

جاء هذا الإعلان الإسرائيلي بعد نقاشات داخلية حادة في أروقة المجلس الوزاري المصغَّر للشؤون السياسية والأمنية (الكابينت)، عكست حجم التوتر داخل المنظومة الإسرائيلية بشأن مستقبل الحرب وشكل الحسم المطلوب.
لكن ما اعتُمِد لا يُمثّلِ مجرد خطة عسكرية تقليدية، بل يُحاكي في تفاصيله الفصلَ الأبشعَ من فصول حرب الإبادة المستمرة على غزة منذ ما يزيد عن تسعة عشر شهرًا، والتي لم تتوقف في خلالها آلة القتل والدمار والتشريد بحق الفلسطينيين المُحاصَرين بين نار البر والبحر والجو.
فالعملية التي اختير لها اسم يَحمل دلالاتٍ توراتيةً وتاريخية، تتجاوز حدودَ الأهداف الميدانية المؤقتة إلى محاولة إحداث تغييرات بعيدة المدى في البنية الجغرافية والديموغرافية والاجتماعية لقطاع غزة، عبر فرض وقائع تهدف لا إلى “حسم الصراع مع المقاومة”، بل إلى حسم الوجود الفلسطيني ذاته، عبر إعادة هندسة القطاع بما يتماشى مع التصورات الإسرائيلية المتطرفة حول “غزة ما بعد الحرب”.
“عربات جدعون” وترامب
على وقع الاستعدادات الجارية لزيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط، في أول جولة سياسية خارجية له منذ وصوله إلى البيت الأبيض، والتي شملت السعودية وقطر والإمارات، كانت حكومة الاحتلال تُنجز الترتيبات النهائية لإطلاق خطتها العدوانية الجديدة في قطاع غزة.
ففي السادس من مايو/أيار الجاري، أقرَّ مجلس الأمن القومي الإسرائيلي رسميًّا خطة “عربات جدعون”، التي تهدف إلى القضاء على حركة “حماس”، وترسيخ وجود عسكري دائم في القطاع، وضمان استعادة الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى المقاومة.
وعلى الرغم من أن الإدارة الأمريكية أعلنت رسميًّا، عبر تصريحات ترامب وفريقه المعني بمتابعة ملف غزة، أنها لا تؤيد شن عملية عسكرية موسَّعة في القطاع، بل إنّها وسّعت من حرارة التواصل غير المباشر مع حركة “حماس”، الأمر الذي أفضى إلى إطلاق سراح الجندي الأمريكي-الإسرائيلي عيدان ألكسندر، فإن تلك المواقف لم تُترجَم إلى خطوات فعلية للجم العدوان الإسرائيلي أو إيقاف حرب الإبادة الجارية.
بل على العكس، واصل الاحتلال تعنتَه، فاستمر في تشديد الحصار، ومنع إدخال أية مساعدات غذائية أو إنسانية منذ انهيار اتفاق التهدئة في منتصف مارس/آذار المنصرم، ما تسبب في تفاقم المجاعة بين سكان القطاع.
لم يكن هذا الحصار إجراءً منفصلًا أو أمنيًّا بحتًا، بل جاء منسجمًا تمامًا مع الخطة الإسرائيلية الأشمل التي تقوم على إعادة هندسة غزة ديموغرافيًّا واجتماعيًّا، باستخدام أدوات مثل التجويع، النقل القسري، والابتزاز الإنساني بوصف ذلك جزءًا من الضغط العسكري الشامل.
ما يجري ليس مجرد تطور في أدوات الحرب، بل هو إعادة تعريف كامل لكيان غزة سياسيًّا وديموغرافيًّا، ومحاولة حسم طبيعتها المستقبلية ضمن مشروع الحسم الصهيوني، عبر وسائل تبدو إدارية وإنسانية، لكنها في الجوهر امتداد مباشر للآلة العسكرية التي تسحق الحجر والبشر على السواء
وفي هذا السياق، برزت الخطة الأمريكية “الإنسانية” التي أعلنها السفير الأمريكي في دولة الاحتلال، وتلاها المبعوث الخاص ستيف ويتكوف، بوصفها بديلًا للآليات التقليدية التي كانت تشرف من خلالها المؤسسات الدولية والمحلية على توزيع المساعدات.
غير أن جوهر هذه الخطة لم يكن إنسانيًّا على الإطلاق، بل كان بمثابة إعادة تغليف للخطة الإسرائيلية الأصلية الهادفة إلى السيطرة على المساعدات، مع تعديلٍ شكلي يتفادى الخلاف داخل الحكومة الإسرائيلية حول تولِّي الجيش مسؤولية التوزيع المباشر، فأُحيلَت إلى شركات أمنية أمريكية خاصة.
ومع أن واشنطن واصلت التصريح بأنها لا تدعم توسيع العملية العسكرية، بل وألغى نائب الرئيس الأمريكي جاي. دي. فانس زيارة كانت مقررة إلى الأراضي المحتلة خشية تفسيرها دعمًا ضمنيًّا للعدوان، فإن تفاصيل الخطة الأمريكية وسياقاتها العملية تتقاطع بالكامل مع التوجهات الإسرائيلية، فهي تتعامل مع الواقع على أساس استمرار القتال، وتؤسِّس لرؤية تشرف على السكان تحت القصف، بدلًا من الضغط الجاد لوقف الحرب.
وهكذا، تتكامل أدوات “الدعم الإنساني” مع أدوات القتل، وتُستبدل الحماية الدولية بالدعاية المضلِلة، وتتحول المساعدات إلى غطاء سياسي-إعلامي للخطة الإسرائيلية الأوسع، بما يشكِّل مساهمةً أمريكيةً فعليةً – وإن كانت غير مباشرة – في تثبيت وقائع الإبادة على الأرض بدلًا من التصدي لها.
بين “الغيتوهات” والمناورة البرية
بالتزامن مع إعلان انطلاق عملية “عربات جدعون”، كُشف عن تفاصيل مقلقة حول هيكلها المرحلي، إذ أوردت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية أن العملية تتوزع على ثلاث مراحل متتالية، بدأ أولها فعليًّا عبر ضربات جوية مكثفة واقتحامات برية محدودة، لتُتبع بمرحلة ثانية تشمل توسيع العمليات البرية، وإعادة توزيع السكان في ما يُسمى “ملاجئ آمنة” في رفح، كجزء مما يُسوَّق له على أنه “خطة إخلاء إنساني”.
وأما المرحلة الثالثة، فتتوَّج باقتحام بري واسع النطاق يهدف إلى احتلال تدريجي لأجزاء كبيرة من القطاع، وترسيخ وجود عسكري طويل الأمد يفرض واقعًا جديدًا على الأرض، يعيد تعريف غزة سياسيًّا وديموغرافيًّا وأمنيًّا.
وعلى الرغم من الحديث الإعلامي المتكرر بشأن أهداف مثل “تحرير الرهائن” و”تفكيك حماس”، فإن جوهر العملية يتجاوز هذه الشعارات نحو هدف مركزي يتمثل بفرض سيطرة عسكرية كاملة، وإعادة هندسة توزيع السكان عبر إنشاء مناطق عازلة مغلقة تشبه “الغيتوهات”، تقيِّد حركة المدنيين، وتمنح الجيش الإسرائيلي حرية العمل في بقية مناطق القطاع.
وتتضمن الخطة كذلك نقل المساعدات إلى تلك المناطق عبر شركات أمريكية خاصة، في ظل عزل تام لأي دور للمؤسسات الدولية أو المجتمعية المحلية، بما يضع الحياة اليومية للمدنيين تحت إشراف أمني مشروط ومجتزأ.
على الورق، تبدو الخطة شاملة، إذ تدمج بين الضغوط العسكرية والنفسية والدبلوماسية، وتُبقي الباب مفتوحًا أمام وقف مؤقت للعمليات إذا ما قبلت حركة “حماس” بالشروط الإسرائيلية. لكنها في جوهرها ليست سوى نموذج متكامل للإبادة الممتدة والمغطاة سياسيًّا، وتهدف إلى نقل المجتمع الفلسطيني في غزة من حال المقاومة والصمود إلى حال الخضوع أو التهجير، أو البقاء في مناطق محاصرة تُدار كمعسكرات جماعية.
وفي تحليل نشره معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، تُسلِّط الخطة الضوء على خمس آليات ضغط موازية: إقامة احتلال دائم في مناطق معينة؛ وإجلاء السكان من مناطق الاشتباك؛ ومنع وصول المساعدات للمقاومة؛ وتفكيك بنية “حماس” التنظيمية؛ وممارسة ضغوط نفسية وإعلامية على القادة والمجتمع بهدف دفعهم إلى الانهيار الداخلي. ويتضح أن هذه الآليات صُمِّمت لتَجمع بين أدوات الحصار والإبادة والإدارة القسرية، وتمكين الاحتلال من تثبيت وقائع جديدة دون التورط المباشر في إدارة شؤون السكان.
بهذا المعنى، تُحاكي خطة “عربات جدعون” في تصميمها التجريبي الجمع بين أكثر أدوات الاحتلال الإجرامية فاعلية التي جُرِّبت في خلال الشهور السابقة، وفي الوقت ذاته تفتح الباب أمام شكل مستحدَث من الاحتلال، لا يقوم على الإدارة التقليدية، بل على الإحالة إلى جهات أمنية ومدنية أمريكية أو دولية تعمل كقناع ناعم لسلطة السيطرة الإسرائيلية. ويتمثل أحد أبرز تجليات هذا النمط الجديد بالعمل على إنشاء سجون جماعية، أو مناطق عزل كبرى، تُدار إداريًّا وأمنيًّا من قبل شركات أمنية خاصة، وتُجهَّز لها منصات تنسيقية مثل “مؤسسة غزة” التي أعلنت عنها الإدارة الأمريكية بوصفها بديلاً للمؤسسات الفلسطينية، في ما يُعَدُّ تطبيقًا محدَّثًا لنموذج “الوكيل الدولي”، مع الإبقاء على السيادة الفعلية بيد الاحتلال.
وبالتالي فإن ما يجري ليس مجرد تطور في أدوات الحرب، بل هو إعادة تعريف كامل لكيان غزة سياسيًّا وديموغرافيًّا، ومحاولة حسم طبيعتها المستقبلية ضمن مشروع الحسم الصهيوني، عبر وسائل تبدو إدارية وإنسانية، لكنها في الجوهر امتداد مباشر للآلة العسكرية التي تسحق الحجر والبشر على السواء.
تُختصر “عربات جدعون” في كونها خطة عسكرية تتلخص فيها أبشع التصورات الإجرامية للاستعمار الاستيطاني، لا تهدف إلى إدامة الحرب فحسب، بل إلى إعادة تعريف غزة من حيث المكان والسكان، وفق مقاس مشروع استعماري يعيد إنتاج نفسه عبر النار والأسطورة
إعادة هندسة غزة على أنقاض نكبة جديدة
في قلب خطة “عربات جدعون”، يبرز أحد أكثر الإخفاقات الإسرائيلية وضوحًا منذ بدء الحرب، وهو غياب أي طرف محلي يمكن فرضه كبديل سلطوي في قطاع غزة بعد تفكيك البنية الإدارية الحالية.
فجيش الاحتلال، ومراكز تقييم السياسات في دولة الاحتلال، شخّصوا هذا “الفراغ السياسي” بوصفه أحد أبرز معوقات تثبيت نتائج المناورة العسكرية، إذ أن القضاء على البنية الحاكمة دون توفير بديل موالٍ يعني أن المقاومة ستعيد إنتاج نفسها بمجرد انسحاب القوات، ما يُعَدُّ فشلًا استراتيجيًّا.
وعلى الرغم من كل الادعاءات الاستخبارية بشأن تدمير البنية التحتية للمقاومة، تبقى الحقيقة الأعمق أن الركائز الوطنية في غزة ليست لوجستية فقط، بل متجذرة في وعي الناس، ما يجعل أية محاولة لإحلال قوى بديلة بالقوة مجرَّد وهمٍ مكلِف.
ولهذا، جاءت خطة “عربات جدعون” لتقترح معالَجةً عسكريةً مباشرةً لهذا الفراغ، عبر الإبقاء على جيش الاحتلال داخل غزة، والانتقال إلى مرحلة ملاحقة أمنية دقيقة من بيت إلى بيت ومن زقاق إلى زقاق، وتعميم نموذج رفح التدميري على مجمل القطاع، في ما يُشبه إعادة صياغة القطاع بوصفه منطقة أمنية مغلقة.
ومن صلب هذه الرؤية، تسعى “إسرائيل” إلى إعادة ترسيم الخريطة السكانية لقطاع غزة، من خلال تهجير واسع النطاق نحو الجنوب، لا سيما إلى ما بعد محور “موراغ” (بين مدينتي رفح وخان يونس، ويمتد من البحر المتوسط غربا حتى حدود قطاع غزة شرقاً)، إذ تُخطط لإنشاء منطقة إنسانية أولية تستوعب مِائة ألف نازح، قابلة للتوسع، ضمن مزيج من إعادة التهجير، وإنتاج واقع سكاني مقيد.
والأخطر أن العملية لا تقف عند حدود الميدان، بل تَحمل اسمًا توراتيًّا (“عربات جدعون”) يُستحضَر فيه البعدان الرمزي والديني. فجدعون، كما في سفر القضاة، هو المنقذ الذي قهر أعداء بني إسرائيل بجيش صغير وخطة محكمة. كما أن “إسرائيل” استخدمت الاسم نفسه سابقًا في نكبة 1948 (“عملية جدعون”) حين احتلت بيسان وطردت سكانها، ما يكرِّس رمزية التسمية بوصفها مخططًا مبيَّتًا لإعادة إنتاج النكبة، هذه المرة في غزة.
في سياق هذه العملية، لا تتجه “إسرائيل” إلى إعادة احتلال غزة فحسب، بل إلى خلق بنية هجينة من “الإدارة العسكرية والتمويه المدني”، عبر مؤسسات بديلة مثل “مؤسسة غزة” التي طُرحت أمريكيًّا، وهيئات دولية تعمل كغطاء لإدارة السكان. وهو نموذج يكرِّس السيطرة دون المسؤولية، ويستنسخ نموذج الضفة الغربية لكن ضمن سياق أشد قمعًا وأوسع دمارًا.
وما يضاعف من خطورة الخطة أنها لا تُطرح بوصفها حلًّا مؤقتًا، بل كـ”خطة الحسم الشاملة”، التي تدَّعي امتلاك كل مفاتيح إنهاء المعركة، بينما تخفي في باطنها مشروعًا لتفكيك هوية الشعب الفلسطيني وإزاحته عن أرضه.
لكن، مع ذلك، تظل الخطة مفتوحة على ثغرات كبيرة، أبرزها غياب أي تصوُّر عملي لـ”اليوم التالي”، ما دفع نتنياهو إلى العودة مجددًا إلى تأكيد خطة “ترامب” لترحيل الفلسطينيين خارج غزة، على الرغم من إدراكه أن هذا الخيار لا يحظى بأية ركائز عملية في ظل صمود الفلسطينيين، والرفض الإقليمي والدولي لهذا النموذج الإجرامي من الحلول.
في الخلاصة، تحمل خطة “عربات جدعون” ملامحَ العدوان المستدام كلَّها، وتُجسِّد الرؤيةَ التصفويةَ لليمين الصهيوني الحاكم، لكنها –كالعادة– تنطلق من افتراض خاطئ بأن بالإمكان تصفية قضية شعب، عبر خطة عسكرية مدجَّجة بالقوة والرمز والأسطورة. غير أن هذا الشعب، الذي أفشل على مدار عام ونصف كلَّ محاولات كسره، ليس في وارد الاستسلام، ولا الانسياق تحت عنف “إعادة الهندسة” مهما تبدلت أدواتها أو تعمقت خدعها.
وهكذا، تُختصر “عربات جدعون” في كونها خطة عسكرية تتلخص فيها أبشع التصورات الإجرامية للاستعمار الاستيطاني، لا تهدف إلى إدامة الحرب فحسب، بل إلى إعادة تعريف غزة من حيث المكان والسكان، وفق مقاس مشروع استعماري يعيد إنتاج نفسه عبر النار والأسطورة.