أكرم بركات يكتب عن شيعة لبنان.. التأريخ بعين حزبية!

تسلّم الشيخ أكرم بركات، إبن بلدة رب ثلاثين الجنوبيّة، قيادة مجمّع القائم في الضاحية الجنوبيّة لبيروت لمدة عشرين عامًا، وهي مسؤوليّة مرتبطة مباشرة بحزب الله، من هنا جاء كتابه "شيعة لبنان: الاجتماع الثقافي الديني 1900-2022" الذي يقع في 636 صفحة والصادر عن بيت السراج للثقافة والنشر عام 2025.

في البداية لا بد من الإشارة إلى أن صدور كتاب الشيخ أكرم بركات يُسلّط الضوء على نقطة هامة تتمثل بتكثيف الإصدارات عن الشيعة اللبنانيين من لدن بحاثّة وكتّاب طمعًا بمزيدٍ من التحقيق والتمحيص في تاريخ وحاضر ومستقبل طائفة تُثير اهتمام مراكز الأبحاث منذ ستينيات القرن الماضي حتى يومنا هذا، لأسباب عديدة، أبرزها في العقود الأخيرة، ارتباطها بالثورة الإسلاميّة في إيران من جهة وبالتراكم المقاوم في لبنان وفلسطين من جهة ثانية.

***

قسّم الكاتب بحثه عن شيعة لبنان إلى حقبتين، أولى تبدأ في العام 1957 وتنتهي في العام 1982. ثانية تبدأ في العام 1982 وتنتهي في العام 2022، وإن لم تنتهِ فعليًّا إلاّ في العام 2025، أي عام اصدار الكتاب؛ العام الذي أطل على مسافة أشهر قليلة من اغتيال سماحة الشهيد السيد حسن نصرالله؛ الحدث الذي دشّن مرحلة جديدة في التاريخ الشيعي اللبناني بكلّ ما للكلمة من معنى، وقد بدأت طلائعها تظهر ما بعد إعلان اتفاق وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024.

هنا ثمة استدراك سريع بأن المؤلف أكرم بركات، وهو شيخ مُعمّم وأستاذ جامعي، حرص على أن يُفصح بأنّ الكتاب معنيٌّ بـ”الإضاءة على الزاوية الثقافيّة الدينيّة”، وهي “سرّ القوة في المقاومة الإسلاميّة”، محاولاً بذلك تبرير القفز فوق محطات وأدوار وتجارب سياسية محددة.

***

اختار الباحث عام 1957 مُنطلقاً كونه عام وفاة السيد عبدالحسين شرف الدين في مدينة صور، بعد رحيل السيد محسن الأمين في العام 1952. وهي دلالة مهمة على ارتباط الطائفة والكتلة والمجموعة بالشخص، فهو مصدر نهضتها ومنتهاها. فمعظم المؤرخين يربطون بين السيد موسى الصدر وعودته إلى لبنان في العام 1959 وبين نهضة الطائفة الشيعية ونهاية الحرمان الواقع عليهم.

بدأ الكتاب بتسلسل موفق، لكنه لم يُكمل بالوجهة نفسها، وهذا يدلّ على أنه لم يُتابع منهج البحث التاريخي. وبرغم اعتماده على 67 مرجعاً ومصدراً موّثقاً، و86 موقعاً إلكترونيّاً و14 مجلة وصحيفة، وهذا يُعد غنى للقارئ، عدا عن المعلومات المنقولة من الأرشيف الداخلي للمؤسسات الحزبيّة السياسيّة المذكورة، إلا أنه لم يأتِ على ذكر المؤرخ العاملي الكبير منذر جابر في مصادره ومراجعه. وثمة خلل علميّ يتجلّى بتعدد التأريخ في النص الواحد، فنرى الباحث ينقل من التأريخ بالهجري إلى التأريخ بالميلادي، ولا يعمد إلى إيراد التأريخين معاً أو توحيدهما لاعانة القارىء على الفهم. أما الأخطاء الطباعيّة الفادحة فقد غيّرت المعنى كليّا في بعض الأحيان.

***

تناول الشيخ أكرم بركات التشيّع من النواحي الدينيّة والثقافيّة والاجتماعيّة، وما هو مفيد هنا، هو إيراد موقف السيد عبد الحسين شرف الدين من شاه إيران ورفضه استقباله برغم تكرار الموفدين الطلب ثلاث مرات. وهذا كلّه يتنافى مع ترويج البعض، ممن هم اليوم من معارضي النظام الإيراني الحاليّ، أن “السيد موسى الصدر أُرسل إلى لبنان عام 1959 بطلب من الشاه نفسه، لذا تم إخفاؤه من قبل جماعات لها صلة بالجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة”مع لفت النظر إلى أن السيد شرف الدين كان قد راسل الرئيس بشارة الخوري مُطالبا بـ”ثنائية الدولة والمقاومة الشعبية”!

ومن المثير للاهتمام أن “اتحاد الطلبة المسلمين” تأسس على يد السيد موسى الصدر كما هو حال “مبرة الإمام الخوئي” و”مجلس الجنوب” والكثير من المؤسسات التنموية قبل أن تصير تابعة لجهة حزبيّة أو شخصيّة.

الصورة التي يقدّمها الكاتب عن السيد الصدر تُظهره نبيًّا في قومه، وقد ورثه السيد حسن نصرالله، برغم أنّ “حزب الله” ترك إرث الصدر الحزبي لـ”حركة أمل”، وإتخذ لنفسه طريق روح الله الخميني، الذي لم يزر الجنوب أو لبنان مُطلقًا.

ويُبرز الكتاب العلاقة المميزة بين الخميني والصدر ودور الأخير في اطلاق سراح الخميني في العام 1963 إثر خروج المظاهرات في طهران دعمًا له حين اعتقله الشاه، وكان السيد الصدر يرسل أموالا  للإمام الخميني دعمًا للثورة، وبالمقابل أرسل الشعب الإيراني الأموال للشعب اللبناني في مواجهة نتائج الاعتداءات الإسرائيلية. ولم يكن الصدرصاحب فضل على لبنان فقط، بل على الثورة الإيرانية من خلال الاطلالات الاعلاميّة التي نسقها الصدر للخميني خلال مرحلة نفي الأخير إلى فرنسا عبر تأمين مقابلات له مع صحيفة “لوموند” الفرنسيّة.

ويشير الكتاب إلى أن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ومؤسسه السيد موسى الصدر ارتبطوا بالمرجعيّة النجفيّة التي كانت حينها بقيادة السيد محسن الحكيم ولاحقاً باسم السيد علي السيستاني، في حين ربط حزب الله نفسه وجمهوره بمرجعيّة الخميني (قم) وبعدها بمرجعية السيد علي خامنئي.

هذا الإرث التاريخي أفضى في التسعينيات إلى خلافات بين اتباع الطرفين، وهو خلاف إقليمي (سوري – إيراني) تمظهر بطابع مرجعيّ – ديني. وانتهى مع تسلم السيد عباس الموسوي في العام 1991 قيادة المقاومة خلفاً للشيخ صبحي الطفيلي، وتابع خطه السيد حسن نصرالله بُعيد اغتياله.

***

تحدّث الشيخ بركات عن 31 رجل دين شيعي، ميّز بعضهم فيما لم يُعطِ البعض الآخر مساحة كافيّة كما يستحق، ونسيّ البعض منهم أيضاً، ولم يرتب أسماءهم بحسب الزمن الذي نشطوا خلاله. فالسيد محمد حسين فضل الله، برأيه، يستحق 3 صفحات ونصف الصفحة فقط. وهو الذي نشط سياسيّاً وإعلاميّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً ودينيّاً ودعويّاً، إضافة إلى نشاطه الوحدويّ. وهذا التغاضي ينمّ عن لؤم سياسي يتمثل بعدم الاعتراف بمرجعيته الدينية، والتي لم تكن يومًا لدى الشيعة مِنحة من أحد، ولم تكن أصلاً تعود لموقف سياسي، ولو كان مناقضاً لموقف الطرف الآخر. فمسجد الإمام الرضا ومسجد النبعة ومسجد الحسنين غابوا عن أوراق الكاتب، فما باله بعشرات المؤسسات التربويّة والاجتماعيّة والثقافيّة!

إقرأ على موقع 180  تحليل إنتخابات 2018: دوائر وطوائف وأحزاب وتحالفات (1)

وما يُعرف عن السيد فضل الله أن كوادر المقاومة ترّبت على يديه وفكره، وظلّ السيد حسن نصرالله يذكره كأستاذ له حتى آخر لحظة من حياته.

وما يلفت النظر أيضاً عدم ذكر عدد من المشايخ البارزين كالشيخ حسين كوراني، السيد نجيب خلف، الشيخ علي العفيّ والشيخ محسن عطوي. من هنا السؤال هل ينقل الكاتب صورة مُختارة بحسب هواه ورغبته؟ وألا يجب أن يقف الباحث على مسافة واحدة من الجميع؟

***

وبرغم أن السيد موسى الصدر كان من أوائل الداعمين للثورة الإسلاميّة في إيران وللإمام الخميني إلا أن شيعة لبنان اختلفوا وانقسموا أولا مع وضد ولاية الفقيه، وثانيًا هل المقاومة لبنانيّة أم إسلاميّة؟ صدريّة أم خمينيّة؟ محليّة أم أمميّة؟

وربما يعود تخصيص الكتاب للبحث حول “الاجتماع الديني الثقافي” لكون الباحث أكرم بركات لا يعترف بالتاريخ اليساري في البيئة العامليّة، بحيث أنه نفاه وغيّبه، ولم يكن ثمة إشارة إلى تاريخهم ونشاطهم الثقافي.. وهم الذين قدموا مئات وربما آلاف المنح الدراسيّة للفقراء الشيعة إلى الإتحاد السوفياتي ودول المنظومة الشرقية قبل أن تفتح إيران أبوابها أمام طلاب حزب الله، والجزائر وسوريا أمام طلاب حركة أمل، فالعامليون تعلّموا أحسن تعليم جامعي في زمن اليسار اللبناني (شيوعي وقومي عربي وبعثي إلخ.)، حيث تخرّج مئات الأطباء والمهندسين والأدباء والشعراء والبحاثة والمثقفين. من هنا نكتشف أن الكاتب يدمج بين التاريخ وموقفه الشخصي من دون أن يرد سطر واحد عن هذا اليسار منذ العام 1957 حتى يومنا هذا.

***

نتيجة الدعم المالي المتدفق إلى شيعة لبنان، ولا سيما من إيران، كان التبليغ الديني قد بدأ ينتشر بشكل سريع، وبخاصّة أن المُعمّمين لم يكونوا من الشخصيات والفعاليات المُحببة في المجتمع العامليّ إلى أن جاءت الثورة الإسلاميّة في إيران وكرّست وجودهم وأدخلتهم كفئة وطبقة أساسيّة في المجتمع الشيعي. وهو ما عبّر عنه الشيخ بركات بالقول: “بسبب الدعم الإيراني العملي لمقاومة هذا الاحتلال وبسبب ما أحدثته ثورة الإمام الخميني من الشعور بعزة الانتماء الديني المشتمل على الانتماء السياسي لاطروحة ولاية الفقيه الدينية، نشطت حركة التبليغ…” (ص 321).

والملاحظ أن الكاتب يخلط بين موقفه الشخصيّ وبين دوره كباحث حيث لا يرى التشيّع إلا من عند “حزب الله” والعكس أيضًا، علمًا أن الحزب لم يقدّم نفسه في خطابه المُعلن بصفته حزبًا مذهبيًّا. ومن الاشارات السلبيّة في الكتاب هو تغييب الصراع الشيعي-الشيعي في ثمانينيات القرن الماضي وعدم الإتيان على ذكر رئيس حركة أمل نبيه بري أو دور الرئيس الراحل كامل الأسعد.

ويبدو جليّا أن الأرشيف الذي اعتمده الكاتب هو أرشيف حزبي 100%. فكما فعل حيال اليسار اللبناني، متخطياً التاريخ، عمد أيضاً إلى تخطي مرحلة الأمين العام الأول لحزب الله الشيخ صبحي الطفيلي و”ثورة الجياع” التي قادها في تسعينيات القرن الماضي وما أحدثته من أثر في البقاع وداخل الطائفة الشيعية ككل.

***

يُكرّس الكاتب حيزاً كبيراً لوحدة الأنشطة الثقافيّة في حزب الله التي كان يقودها هو شخصياً، وهو أمر غير مُحبّذ، أولاً لأن نشاط الشيعة الثقافي لا يُختصر بوحدة ثقافية حزبية ضيقة. كذلك نرى في الكتاب محاولة لتمجيد المسجد ومجالس العزاء والمجمّعات الدينية والحوزات، من دون أي نقد لهذه الظاهرة حيث يجب انتقادها.

ولم يتطرّق الكتاب إلى التحديات التي واجهت وما تزال هذه البيئة التي تستحق أفضل القيادات، بل سطّر نظريات وأفكاراً مثاليّة، ولم يأتِ على ذكر أزمة استبعاد المرأة من المناصب العُليا في حزب الله.

***

الأدلجة فرضت نفسها عبر كتب ثقافيّة توعوية لمجتمع حزب الله، فجعلت المجتمع الشيعي عبارة عن “غيتو” ثقافي اجتماعي منحصر بمنطقة لا تتعدى الـ40 كيلومتراً مربعاً، كجمهورية لها حدودها وعاداتها وقوانينها وجيشها ونشاطها الاقتصادي والثقافي والتعليمي والترفيهي.. هذه البيئة هي “دولة حزب الله” التي ولدت وعاشت في الضاحية الجنوبيّة لبيروت، برغم أن الشيعة منتشرون في الجنوب (جبل عامل) والبقاع والشمال وكسروان وفي كلّ مدينة. هذه الدويلة المُنظمة المُرتبة الموّحدة، لها تلفزيونها وإذاعتها ومجلتّها ومدرستها ودور نشرها ومعاهدها الثقافيّة وجامعاتها وإعلامها ومؤسساتها الاقتصادية والاجتماعية والتأديبية والتنظيمية، ولم يفتْ العقل الحزبي، المُدير لها، أية صغيرة أو كبيرة إلا ونظمّها وتدّخل فيها حيث وصل إلى تأسيس معهد لتعليم اللطميّات عدا عن الترفيه مثلاً.

***

ختاماً، نحن أمام محاولة توثيق وأرشفة لتجربة “الربيع الأربعيني” أي عمر تجربة حزب الله (1982 ـ 2022)، لكننا نجد في المُحصلّة كتاباً يسلط الضوء على مجتمع نشيط نهض خلال عقود قليلة من الهامش إلى عالم الفعل والمشاركة بعد تهميش مزمن. وإن كان هذا الكتاب يُغيّب الباطن الشيعي ولا يُظهر إلاّ ما يطفو على السطح.

لكن لا بد من التساؤل هل تكفي 636 صفحة للكلام عن تاريخ الشيعة على مدى قرن وربع؟ بالطبع لا، خصوصًا أنه عبارة عن كتاب توثيقي وتجميعي وتصويري غير بحثي.

Print Friendly, PDF & Email
سلوى فاضل

صحفية لبنانية

Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  "هآرتس": نتنياهو يصوّب على إيران.. والهدف بايدن!