

لقد تحوّل الذهب، كما في كل حقبة مضطربة، من مجرد معدن إلى لغة بديلة للثقة، ملاذ صامت لكن صارم، تهرب إليه الأفراد والدول معًا كلما اختلّت بوصلة المستقبل. ذلك أن الذهب ليس كباقي الأصول؛ مخزونه في الأرض محدود، وتوزيعه الجغرافي محكوم بإرث جيولوجي لا يمكن استنساخه. وبرغم أن ورشات المال تطبع تريليونات من العملات الورقية، فإن كمية الذهب المتوفرة، ببساطة، لا يمكن أن تغطي هذه الكتلة النقدية. هنا يبدأ التفاوت، وتبدأ رحلة التحصّن.
لكن لماذا الآن؟
الجواب ليس اقتصاديًا فحسب، بل نفسي واستراتيجي؛ فمنذ إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن نية فرض رسوم جمركية جديدة على واردات المعادن الحيوية والأدوية والرقائق الإلكترونية، بدأت الأسواق تدق طبول القلق. القلق من ركود اقتصادي، ومن تضخم متسارع، ومن حرب تجارية أكثر تعقيدًا بين الولايات المتحدة والصين؛ زدْ على ذلك الارتدادت المستمرة للحرب الروسية الأوكرانية.. وفي مثل هذه الأجواء، لا شيء يُهدّئ المستثمرين مثل لمعان الذهب.
الردّ لم يتأخّر. شركات الاستثمار والمؤسسات الكبرى تحرّكت سريعًا. شركة Citi Research، على سبيل المثال، رفعت توقعاتها لسعر الذهب في الأشهر الثلاثة المقبلة إلى 3,500 دولار، بينما رفع “غولدمان ساكس” توقعاته إلى 4000 دولار للأوقية الواحدة بعد أن كان قد حدّد في تقرير سابق له سعر الذهب المستهدف بنحو 3800 دولار بحلول العهام 2026. يحصل ذلك مدفوعًا بارتفاع الطلب من شركات التأمين الصينية، التي سُمح لعشر منها بتخصيص ما يصل إلى 1% من أصولها للذهب. هذا الإجراء وحده قد يضيف 255 طنًا من الطلب السنوي، أي ما يعادل ربع مشتريات البنوك المركزية العالمية.
من جهة أخرى، فإن ضعف الدولار الأميركي، وتضارب السياسات النقدية، وتضخّم الفقاعات في أسواق العقارات والتكنولوجيا، كلُ ذلك يجعل الذهب يبدو وكأنه الخيار العاقل في زمن الجنون. وحتى حين تراجعت الأسعار قليلًا في 17 نيسان/أبريل الماضي بنسبة 1%، حافظ الذهب على تموضعه فوق حاجز 3,300 دولار، ما يؤكد أن المسار العام سيستمر تصاعديًا، ما دامت ديناميات الخوف لم تتغير.
لكن المسألة لا تتوقف عند الإحصاءات والتحليلات؛ فثمة بُعد آخر يُهمَل غالبًا: سيكولوجيا السوق.
الذهب، في جوهره، هو ترميز جماعي للخلاص. ليس لأنه لا يفقد بريقه، بل لأنه لا يخضع لسلطة الحكومات أو لعقوبات المؤسسات. إنه أصل بلا جنسية، بلا حدود، يُخزَّن في القصور كما في الجبال، يُخبَّأ في القبو كما يُلبَس في الأعراس. الذهب هو الطمأنينة حين تتبخر كل الضمانات الأخرى.
لقد أدرك المستثمرون ما تدركه الشعوب بشكل غريزي: حين تهتز الأرض تحت قدميك، لا تفكر في العوائد، بل في النجاة. والنجاة اليوم تُقاس بالقيراط.