من حال النظام إلى.. حال الدولة

إذا كانت الدولة هي الإطار الناظم للمجتمع، فإن غيابها يعني تلاشيه. في الدولة الحديثة، توجد روابط بين الجماعات كأفراد، بل كمواطنين. ويشارك هؤلاء في الدولة وفي القرار، سواءً وهماً أو حقيقةً. اضطرار السلطة لتنمية هذا الوهم دليل على أهميته بالنسبة للناس الذين يحققونه ولو جزئياً عن طريق الانتخابات والنقاشات في المجال العام.

في الدولة الحديثة، السياسة هي الرابط بين الناس. السياسة هي التي تُنتج مجتمعاً متماسكاً. ولما كانت السياسة الجدية معنية بإدارة شؤون المجتمع، فإنها معنية حتماً بالاقتصاد، وسبل العناية بمختلف طبقات وفئات المجتمع، من أطفال، ومسنين، وعاطلين عن العمل، ومرضى، إلخ..

الدولة والمجتمع في الحداثة هما كالدال والمدلول. وجود أحدهما يدل على وجود الآخر. مجتمع تنغرز الدولة في ضمير كل فرد فيه، وبالتالي فهي مجال الحرية. تكون الدولة مجال الحرية عندما يكون الضمير معلناً، ومصدر الرأي والسلوك عند الفرد.

ليس الأمر كذلك في دولة ما قبل الحداثة. هي سلطة فوق المجتمع، وفي معظم الأحيان ليست منه. سلطة تقابل ما يسمى في دولة الحداثة النظام. نظام السلطة. النظام فيه تراتبية، وهو معني بالنخبة السياسية. الدولة الحديثة معنية بالمجتمع المفتوح الذي يكون الناس فيه مواطنين. التشلعات التي أدت إليها الإمبريالية أدت إلى أن لا يكون للدولة أكثر من نظام. نظام يُلغي الدولة. هو نوع من الديكتاتورية الضرورية لكي يتماسك المجتمع بالقوة والإكراه والعنف، ولا ينفرط عقده. الدولة الحديثة تلقائية. حدثت نتيجة تطوّر طويل في الغرب. النظام هو الموروث عن الدولة التقليدية، التي وإن فرضت عليها بعض مؤسسات الحداثة، وهي غالباً ما تكون نتيجة تحديث مفروض من فوق، لكنها غير قابلة للتطوّر نحو الدولة الحديثة إلا بالحداثة الفردية والمواطنية.

المسألة الهامة في بلادنا هي كيفية بناء الدولة الحديثة والمجتمع المتناسب معها. الدولة بمعنى النظام موجودة بالفعل. الدولة الحديثة إمكانية أو احتمال يتحقق إذا أحسنا التصرّف في مواجهة الامبريالية التي تفرض وتؤيّد النظام، أي الاستبداد دون الدولة. وإذا أحسنا بناء علاقات بين أطراف المجتمع، يؤدي الأمر إلى تماسك دون إلغاء التعددية، وذلك لا يتحقق إلا بالسياسة وما يقتضيه الأمر من انضباط وتسامح وتهذيب.

مهما كان النظام الإقتصادي-السياسي رأسمالياً، أو ما بعد الرأسمالية، المساواة في الفقر تتناسب مع الديكتاتورية. المساواة في العيش الكريم تتناسب مع مجتمع المواطنية ودولة المواطنية

النظام هو ما يتشكّل من مؤسسات ومجتمع مشلّع لا يجتمع أو يتماسك إلا بالعنف والإكراه. عندما يتشلّع المجتمع يصير حكم الديكتاتورية أمراً مؤكداً. تنعدم الحريات، وعلينا حينذاك الموازنة بين الحريات والفوضى. وجود نخب ثقافية وسياسية تنقلنا من حال النظام إلى حال الدولة لم يتحقق لكنه أمر راهن في بلدان أسيوية وغير إسلامية.

ما حدث في بلدان عربية بعد ثورة 2011 أن الثورة المضادة استبدلت النظام القائم، بعد مرحلة انتقالية، بنظام آخر كان عائقاً أيضاً في التطوّر نحو الدولة الحديثة والمواطنية. لا بدّ لنا من الاعتراف أنه، وإن كان في الأمر استجابة لضغوطات خارجية، إلا أنه كان في نفس الوقت ما لبى رغبات فئات واسعة في الداخل. الأطراف الدينية من إخوان مسلمين إلى السلفية، إلى أطراف عربية تحكم شعوبها بالتسلّط والعنف، إلى أطراف إيرانية لا تريد الاعتراف أو السماح بدولة عربية.

نستطيع النضال ضد منظومة الاستبداد العربية متى أعطينا الدولة حقها في وعينا. الخروج مما نحن فيه يُحتّم علينا التفكير بمفاهيم جديدة تخرج من الأطر الموجودة حالياً، والتي يفرضها الدين السياسي والاستبداد. هو نضال داخلي في كل بلد عربي، ولا يقتصر على قضية واحدة سواء كانت قضية فلسطين أو الصراع الطبقي. الأجدر التفكير بالتشكيلة الاجتماعية. تفكير يأخذ هاتين القضيتين بالاعتبار ويفترض قبل كل شيء أن المقاومة من أجل فلسطين والنضال الطبقي المحض لا يبنيان مجتمعاً لدولة حديثة. العكس هو الصحيح.

حتى الآن كان الخوف لدى نخبنا الثقافية والدينية والسياسية من الثقافة الغربية، ومما سُمي الغزو الثقافي الغربي. هذا الأمر لا مبرر له لأن الثقافة الغربية عالمية. يجب الأخذ بها أو منها. ولن نأخذ منها إلا ما يفيدنا. الغزو السياسي الغربي هو الأشد والأدهى، والذي لا يترك لنا حرية الاختيار، والذي يُفضّل بإصرار التعامل مع “النظام”، وأهم قواه، أي القوى العسكرية والأمنية.

يحتاج الأمر إلى نخبة ثقافية وسياسية نقدية تجاه التراث والثقافة الغربية، وعدائية تجاه السياسة الغربية والاستبداد. نخبة تضع نصب عينيها النضال من أجل الحداثة والحرية، وفي نفس الوقت مقارعة الاستبداد وداعميه من الخارج، والتخلي عن التفكير بمصطلحات التحرر الوطني، وأهمها تحرر المجتمع دون الحرية الفردية. تشكيل الوعي الذي يتناسب مع ذلك يتطلّب موقفاً، بل معرفة نقدية، وصلابة نضالية. الكثرة الغالبة من أحزابنا اليسارية تتحلى بالروح النضالية من دون الوعي.

معالجة العجز المعرفي لدى النخبة الثقافية يتطلّب قبل كل شيء، وفوق كل شيء، الوعي المتزايد، بل المطلق، بأهمية الدولة الحديثة، وبأن بناءها لن يكون ممكناً من دون العمل والإنتاج لبناء اقتصاد متين يكون لحمة المجتمع، مع ما يتطلبه الأمر من بنى تحتية.

إقرأ على موقع 180  القرن الـ20.. قرن الإستعمار بثوبيه القديم والجديد

الخيارات الإقتصادية لن تكون سهلة لكنها ضرورية من أجل المجتمع المتماسك الذي يُحافظ على التعددية ويحميها. ولن يكون مجتمعاً فقيراً أو بأكثرية من الفقراء. هو مجتمع تتناسب فيه المداخيل مع المواطنية، مهما كان النظام الإقتصادي-السياسي رأسمالياً، أو ما بعد الرأسمالية. المساواة في الفقر تتناسب مع الديكتاتورية. المساواة في العيش الكريم تتناسب مع مجتمع المواطنية ودولة المواطنية.

(*) النص مأخوذ من كتاب “تأملات 2022 في الحرية والسياسة والدولة” لمؤلفه الفضل شلق

Print Friendly, PDF & Email
الفضل شلق

مثقف وكاتب لبناني

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  أوهام الحرية ونخبة الحراك في لبنان (2)