ماذا عن “فراغ القوة” و”نزع السلاح” في بلاد الشام تاريخياً؟

"فراغ القوة" و"نزع السلاح". جُملتان مفتاحيتان بسيطتان جداً على اللسان، وفي الوقت ذاته عميقتان جداً وتُعبّران عما يختزنه الميدان العربي الملتهب والمتصدع وما تواجه المنطقة من تحديات ناجمة عن انهيار نظام وولادة نظام جديد في سوريا ووقف النار في كل من لبنان وغزة.

هما جُملتان أو يصح القول فيهما “نظريتان”؛ تملك كل واحدة منهما سندها التاريخي والجغرافي العميق ما يجعلهما مرشحتين لأن تكونا الأوفر حظاً والأكثر رواجاً في العقل البيروقراطي، شرقاً وغرباً. سياسات الدول ذات الوزن الاستراتيجي لا تنشأ من حسابات الرغبة. لها سياقها البيروقراطي. ألفباء الجيوسياسة. ربما تبدأ بجملة أو عنوان في تقرير يُرفع إلى مركز القرار ومن ثم يتحول هذا العنوان إلى فكرة ومن بعدها إلى حقيقة أو قوة أو إمكانية أو فرصة.

***

في عصر صدر الإسلام، فاضت الدعوة الإسلامية خارج حدود الجزيرة العربية. نحو العراق أولاً ثم الشام. فيضانٌ أعلن دخول هذه الجزيرة ساحة التنافس الدولي آنذاك. استندت الدعوة الاسلامية إلى جيش تجسّد في بناء معسكرين في مدينتي الكوفة والبصرة لما لهما من موقع استراتيجي متصل بالمنطقة كلها. هاتان المدينتان رفدتا الدعوة الإسلامية بالسلاح للمتطوعين من أبناء قبائل الجزيرة العربية للانخراط في المشروع الأممي الجديد.

استمرت مدينتا الكوفة والبصرة في لعب هذا الدور بالرغم من الصراع الأهلي في واقعتي الجمل ثم صفين. ولكن مع قيام الدولة الأموية استفادت السلطة في دمشق بداية من دور المعسكرين. ومع تحول السلطة في دمشق إلى دولة في ضوء تفاهمات سياسية صيغت مع القوى العظمى آنذاك، أصبح دور المدينتين متناقضاً مع النظام الإقليمي الجديد. عندها برز عنوان “نزع السلاح”. نجحت دمشق في نزع السلاح عن طريق إخضاع المدينتين لسلطتها المركزية. ويصف الكاتب العربي المخضرم ميشال نوفل العملية هذه بالموجة الأولى لفرض الاستقرار في التاريخ العربي، ذلك أن هذه العملية التي قامت على فكرة نزع السلاح انما جاءت بناء على سياسة الضرورة لبناء الدولة المتماهية مع النظام الإقليمي الجديد.

الموجة الثانية، بحسب ميشال نوفل، جاءت على أعتاب التحول الكبير الذي جرى في المنطقة مع سقوط الدولة الأموية وفراغ القوة الذي سكن بلاد الشام. أصبحت المدينتان المعسكران الملامستان للعاصمة العباسية في بغداد في موقع التنافس على السلطة الجديدة. ذهبت الدولة العباسية تبحث عن كيفية فرض الاستقرار تحت عنوان نزع السلاح. هي الموجة التي بدأت من داخل بغداد في حركة احتجاجية لم تخلُ من مواجهات وتوترات امتدت لأكثر من أربعين سنة. بداية من حكم الخليفة المأمون الذي وجد في نزع السلاح سياسة عامة للمحافظة على الإمبراطورية وصولاً إلى الخليفة المتوكل الذي قبل بالتحولات الإقليمية متصالحاً مع فكرة الاستقرار بالتراضي.

***

لم تصمد الدولة العباسية أمام الرياح الدولية ومتغيراتها بالرغم من طول عمرها واتساع مساحتها. كانت التحولات عميقة في رسم مصير المنطقة التي انتقلت في مسار تاريخها من دولة إلى أخرى. رافقت لعبة الأمم تلك عملية تدمير ممنهجة للجيوش العربية في المشرق. ما أدى الى انتقال مركز الثقل في الحراك العسكري العربي إلى منطقة شمال إفريقيا ثم إلى الأندلس. عندها دخلت بلاد الشام والرافدين في فراغ قوة متنقل بين دولة وأخرى إلى حين قيام السلطان العثماني سليم الأول بالدخول الى المنطقة بعد معركة مرج دابق ١٥١٦م. معلناً تحول بلاد الشام من ملعب إلى لاعب في لعبة الأمم وانتهاء رحلة فراغ القوة الذي سكن المنطقة في تلك الفترة.

قاد اتساع مساحة الدولة العثمانية وتنوع العرقيات والثقافات فيها الى فرض سياسات محددة. ولعل أهم تلك السياسات هي احتكار السلاح تحت أمرة الضابط العثماني مع إبقاء الإدارة المحلية بيد الولاة. فكانت الولاية تخضع لوصاية العسكر العثماني لأجل مهمتين لا ثالث لهما: جباية الضرائب ومنع التسلح.

يصح الاستنتاج أن تطور الاستراتيجية الأمريكية سيكون بالدرجة الأولى وليد تدحرج الأحداث في سوريا ولبنان وغزة. من خلال هذا التسلسل لا بد من تذكر الجملتين أعلاه: “فراغ القوة” و”نزع السلاح”.. من هذه الزاوية نستطيع فحص مآلات التحول الكبير لمنطقتنا التي تعيش على الأزمات وإدارتها بدلاً من حلها

باختصار كانت السمة الطاغية طيلة فترة العهد العثماني تتسم بملء فراغ القوة في بر الشام بالمحافظة على هيمنتها في البحار الأربعة: البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والبحر الأسود وبحر قزوين.

جرت محاولات لكسر القرار في ولايات معارضة للهيمنة العثمانية. صُنفت من قبل الباب العالي أي محاولة لاقتناء السلاح بحجة الدفاع عن طائفة بأنها تعبير عن تدخلات خارجية من دول الاستعمار الأوروبية بشؤون الدولة العثمانية. لعل أبرز تلك الحوادث هي حرب جبل لبنان والمجازر بحق المسيحيين في دمشق العام ١٨٦٠م. وقد عرض البرفسور يوجين روغن أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة أوكسفورد في كتابه الجديد “أحداث دمشق: مذبحة ١٨٦٠م وتدمير العالم العثماني القديم” تلك المرحلة بتفصيل جديد يستشف القارئ منها ان هذه الأحداث لها جذر يتخطى سياسة الدولة العثمانية وصولاً إلى فكرة نزع السلاح عموماً في منطقتنا عند ولادة نظام إقليمي جديد.

إقرأ على موقع 180  "فيلق السيادة".. والنوم في "التخت الأميركي"!

***

أدى سقوط الدولة العثمانية في بداية القرن العشرين المنصرم إلى بروز مصطلح “فراغ القوة” في المشرق من جديد. معها تحوّل بر الشام (سوريا) إلى ملعب دولي للتنافس بين القوى المتعددة.. تدخلات خارجية من الشرق والغرب فاقمت التناقضات في الإقليم. تمددت الحرب الباردة إلى منطقتنا مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وبدأ “فراغ القوة” يتقلص مع حرب قناة السويس عام ١٩٥٦م ثم مجيء حزب البعث الى السلطة عام ١٩٦٣م.

لطالما كانت بلاد الشام نقطة توتر إقليمي، حيث تمر عبرها العديد من خطوط الصدع الجيوسياسية. في ظاهرة عمّت منطقتنا منذ الغزو الأمريكي للعراق العام ٢٠٠٣م وما تلاه من انفلاش إيراني وتدخل تركي. ناهيك عن الاستغلال الإسرائيلي لانهيار المنظومة الإقليمية في حروبها الدموية المتكررة.

ربع قرن انقضى من القرن الحادي والعشرين وسيكتب عنه لاحقاً أن المنطقة حكمتها معادلة “فيلق القدس” و”العم سام” التي كانت تتأرجح بين التعاون والتشابك والاشتباك غير المباشر على ساحات التنافس الإقليمية. هو درسٌ عسكريٌ وسياسيٌ لظواهر جديدة في علوم الصراع الدولي.

لست أدري ما إذا كان من سوء أو حسن حظنا أننا شهود على لحظة سياسية معينة ومرحلة انتقالية تتبلور في خضمها قرارات وخرائط وسياسات مبنية على تقاطع مصالح وتحولات سياسية واقتصادية كبرى لا تعصف بالشرق الأوسط وحده بل بالعالم بأسره؛ تطوراتٌ لا بد وأن تُفرز مفردات ونظريات سياسية تحاكي الواقع المستجد من جهة والمستقبل الغامض للإقليم والعالم من جهة ثانية.

***

نزع السلاح إن شئنا قضية لها جذورها تاريخية. يمكن تتبع سيرتها من مدينتي الكوفة والبصرة في عصر صدر الإسلام؛ مروراً بجبل عامل في جنوب لبنان الذي هو دور سياسي في تاريخ المنطقة أكثر منه من مساحة عقارية في الجغرافيا، وصولاً إلى مدينة غزة التي لها من اسمها كل نصيب. لطالما كان القطاع معبراً للغزاة بين قارتي آسيا وأفريقيا عند سواحل البحر الأبيض المتوسط. أما “فراغ القوة” فهو مصطلح غربي يمكن تتبع سيرته منذ الاغتيال الشهير لقيصر روما يوليوس قيصر قبل الميلاد وانهيار الدولة الرومانية الذي أدخل قارة أوروبا في العصور المظلمة، وصولاً إلى لحظة سقوط نابليون حاكم فرنسا والعالم وخروج النفوذ الفرنسي-البريطاني من الشرق الأوسط بعد حرب قناة السويس عام ١٩٥٦م. وطبعاً لا يمكن القفز من فوق الغزو الأمريكي للعراق العام ٢٠٠٣.

في الختام، يصح القول إن العام ٢٠٢٤ هو عام التحول الكبير في الشرق الأوسط. ويصح القول أيضاً إن مستقبل المنطقة أصبح أكثر اعتماداً على تطوير “العم سام” استراتيجية شرق أوسطية بدلاً من العلاقة المتأرجحة بين إيران وأمريكا في العقود الأربعة الماضية.

وفي السياق نفسه، يصح الاستنتاج أن تطور الاستراتيجية الأمريكية سيكون بالدرجة الأولى وليد تدحرج الأحداث في سوريا ولبنان وغزة. من خلال هذا التسلسل لا بد من تذكر الجملتين أعلاه: “فراغ القوة” و”نزع السلاح”.. من هذه الزاوية نستطيع فحص مآلات التحول الكبير لمنطقتنا التي تعيش على الأزمات وإدارتها بدلاً من حلها.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
طارق زيدان

كاتب سعودي

Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  عندما تروي السجون حكايا سوريا.. والوحش!