الدولة ليست “هُم” في مواجهة.. “نحنُ”!

المجتمع المفتوح الذي يسود فيه النقاش والحوار هو مجتمع السياسة، وهو في آن معاً مجتمع الإرادة. دون هذه الإرادة يتفسّخ النظام السياسي ويصير مهلهلاً. تتفكك المرافق العامة، تتبلّد البيروقراطية، ويؤول الوضع الى دولة فاشلة كما هو الوضع في لبنان وكثير من البلدان العربية. ليس المجتمع فيها أقوى من الدولة.

مع سيطرة الاستبداد وانكشاف الدولة، جرى انكشاف المجتمع. لم ينفع المزاج الديني السائد في تقوية المجتمع. زاد بعثرته وشرذمته. شعار تطبيق الشريعة لا يوحّد بل يفرّق. مع التفرقة تتشرذم الإرادة وتضمحل. قوة المجتمع في تماسكه لا في شرذمته.

سعى أنصار الدين السياسي الى إفقاد الدولة شرعيتها عن طريق الفصل بينها وبين المجتمع، بمحاولة إقحام الشريعة في الدستور. هم في الحقيقة وضعوا حاجزاً بين الناس ودينهم، إذ صادروا الدين وزجوه في صميم الدولة. وكان قبل ذلك، وعبر مراحل التاريخ، إما مفصولاً عنها، أو هامشياً عليها. وحاولوا إيجاد هوية للشريعة غير الهوية الإسلامية. وصادروا هوية الشريعة. وصاروا تهديداً لنشوء وتطوّر كل دولة في بلادنا.

كانت الهوية الإسلامية واحدة من الهويات في كل من المجتمعات الإسلامية. جاء أنصار الدين السياسي وجعلوا الشريعة هوية وحيدة لمصادرة المجتمع وتقويض الدولة. حاولوا تقديم هوية لله لا هو أرادها، ولم يكن يحتاجها، ولن يحتاجها. ينظر إلينا الإسلاميون وكأننا غير مسلمين. وكأن المطلوب هدايتنا. وعليهم أن يعرفوا أنهم مرفوضون في المجتمعات الإسلامية. ولا لزوم لهم إذا كانوا يخدمون غايات خارجية.

بناء الدولة القطرية كدولة حديثة هو العروبة الآن. عقود من كيان الدولة، مهما كان الشكل والمضمون والمحتوى، كافية لنشوء قومية الدولة بالتقادم. وذلك لا يضير، ويجب أن لا يضير القوميين العرب المتشددين. إذا كانوا ما زالوا وحدويين فعليهم الاهتمام بأمر الدولة القطرية لأنها هي وحدها طريق القرار بالوحدة أو غيرها.

كان انفصال اللغات المحكية عن اللاتينية، وصيرورتها الى لغات مكتوبة، بل لغات النخبة العليا، لتصير بمثابة الفصحى، عاملاً في تشكّل قوميات منفصلة منها. ضرورات الدولة أوجبت ذلك. الفصحى عندنا لا تمس. هي لغة جميع النخب في كل البلدان العربية، إلا قوميات تريد الانفصال عن دولها. تريد الانتقال من المجال الأرحب الى المجال الضيّق. من لغة يفهمها الجميع الى لغة يفهمونها وحدهم. يشكلون هويات حول لغات محلية وهم في نفس الوقت يعرفون ويتكلمون العربية جيداً. لم يستوعبوا أن العربية ليست هي اللغة العامة (لينغوا فرنكا) وحسب، بل هي لهجة النخب والعامة. وما اللهجات العامية الا منوعات من الفصحى. وهي على كل حال تقترب منها بسبب انتشار وسائل الإعلام والحاجة الى التفاهم عبر الحدود. مع ذلك، أن يبغي الانفصاليون تبني اللغة المحلية وحدها، وحتى حق الانفصال السياسي، فهذا حق لهم. لكنهم بذلك يسيئون الى أنفسهم بالانتقال من المجال الأرحب الى مجال أضيق.

لا شيء يمنعني أن أكون وحدوياً عربياً وفي نفس الوقت قومياً لبنانياً، مع اعتبار الدولة اللبنانية كياناً نهائياً. كما أنه لا شيء يمنع الانفصاليين من السعي نحو أهدافهم. لكن اللعب بحدود كل دولة عربية لأهداف انفصالية يؤدي الى أضرار، بل حروب أهلية تفوق آلام البقاء في الدولة الراهنة مهما كان أمرها، وحال نظامها

قومية الدولة

التلاعب بالحدود الآن، أي الدولة، لا يفيد أحداً. والدعوة العربية ليست دعوة قومية. ومن المفيد أن يكون لكل دولة عربية قومية الدولة لا قومية الأمة. من ناحية أخرى، ذلك لا يضير الانتماء العربي.

النظريات الضيقة الأفق حول الأمة، سواء كانت إسلامية أو بعثية أو من أخواتها، جرّت على المجتمعات العربية الويلات والكثير من الحروب الأهلية. جاء الوقت لكي تفسح المجال للحرية، كما تحدثنا عنها في البداية، وللسياسة أيضاً. وهي كما قلنا تعني السياسة. وهذه تعني التهذيب والتسامح والانضباط. آن الأوان كي نجعل من الدولة هدفاً نسعى إليه، لا من الأمة كياناً ميتافيزيقياً ننتظره أن يتجلى. يجب أن نقبل الدولة كما هي، وهي دولة قطرية كما يعتبرها كثيرون منا، لكنها ليست كياناً عابراً الى مرحلة أخرى. نعترف بها بالتقادم ونؤسس لعهد جديد، ترضى به الدول العربية. وهي إذا صارت دولاً حديثة، لن ترضى إلا بما يُعبّر عن رغبات وحاجات شعوبها.

لا شيء يمنعني أن أكون وحدوياً عربياً وفي نفس الوقت قومياً لبنانياً، مع اعتبار الدولة اللبنانية كياناً نهائياً. كما أنه لا شيء يمنع الانفصاليين من السعي نحو أهدافهم. لكن اللعب بحدود كل دولة عربية لأهداف انفصالية يؤدي الى أضرار، بل حروب أهلية تفوق آلام البقاء في الدولة الراهنة مهما كان أمرها، وحال نظامها. كل البلدان العربية شديدة التنوّع والتعدد؛ والدعوة الى الالتزام بالدولة وقوميتها يجب أن لا يضير الانفصاليين القوميين أو القوميين العرب المتشددين. ليس علينا أن نتعامل مع التعددية الإثنية أو القومية بالتكاذب، كما تتعامل الطوائف في لبنان، مثلاً، بين بعضها البعض. الاستفادة من الإمكانيات المتاحة هو من أولويات السياسة، بمعناها العميق. والاستفادة من هذا الحوض اللغوي العربي أمر مفيد. كيف يكون الأمر؟ نكرر، بالسياسة. وهي تراكم التسويات؛ المهم أن نفكر بمصيرنا سوية، وأن نقرر العيش سوية ضمن الحدود المرسومة، والتي رسمت لنا، ولم يرسمها أي منا.

إقرأ على موقع 180  أرقام "غينسية" لبنانية عالمياً.. إنه الإقتصاد يا أغبياء!

الدعوة الى الدولة

الدعوة إلى الدولة هي دعوة إلى إقرار الحدود كما هي. ولا شرط على الدولة. هي شرط لما عداها. هي دعوة في الوقت ذاته إلى العيش سوية، في إطارها وحدها. مع جعل كل التطلعات الأخرى مؤجلة حتى إشعار آخر، أو إلى الأبد. هي دعوة لأن نُقرّر مصيرنا ليس على أساس هوية ما، مهما كانت، بل على أساس الرغبة النابعة من الضمير، من الحرية، بالعيش سوية في إطار الحدود المرسومة لنا، لأبناء هذه الهوية أو تلك. نحن معاً في الأتون ذاته، شئنا أم أبينا. نخرج من هذه الحالة إذا أطفأنا نار الأتون. الحريق ممكن أن يقضي علينا جميعا، عرباً وغير عرب، في هذا الحوض المشترك.

الحروب الأهلية أتون مشترك. لا شيء مشتركاً بيننا الآن أكثر من ذلك. تكاد تكون منطقتنا غارقة في حرب عالمية من كثرة ما عليها من جيوش أجنبية تقاتل مباشرة أو من خلال وكلائها المحليين. وفرة مال النفط لم تخفف وطأة الحروب الأهلية، بل زادتها تأجيجاً. الذين يحترقون بنارها شعوب المنطقة ولا سيما الفقراء.

وبغض النظر عن التدخلات الخارجية، وهي كثيرة وطاغية، إلا أننا، وبخاصة نخبنا السياسية والثقافية، مسؤولون بدرجة أو بأخرى، بسبب الاستهانة خلال القرن الأخير، ولا سيما بعد انتصار ما يسمى حركات التحرر الوطني، وتحقق استقلال كل دولة كما هو مرسوم، بشأن الدولة، وإلغاء السياسة، وغياب الضمير. الأكثر فداحة في ذلك كله هو الاستهانة بشأن الدولة واعتبارها كياناً عابراً، كونها رُسِمت لنا، في سبيل أمة عربية أو إسلامية يستحيل تحقيقها أو صنعها حسب القواعد التي وضعها الداعون إليها؛ هي دعوات في أساسها مغلوطة لأنها لم تأخذ التعددية القومية أو الإثنية أو اللغوية بالاعتبار. الدول الراهنة أبدية، وستبقى كذلك. وستحافظ على سيادتها حتى في ظل وحدة عربية، إن تحققت، وهي لن تتحقق إلا بمنظور جديد، ووعي مختلف، ولقد آن الأوان لأن تحل العقلانية مكان العصبيات القاتلة وسياسات الهوية المدمرة.

واقع جديد يفرض أفكاراً جديدة. الثبات على بعض الأفكار باعتبار أنها مبادئ هراء في هراء. الثبات على المبادئ، والتباهي بأننا “لا نغيّر مبادئنا” ليس مبدأ أخلاقياً بل هو تعبير عن جهالة وتخل عن التفكير المبدع. نحتاج الى الكثير من الإبداع والتجديد في الفكر السياسي، كما في كل مجالات التفكير الأخرى. لكننا لو استقرأنا من بعض الشعارات المرفوعة منذ 75 عاماً لوجدنا أن الشعارات تتكرر، إن بمسميات أخرى أحياناً، وأن الفكر السياسي، والنظري، والفلسفي، الذي تصدر عنه هذه الشعارات هو نفسه، ولم يتغيّر. يتغيّر العالم من حولنا، ويتحوّل واقعنا، لكننا نبقى واقفين مكاننا. حالة من الركود الفكري والاستنقاع الثقافي برغم أننا ننحدر بسرعة الى الهاوية.

الدولة الفاشلة

الدولة أمر لا يستهان به. هي انتظام المجتمع على تعدديته. لكننا عاملنا الدولة وفكرة الدولة بهزء. فحكمت أنظمة استبدادية في طبيعتها بسبب الجهل، وفقدان شرعية الدولة والمجتمع. إذا كانت الدولة وعاء المجتمع، فإن المجتمع مضمونها. الاستهانة بالشكل تؤدي إلى الاستهانة بالموضوع. الاستهانة بالدولة هي في حقيقتها استهانة بالوجود البشري وبالناس وبمصيرهم. الدولة التي تنغرز في ضمير الفرد لا يُمكن قهر مجتمعها مهما كان صغيراً، حتى ولو جرى احتلال أرضها. ربما، والأرجح، أن الأساس في مصائبنا الراهنة وهزائمنا الراهنة هو الاستهانة بالدولة كفكرة وتجريد، الأمر الذي أدى الى الاستهانة بمجتمعاتنا وشعوبنا.

الاستهانة بالدولة تضعضع الأساس الذي يُبنى عليه قرار المجتمع. المجتمع لا يأخذ قراراً أو قرارات، إلا عن طريق الدولة ونظامها. ضعضعة الدولة هي ضعضعة المجتمع في الآن نفسه. المجتمع الذي تصير دولته فاشلة يصير هو نفسه مجتمعاً فاشلاً. إذا كان جوهر الدولة هو إرادة العيش سوية، فإن زعزعة الدولة تعني زعزعة هذه الإرادة في كل المجالات. وما نعانيه في لبنان من أزمات متتالية وانهيار قطاعات الاقتصاد وسيطرة المافيات وخراب البنى التحتية ليس إلا نتيجة زعزعة الدولة وانهيار الإرادة وبعثرة المجتمع. يقال الدولة شر لا بدّ منه، والبعض يقولون هي خير لا بد منه. والأجدر في جميع الأحوال التخلي عن هذه الاعتقادات في سبيل الاقتناع أن الدولة هي إرادة العيش سوية، وإرادة أخذ القرار، وإدارة المجتمع، وأن يحقق الفرد حريته ويكون مواطناً. لا يصير ذلك إلا في إطار الدولة. الدولة ليست “هم” في مواجهة “نحن”. ليست كياناً مفروضاً على المجتمع، وإن بدأت كذلك. تصير الدولة حديثة بمقدار ما تصير هي المجتمع. الدولة هي “النحن” التي لا “هم” لها.

يصعب في وعينا التمييز بين الدولة والنظام لأن الموجود عندنا هو النظام دون دولة.

(*) فصل من كتاب “تأملات في الحرية والسياسة” 

Print Friendly, PDF & Email
الفضل شلق

مثقف وكاتب لبناني

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  أرقام "غينسية" لبنانية عالمياً.. إنه الإقتصاد يا أغبياء!