

منذ نصف قرن من الزمن وحتى يومنا هذا، وبلا مكابرة ومساحيق تجميل سياسية، ما يزال الانقسام في المجتمع اللبناني هو نفسه برغم تبدل موازين القوى الداخلية وتغير اللاعبين السياسيين واستنساخ بعض اللاعبين أنفسهم عبر أولادهم أو أحفادهم. وبرغم المكابرة السياسية العامة في البلاد، فإن الخلاف ما يزال هو نفسه حول الصيغة وحصة كل طائفة فيها والموقع الإقليمي للبنان. وخلال 34 عاماً من وقف الحرب بالنار، واستمرارها بالأشكال الأخرى، يبرز الانقسام المجتمعي في كل شيء ويصر السياسيون على الدفاع عن نظام سياسي طائفي ولّاَد للأزمات ويبدع في إعادة انتاج نفسه. وكي لا يكون هناك افتراء في طرح هذا الموضوع لا بد من استعراض واقع لبنان بعد الحرب الأهلية.
لقد بات لبنان من الناحية الديموغرافية أشبه بكانتونات مذهبية، وليس فقط طائفية، أي باتت هناك مناطق صافية لكل مذهب من كل طائفة، يتواجد في كل منها بعض الديكور من مذاهب أخرى ليكون الاستثناء الذي يُثبت القاعدة. ووفق هذا التوزع الطائفي والمذهبي، بات يصعب كثيراً على شخص من طائفة معينة أن يشتري أو يستأجر بيتاً في منطقة يغلب عليها لون طائفة أخرى إلا في ما ندر. وقد حصل أن أعلنت بعض البلديات عبر وسائل التواصل الإجتماعي أنها لن تسمح ببيع العقارات لأي شخص من غير أبناء الطائفة ذات الأغلبية في نطاق عملها البلدي. طبعاً ولكل طائفة قوانينها الخاصة في كل ما يتعلق بالزواج والطلاق والميراث إلخ.. وقد فشلت في منتصف تسعينيات القرن الماضي محاولة اقرار قانون الزواج المدني الاختياري عندما التقى زعماء الطوائف على رفضه ومحاربته فتم سحبه من التداول من دون اقراره. وفي نواحي الحياة الأخرى فقد بات لكل مذهب، وليس فقط لكل طائفة، مدارسه وجامعاته ومستشفياته ومستوصفاته الخاصة، وحتى الرياضة باتت محط انقسام طائفي، فكل نادٍ له مشجعيه من لون طائفي معين، أما في الشأن الإجتماعي فمن السهل جداً أن تعرف في أي منطقة أنت بمجرد أن ترى الناس والمحلات من حولك، ففي هذه المنطقة مثلاً لا تستطيع ان تجد يافطة محل واحد باللغة العربية وتتكاثر الملاهي الليلية فيما لا ترى في منطقة أخرى الملاهي الليلية وتشعر وكأن سكان المدينة نيام مع غياب الشمس. وفي موضوع الفساد، فإن العائق الأكبر في محاربته هو استنفار زعماء كل طائفة للدفاع عن الفاسدين من رعيتها بذريعة أن محاسبته تعتبر ادانة لطائفته وبالتالي يجب أن تتم المحاسبة ضد كل الفاسدين دفعة واحدة أو لا تحصل.
أما الطامة الكبرى فهي في رؤية اللبنانيين للموقع الإقليمي لدولتهم، ففيما كانت الوجهة الأساسية للدولة قبل الحرب الأهلية هي نحو فرنسا، الأم الحنون للبنان كما كان يطيب لبعض اللبنانيين من طائفة معينة أن يصفوها، فقد استبدلت فرنسا اليوم بالنسبة إليهم بالغرب بصورة عامة والولايات المتحدة الأمريكية بصورة خاصة ويتمسك هؤلاء بالعرب الذين يصفونهم بالمعتدلين حلفاء أمريكا. وحتى في زمن جماعة “الأم الحنون فرنسا” كان الدستور اللبناني ينص على أن “لبنان ذو وجه عربي” لذلك كان هناك انقسام بين من هم مع توجه لبنان نحو العرب ومن هم مع توجهه نحو الغرب. وفي أوج الحرب الأهلية عام 1976 ذهب وفد القيادات اللبنانية المؤيدة للغرب إلى سوريا والتقوا حينها رئيسها الاسد وطلبوا منه التدخل في لبنان وارسال جيشه إليه، وبطبيعة الحال فقد حصل الأسد حينها على ضوء أخضر من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي قبل أن يُقدم على هذه الخطوة التي توجها باشراك الدول العربية فيها عبر ما سمي حينها “قوات الردع العربية”.
الحرب المستمرة بأشكال وأدوات مختلفة ستكون مرشحة للعودة بالمدفع والرشاش مع أي تعديل في الأوضاع الاقليمية لأن القاعدة العلمية تقول “نفس الأسباب تحت نفس الظروف تؤدي إلى نفس النتائج”
ومع التحولات الدراماتيكية التي حصلت بعدها وتوقيع مصر اتفاق كامب ديفيد للصلح مع “إسرائيل” انقلب هؤلاء على سوريا الأسد التي رفضت هذا الاتفاق ولجأوا إلى الكيان “الاسرائيلي” طمعاً بمحاربة سوريا في لبنان وصولاً إلى مشاركة ميليشياتهم إلى جانب جيشه بحربه على اللبنانيين الىخرين عندما غزا هذا الجيش لبنان في العام 1982 واحتل العاصمة بيروت وتوجوا مشاركتهم تلك بارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا المروعة التي قادها وزير الدفاع الصهيوني حينها آرييل شارون وذهب ضحيتها أكثر من 1200 مدني لبناني وفلسطيني معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن.
هؤلاء أنفسهم وبأحزابهم أنفسها ما زالوا يراهنون على الولايات المتحدة وحليفتها “إسرائيل” ولو لم يكن الدستور اللبناني الذي عدل بعد اتفاق الطائف ليتضمن اشارة واضحة إلى لبنان كبلد عربي الهوية والانتماء وعضو مؤسس في جامعة الدول العربية وأن “إسرائيل” دولة عدوة لكان هؤلاء اليوم يُعلنون موقفهم على الملأ تأييداً لـ”إسرائيل” وللتطبيع. وبسبب العائق الدستوري يلجأ هؤلاء إلى الاختباء وراء الكلام عن رفضهم ليس فقط لسلاح المقاومة بل أيضاص لفكرة مقاومة “إسرائيل” بذريعة أنها لم تكن مجدية في الدفاع عن لبنان بحسب نتائج الحرب الاخيرة التي انطلقت في نهاية سبتمبر/أيلول 2024 واستمرت أكثر من شهرين وكان يفترض أن تنتهي بموجب اتفاق وقف النار برعاية أمريكية. غير أن ذلك لم يحصل وما يزال الجيش “الإسرائيلي” يحتل خمس تلال حاكمة في جنوب لبنان ناهيك بنقاط أخرى أبرزها مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وشمال بلدة الغجر وسفوح جبل الشيخ الغربية من جهة راشيا.
ومن المفيد التذكير هنا أن لبنان كان ضحية الاعتداءات “الإسرائيلية” الدائمة قبل وجود المقاومة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي وكانت حكوماته المتعاقبة تنتهج سياسة “قوة لبنان في ضعفه”، أي أن لبنان يكتفي بعد كل اعتداء بالشكوى للدول الصديقة له ولمجلس الأمن الدولي حيث في أحسن الاحوال يحصل على بيان استنكار من هنا أو هناك وإذا توصل مجلس الأمن إلى قرار بإدانة “إسرائيل” فإن الولايات المتحدة كانت تتكفل باستخدام حق النقض (الفيتو) لمنع هذه الإدانة. وبالتالي فقد فشلت نظرية “قوة لبنان في ضعفه” في ذلك الحين وأدى فشلها إلى قيام مقاومة مسلحة ضد الاعتداءات “الإسرائيلية”.
إن إحدى أبرز الايجابيات التي تُسجل لاتفاق الطائف (1989) برعاية السعودية وبغطاء أمريكي وسوفياتي حينها أنه أوقف المدفع وأعاد توحيد المؤسسات الرسمية للدولة اللبنانية مع تعديل بتوزيع الحصص بين الطوائف. أما لجهة ضرب مفاعيل الانقسام الطائفي فإن النتيجة وللأسف كانت أقل من صفر بل بالامكان القول إن تجربة ما بعد الطائف عمّقت الطائفية في جميع ميادين الحياة اللبنانية.
بناء على ما سبق، لا يمكن القول عن الحرب التي حصلت قبل نصف قرن “تنذكر ما تنعاد” فهي لم تنته وما نشهده عبارة عن أشكال وفصول مختلفة للحرب بأدوات ومسميات مختلفة، وفي انتظار أن يقتنع اللبنانيون بأن نظامهم الطائفي هو أصل المشكلة وأصل العلة فإن الحرب المستمرة بأشكال وأدوات مختلفة ستكون مرشحة للعودة بالمدفع والرشاش مع أي تعديل في الأوضاع الاقليمية لأن القاعدة العلمية تقول “نفس الأسباب تحت نفس الظروف تؤدي إلى نفس النتائج”.