثبيت توازن التمثيل الطائفي بين المجموعات الطائفية الثلاث الكبرى في السلطة التنفيذية خصوصاً في ظل إقتران توقيع وزير المال على معظم المراسيم التي تتضمن التزامات مالية، لكأننا نعيد تعريف مفهوم التوازن الطائفي بحيث يجب تأمينه افقياً وعامودياً، في الوقت نفسه، أي ليس بين الرئاسات الثلاث (رؤساء الجمهورية ومجلس الوزراء ومجلس النواب) وحسب ولكن داخل مراكز السلطة التنفيذية ايضاً.
هنا، ينبغي التذكير ان إتفاق الطائف اتى نتيجة مداولات واجتماعات بين نواب منتخبين عام ١٩٧٢ ومُمدد لهم بسبب الحرب اللبنانية ابتداء من العام ١٩٧٦، ولكن مع تطور الحرب اللبنانية، لم يعد لمعظم هؤلاء النواب أي تمثيل او ثقل سياسي يذكر خصوصاً بعد ان هيمنت الميليشيات على الحيز العام مقتلعة مراكز القوى التقليدية في المركز والأطراف. أما من تبقى على قيد الحياة من مجلس نواب عام ١٩٧٢، فقد مثّل في الطائف، وقتذاك، طروحات وأفكار وأوراق عرضت بمعظمها من قبل القوى السياسية المستجدة بفعل الحرب الاهلية، كما نوقشت سابقاً في اجتماعات ومؤتمرات خصصت لإيجاد حلول للازمة اللبنانية. ومثال على ذلك الأفكار التي تمت مناقشتها في مؤتمر جنيف في العام ١٩٨٣ وفي لوزان في العام ١٩٨٤ وبالإضافة إلى أفكار أخرى مثل البرنامج المرحلي للحركة الوطنية عام ١٩٧٥ والورقة الدستورية التي تم وضعها في العام ١٩٧٦ومذكرة الهيئة العليا للطائفة الدرزية عام ١٩٨٣ بالإضافة إلى الاتفاق الثلاثي الذي تم توقيعه في العام ١٩٨٥ من قبل القوى العسكرية الثلاث الكبرى آنذاك: القوات اللبنانية، حركة امل والحزب التقدمي الاشتراكي.
يبدو أننا انتقلنا الى استحالة الشروع بهذه الورشة الدستورية في ظل هذا التلاشي المتدرج لسيادة الدولة وتفككها في معظم مفاصل حياة اللبنانيين بدءاً بعدم حصرية استخدام السلاح عند الدولة وصولاً الى تلزيم التقديمات الاجتماعية واعادة اعمار بيروت إلى القطاع الاهلي والمنظمات الدولية
لقد تمت صياغة وثيقة الوفاق الوطني او اتفاق الطائف بمنهجية إيجاد قواسم مشتركة بين مختلف الأوراق والمذكرات والافكار التي تقدمت بها قوى سياسية ومجموعات طائفية منذ اندلاع الحرب عام ١٩٧٥. لذلك، كان من المرجح والمنطقي ان يحمل هؤلاء النواب معهم إلى مدينة الطائف مطالب قوى الامر الواقع ومنها مبدأ تخصيص وزارة المالية للطائفة الشيعية كما يمكن ان يكون قد طرح مبدأ تخصيص رئاسة مجلس الشيوخ للطائفة الدرزية. ولكن من المؤكد أن هذه الاقتراحات لم تتبلور ولم يتم الأخذ بها خلال صياغة النص النهائي لاتفاق الطائف الذي شكّل صيغة تسوية بين جميع الأفكار والطروحات المختلفة.
بالتوازي مع النقاش حول محاضر الطائف في مرحلة التأليف الحكومي، شدّد كثيرون على احترام الدستور والالتزام به كآلية واضحة لإدارة الحكم في لبنان. فتشكيل حكومة “المهمة” المبتغاة يستوجب الاحتكام إلى الدستور الذي أعطى الحق للرئيس المكلف بإعداد تشكيلة حكومته بالتشاور مع رئيس الجمهورية. هكذا قدّر البعض انه كان باستطاعة رئيس الحكومة المكلف السابق إعداد تشكيلة حكومية إنقاذية مصغرة وخلال مدة زمنية قصيرة جداً لم يعهدها لبنان منذ خروج الجيش السوري ومن دون التشاور مع القوى السياسية والكتل النيابية، كما جرت العادة منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في شباط/فبراير ٢٠٠٥.
إن هذا الامتثال الى الدستور اليوم، لو حصل، يتناقض بشكل كبير مع طريقة إدارة الشأن العام في السنوات الماضية والتي اتسمت بتجاوز الدستور وتعطيل المؤسسات وفرض اعراف جديدة على عمل المؤسسات الدستورية، خصوصا بعد مؤتمر الدوحة في العام ٢٠٠٨. فلم يُحترم الدستور مرات عديدة لناحية اعداد الموازنات والتصويت على قطع الحسابات ولا لناحية آلية انتخاب رئيس الجمهورية وتجاهل الانتخابات الفرعية في مرات عديدة مثلما حصل بعد اغتيال النائب أنطوان غانم او لناحية فرض ما سمي بالثلث المعطل او الثلث الضامن والموافقة على قرارات مجلس الوزراء بالإجماع.
كذلك، لم تعد اجتماعات مجلس الوزراء او اللجان النيابية هي المكان لمناقشة واعداد القوانين والخطط الاقتصادية. فاستعيض عن المؤسسات الدستورية باجتماعات للجان تمثل الأحزاب والقوى السياسية. لجان تفك العقد وتتفق بشكل غير رسمي قبل وضع نتائج توافقها على طاولة المؤسسات الدستورية التي اصبح دورها يقتصر على ابرام او التصديق على ما تم الاتفاق عليه.
اثبتت صعوبة محاولات تشكيل الحكومات المتعددة على مدار السنوات الماضية ان الازمة الفعلية في لبنان هي ازمة نظام. فتأليف حكومة في لبنان أصبح أمراً معقداً إلى درجة انه بحاجة لإجبار الرئيس الفرنسي على جعل إتصاله بالقوى السياسية من بين نشاطاته الروتينية اليومية. وهنا علينا الاعتراف بان النظام السياسي المبني على نظام تقاسم الحصص والذي تمت صيانته على مدى سنوات او عقود من خلال نظام تشاركي للريع او الغنائم أصبح على حافة الهلاك بعد ان تحولت الغنائم إلى خسائر وانتقلنا من مرحلة المنافسة في توزيع الغنائم إلى مرحلة الاختلاف حول توزيع أعباء الخسائر الناجمة عن انهيار النموذج الاقتصادي والمالي اللبناني.
من حيث المبدأ، ليس الدستور كتاباً منزلاً، بل هو من صنع مشرّعين، وبالتالي، بحاجة إلى إعادة قراءة دورية من اجل تفعيل عمل المؤسسات وزيادة إنتاجيتها وبالحد الأدنى توضيح بعض بديهياته والمبادئ الواردة فيه ومنها ما جاء في مقدمته بأن لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك.
بإختصار، امست معضلة الحالة اللبنانية لا تختصر بالفشل في تأليف حكومة بمهمة إنقاذية ولا ترتبط فقط بمعالجة الهواجس من خلال فتح النقاش الدستوري على مصراعيه. يبدو اننا انتقلنا الى استحالة الشروع بهذه الورشة الدستورية في ظل هذا التلاشي المتدرج لسيادة الدولة وتفككها في معظم مفاصل حياة اللبنانيين بدءاً بعدم حصرية استخدام السلاح عند الدولة وصولاً الى تلزيم التقديمات الاجتماعية واعادة اعمار بيروت إلى القطاع الاهلي والمنظمات الدولية. هنا لا يعود نقاش الدستور نافعاً في ظل السقوط المتدرج نحو دولة فاشلة تضم عدة دويلات أكثر فشلاً! لربما حان الوقت للإجابة عن اسئلة وجودية حول شكل لبنان في المائة سنة القادمة.
-خليل جبارة، أستاذ الإقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت
-ناصر ياسين، أستاذ السياسات والتخطيط في الجامعة الأميركية في بيروت