نشأ رون ديرمر في كنف أسرة يهودية أميركية في فلوريدا، وكان والده عمدة ميامي بيتش، وهذا ما جعله يعيش وسط بيئة سياسية منذ طفولته، كما ساهمت دراسته في الفلسفة والسياسة والاقتصاد في أكسفورد في تثبيت رؤيته بوجوب تعزيز موقع إسرائيل الدولي. انتقل ديرمر إلى إسرائيل في تسعينيات القرن الماضي، حيث بدأ مسيرته المهنية كصحفي وكاتب. لفت الأنظار بآرائه المؤيدة لإسرائيل ورؤيته الاستراتيجية للعلاقات الدولية. عمل مع ناثان شارانسكي، السياسي الإسرائيلي البارز، كمستشار استراتيجي وكاتب خطابات، وهو ما أتاح له الانخراط في السياسة الإسرائيلية بشكل أعمق.
بدأت تترسخ رؤية ديرمر حول العلاقة الوطيدة مع واشنطن عندما تم تعيينه سفيرًا لإسرائيل لدى الولايات المتحدة بين عامي 2013 و2021. خلال تلك الفترة، أصبح أحد أقرب المستشارين لنتنياهو وساهم بشكل كبير في تعزيز العلاقات بين البلدين فعمل على صياغة استراتيجيات مشتركة وشارك في تنسيق الاتفاقيات الأمنية والسياسية، بما في ذلك دور إسرائيل في مواجهة التهديدات الإيرانية.
في المقابل، لم يغفل أهمية العلاقة مع موسكو حيث لعب ديرمر دورًا حيويًا في تحسين العلاقات بين إسرائيل وروسيا، خصوصًا خلال السنوات التي شهدت تدخلًا روسيًا كبيرًا في الشرق الأوسط، وتحديدًا في الحرب السورية. بصفته مستشارًا لنتنياهو، ساعد ديرمر في ترتيب لقاءات متكررة بين نتنياهو والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. كانت هذه اللقاءات تهدف إلى ضمان التنسيق العسكري بين البلدين، خصوصًا في ما يتعلق بالعمليات الإسرائيلية ضد أهداف إيرانية في سوريا وبالتالي تكريس قواعد اشتباك أعطت حرية حركة للجيش الإسرائيلي في الساحة السورية طوال السنوات الأخيرة.
كيسنجر كان يرى أن الأمن القومي هو الأولوية العليا لأي سياسة خارجية، وهو مبدأ يتبناه ديرمر الذي يعتبر أن إسرائيل يجب أن تبني استراتيجياتها الدبلوماسية بناءً على أولوية حماية أمنها القومي، سواء من خلال التحالفات العسكرية أو ترتيب اتفاقيات وقف إطلاق النار
وعلى الرغم من تركيز ديرمر على العلاقة الاستراتيجية مع واشنطن إلا انه يرى أن على إسرائيل أن تستغل مكانتها كدولة رائدة في مجال التكنولوجيا المتقدمة (الأمن السيبراني، الذكاء الإصطناعي، الزراعة والطب) لتعزيز علاقاتها الدولية، ويُشدّد على أهمية ربط الابتكارات الإسرائيلية بشراكات اقتصادية عالمية لتعزيز موقعها على الساحة الدولية. أما بالنسبة لايران فيعتبر أنها تشكل التهديد الأكبر لإسرائيل وللاستقرار في الشرق الأوسط، وهو كان من أبرز المنتقدين للاتفاق النووي الإيراني عام 2015 عندما كان سفيرًا في واشنطن وعمل على ضمان موقف صارم تجاه طهران وكان يؤمن بأن مواجهة ايران تتطلب ليس فقط القوة العسكرية وإنما بناء تحالفات مع الدول العربية المعادية لطهران.
يمكن القول إنّ ديرمر تأثر بأفكار وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، لا سيما لجهة تحقيق المصالح القومية عبر استراتيجيات براغماتية وعملية بعيدًا عن الاعتبارات الأيديولوجية أو القيم الأخلاقية، وهو تبنى هذا النهج الواقعي بالعلاقة مع موسكو، كذلك كان أحد مهندسي اتفاقيات التطبيع (إبراهام) التي اعتمدت على المصالح الاقتصادية والأمنية المشتركة بين إسرائيل وعدد من الدول العربية.
ومثلما كان كيسنجر مهندس سياسة الانفراج (Détente) بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، فإن ديرمر يُظهر تفكيرًا مشابهًا في تعامله مع روسيا والصين، حيث عمل على ضمان علاقة متوازنة بين إسرائيل وهاتين الدولتين العضوتين في نادي الدول الكبرى، مع الحفاظ على التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة. كيسنجر لعب دورًا بارزًا في إدارة الأزمات، مثل مفاوضاته لوقف إطلاق النار خلال حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 بين إسرائيل والعرب. ديرمر، بدوره، كان وسيطًا رئيسيًا في التفاوض على اتفاقيات وقف إطلاق النار مع لبنان وغزة، معتمدًا على مقاربة عملية تعترف بالحقائق السياسية والميدانية بدلًا من السعي لحلول شاملة قد تكون غير واقعية.
كيسنجر كان يرى أن الأمن القومي هو الأولوية العليا لأي سياسة خارجية، وهو مبدأ يتبناه ديرمر الذي يعتبر أن إسرائيل يجب أن تبني استراتيجياتها الدبلوماسية بناءً على أولوية حماية أمنها القومي، سواء من خلال التحالفات العسكرية أو ترتيب اتفاقيات وقف إطلاق النار.
كيسنجر كان يؤمن بأن النظام الدولي دائم التغير، وأن النجاح في السياسة يعتمد على التكيف مع هذه التغيرات فيما ديرمر يُظهر وعيًا مشابهًا، حيث سعى لتعزيز علاقات إسرائيل مع القوى الصاعدة مثل الصين والهند، إلى جانب تعزيز موقعها في الشرق الأوسط من خلال التطبيع مع الدول العربية.
صحيح أن هناك العديد من النقاط المشتركة بين الرجلين، وصحيح أن تجربة كيسنجر وظروفها تختلف عن تجربة وظروف ديرمر اليوم، إلا أن هناك أوجه اختلاف أيضاً فكيسنجر كان شخصية عالمية، وكان يضع مصالح الولايات المتحدة في قلب كل قراراته. أما ديرمر، فإنه يُركّز على أمن ومصالح إسرائيل كما أن كيسنجر كان ميّالًا للعمل في كواليس الدبلوماسية الدولية دون التركيز على الرأي العام. أما ديرمر، وبخاصة أثناء عمله سفيرًا لإسرائيل في واشنطن، أظهر قدرة كبيرة على استخدام الإعلام وصياغة الرسائل السياسية لتعزيز صورة إسرائيل.
رون ديرمر تأثّر إلى حد كبير بفلسفة هنري كيسنجر في السياسة الواقعية، سواء في منهجه البراغماتي أو في أولويته للأمن القومي واستغلال التوازنات الدولية لتحقيق مصالح دولته. ومع ذلك، يبقى ديرمر شخصية تعمل في سياق مختلف؛ يُركّز على إسرائيل كقوة إقليمية، بينما كان كيسنجر يعمل على تعزيز هيمنة الولايات المتحدة الأميركية على النظام العالمي. وبغض النظر عن المشترك والمختلف بين الرجلين، إلا أن ديرمر استطاع وخلال فترة قصيرة أن يبني سلسلة علاقات دولية تُخوّله لعب أدوار دبلوماسية على المستوى الدولي، وتفتح له الأبواب إذا ما نجحت التفاهمات التي قام بها من وراء الكواليس في اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، وما يتم العمل عليه في غزة، وربما لاحقاً في ملفات سوريا والضفة الغربية وغيرها أن يُثبّت موقعه الداخلي، فهل يكون ديرمر لاعبًا في السياسة الداخلية إذا أزيح نتنياهو في المرحلة المقبلة من واجهة المسرح الداخلي أم سيبقى يلعب أدوارًا تشبه ملهمه كيسنجر ويكون صانع السياسات والرؤساء؟