

قبل الجمهوريون فى مجلس الشيوخ الذين يتمتعون فيه بأغلبية 53 عضوا مقابل 47 للديموقراطيين ــ على مضض ــ كل ترشيحات ترامب للمناصب الوزارية على الرغم من غياب المهارات والخبرات اللازمة لهذه المناصب الكبيرة فى دولة بحجم وأهمية وخطورة الولايات المتحدة. لم يكن بين الاختيارات ما هو أكثر كارثية من شخص وزير الدفاع بيت هيجسيت، وهو المنصب الذى يضع على عاتق صاحبه مسئولية إدارة أكثر من مليونى شخص من عسكريين ومدنيين يمثلون أكبر بيروقراطية عسكرية فى العالم، ويضع المنصب كذلك على عاتق صاحبه توجيه طرق وبرامج إنفاق ما يزيد على 900 مليار دولار هى إجمالى ميزانية الدفاع الأمريكية السنوية.
اختار 50 سيناتورا جمهوريا التصويت لصالح تعيين هيجسيت كوزير للدفاع، بسبب الخوف من إغضاب ترامب، ومع معارضة 50 سيناتورا منهم 3 فقط جمهوريين، إضافة للـ 47 الديموقراطيين، حسم صوت نائب الرئيس جى دى فانس التصويت لتعيينه وزيرا جديدا للدفاع.
وعلى مدار التاريخ الأمريكى لم يسبق لوزير دفاع أن حصل على مثل هذه النسبة المتدنية جدا جدا من الأصوات اللازمة لتثبيته فى منصبه. ولا يتمتع هيجسيت بأى خبرات من شأنها بعث الثقة فى قدراته، ولم يخدم فى الجيش إلا لفترة قصيرة وكضابط صغير مهامه لا تتعلق بالقيادة أو التوجيه. واختار ترامب هيجسيت بعدما شاهده معلقا ــ كل صباح ــ ضمن ضيوف شبكة «فوكس» الإخبارية فى موضوعات شيقة وخفيفة تناسب مشاهدى الصباح.
***
حاول ترامب تجنب نخبة واشنطن التى يدرك احتقارها له حتى بين الجمهوريين، وعليك ألا تنس كذلك أن ترامب نفسه يدرك ويؤمن أن واشنطن معادية له، لأنه غريب عليها حتى مع وجوده بالبيت الأبيض 4 سنوات من قبل. يدرك ترامب أن نخبة واشنطن أو ما نطلق عليه بلوب Blob واشنطن، بما فيها من جمهوريين، يعادونه ولا يحترمونه
كشفت فضيحة ضم جيفرى جولدبرج، رئيس تحرير مجلة «أتلانتيك»، إلى قائمة من كبار مسئولى إدارة دونالد ترامب المعنية بقضايا الأمن القومى والسياسة الخارجية، والتى عرض تفاصيلها تقرير بعنوان «إدارة ترامب أرسلت لى عن طريق الخطأ خططها الحربية» نشرته المجلة، عن حجم الضربة التى وجهت لترامب بسبب اختياراته لشاغلى أرفع المناصب وأكثرها خطورة فى فترة حكمه الثانية.
تضمنت مجموعة الدردشة عددا من كبار المسئولين على رأسهم نائب الرئيس جى دى فانس، ومستشار الأمن القومى جون والتز، ووزير الخارجية ماركو روبيو، ووزير الدفاع بيت هيجسيت، ومديرة المخابرات الوطنية تولسى جابارد، ووزير الخزانة سكوت بيسنت، ومستشار البيت الأبيض للسياسات ستيفن ميلر، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية جون راتكليف وآخرين، وبرغم ذلك لم يدرك أى منهم وجود شخص (صحفى) غريب ضمن هذه المجموعة.
تعلم ترامب من فترة حكمه الأولى ألا يأتى إلا بأشخاص يدينون له بالولاء الكامل لشغل أكبر المناصب فى إدارته وأكثرها أهمية. أراد ترامب تجنب موجة الاستقالات والإقالات على غرار تلك التى عرفتها إدارته السابقة على مدار سنواتها الأربع بين 2017-2021، والتى عكست حالة من الفوضى الكبيرة وغياب الثقة بين الرئيس ترامب وكبار وزرائه وبخاصة فى مجال الأمن القومي. وتعلم ترامب درسا قاسيا بعد الاستعانة بشخصيات تتمتع بكفاءات وخبرات لازمة لأداء مهامها، لكنها لا تدين له بالولاء خلال سنوات حكمه الأولى، والتى شهدت استقالات وإقالات لـ 4 مستشارين للأمن القومى خلال أول ثلاث سنوات فى الحكم، وكذلك 4 وزراء دفاع خلال الفترة نفسها، كما استبدل ترامب 5 وزراء للأمن الداخلى، ووزيرين للخارجية. لذا حاول ترامب تجنب هذا السيناريو خلال فترة حكمه الثانية.
اليوم ومع سيطرة ترامب المطلقة على الحزب الجمهورى، ومعرفته وخبرته المتراكمة بتوازنات القوى داخل العاصمة واشنطن، وعلاقة الأجهزة الأمنية بالبيت الأبيض وغيره من مراكز صنع القرار، أصبح الرئيس الأمريكى أكثر حنكة فى اختيار وزرائه ومستشاريه بصورة تجنّبه كل ما شهدته فترة الحكم الأولى من عواصف وزوابع.
***
حاول ترامب تجنب نخبة واشنطن التى يدرك احتقارها له حتى بين الجمهوريين، وعليك ألا تنس كذلك أن ترامب نفسه يدرك ويؤمن أن واشنطن معادية له، لأنه غريب عليها حتى مع وجوده بالبيت الأبيض 4 سنوات من قبل. يدرك ترامب أن نخبة واشنطن أو ما نطلق عليه بلوب Blob واشنطن، بما فيها من جمهوريين، يعادونه ولا يحترمونه وأنه مفروض عليهم من خارج واشنطن.
لا تنس أن نخبة واشنطن، وبعد كل ما جرى بما فيها من فوز ترامب بالرئاسة للمرة الثانية، تشكك فى قدرات ترامب على ممارسة مهامه كرئيس للدولة وكقائد أعلى للقوات المسلحة، وتراه غير كفوء لذلك.
من هنا لم يكن من المفاجئ مخالفة وزير الدفاع، غير المؤهل، الاحتياطات الأمنية المتوقعة عن مناقشة قضية حساسة كشن هجمات عسكرية على دولة أجنبية، وخالف مستشار الأمن القومى جون والتز قوانين السجلات الوطنية الحكومية.
***
قام ترامب، كما هو متوقع، بالدفاع عمن اختارهم لإدارة ملفات الأمن القومى، ولم يكن له أن يتخذ أى موقف آخر حيث إنه كان سيكون بمثابة إدانة له شخصيا على سوء اختياراته. اختار ترامب الهجوم على جولدبرج وعلى المجلة، وعلى وسائل الإعلام، وطالب فقط بمراجعة الإجراءات وعدم تكرار الخطأ من جانب فريقه. ولو كان من تورط بهذه الفضيحة من الجنرالات أو الدبلوماسيين الذين لم يخترهم ترامب، لقام على الفور بإقالتهم جميعا فى تغريدة واحدة.
وبعد نجاحه الكاسح فى الانتخابات الرئاسية، ومساهمته فى تأمين أغلبية جمهورية لمجلسى الشيوخ والنواب، فرض ترامب اختياراته الوزارية بناء على درجة رضاه على المرشح وثقته فى درجة ولائه الشخصى له، إلا أن لذلك تكلفة كبيرة على ترامب نفسه وإرثه الرئاسى الذى يكترث به. نتائج اختيارات ترامب تضربه هو شخصيا، وتعصف بالثقة فى قراراته وتقييماته، وما رأيناه فى فضيحة الـ”سيجنال” ما هو إلا بداية فقط، وسيأتى الكثير بعدها.
(*) بالتزامن مع “الشروق“