تراثيات مصرية كانت ضرورية.. واندثرت

تهف صور أشياء مع كل نسمة تحمل ذكرى من ذكريات الماضي. تهف فأسارع بالاتصال برفيقة من رفيقات هذا الماضي الغني بأشخاصه وأشيائه وحكاياته، أتحرى عندهن، وبخاصة عند نبيلة وأميرة، صدق وتوابع ما هف من ذكريات هذا الصباح. أتحرى أيضاً قدر تعاستهن أو سعادتهن بالتعامل في حينها مع تلك الأشياء.

يتصدر قائمة هذه الأشياء “وابور الجاز” أو “البريموس”، الاسم الذي اشتهر به في مجتمعنا كما في المجتمعات الأوروبية. يأتي ذكره الآن ومعه تهف رائحة الكيروسين وهو يتبخر. يزوره سباك الحي المحترم كلما أصابه داء الصمت المريب أو انسداد مجرى الهواء أو البخار عبر ما كنا مع الخبراء نسميه بالفونيه. الفونيه فيما أذكر هي رئة الوابور فإن أصابها الانسداد توقف الوابور عن العمل وهو شر لا تتحمله سيدة البيت، فيجري تكليفنا بالذهاب إلى السوق لنشتري الإبرة بمليم أو “نيكله” لنوفر تكلفة الزيارة والكشف وروشتة العلاج التي يوصي بها أو ينفذها السباك المحترم. أذكر أصعب الأوقات وأشدها حرجاً، كانت حين يقع انسداد مجاري بخار الكيروسين الملتهب يوم الغسيل وأيام الاستحمام والعزائم.

كانت للسبّاك مهمة أخرى لا تقل أهمية وإن كانت السبوبة لا تقل تفاهة عن سبوبة انسداد الفونيه في البريموس. ففي كل حنفية من حنفيات ذلك الزمن توجد “جلدة”، إن هي نعمت أو تفرطت أو تآكلت توقفت الحنفية عن أداء وظيفة التحكم في حجم وسرعة المياه المتسربة منها. يأتي السبّاك، وفي العادة كان يمر على دراجة ويعلن عن وصوله بالصوت العالي الملحن غالباً أو مستعيناً بأجراس الدراجة.

***

نذكر أيضا “مبيض النحاس”. رجل مكتمل القوة يستخدم قدميه في تبييض النحاس أكثر مما يستخدم يداه. يصل إلى شارعنا وهو يدفع أمامه عربة صغيرة بعمق كبير. يجمع من الأواني النحاسية ما عاد منها اللون أقرب إلى اصفرار النحاس، الأمر الذي يضر بصحة مستخدميه. كان مؤتمناً على ما يأخذه معه عدداً وتبييضاً. كان أيضا جاهزاً ومستعداً بعجائن وسوائل الزئبق ليقدم خدمة التبييض الفوري على سلم المنزل أو فوق السطوح. كثيراً ما كنتُ أتوقف أمام محال صنع الأواني النحاسية كلما زرت جدتي وبيتها يقع في شارع “النحاسين” في حي باب الشعرية بالجمالية. لم تعد الناس تستخدم النحاس في الطبخ ولا عادت هناك مهمة تبييض نحاس واختفت محال صنع الأواني النحاسية وراح بعضها يروّج للأواني الزجاجية أو المصنوعة من الألومنيوم، وما زال الشارع يعرف لدينا نحن أبناء الحي القديم بشارع النحاسين.

***

ذكرت مبيض النحاس وعربته عميقة البطن أو القلب وكان واجباً أن أذكر متجولاً آخر بعربته عميقة البطن وهو بائع ومشتري “الروبابيكيا”. الكلمة كما عرفت بعد سنوات أصلها إيطالي وهي تتكون من كلمتين روبا ومعناها “هدوم” وفيكيا ومعناها “قديمة”. أّذكره ماراً على شقق عمارتنا يدق على أبوابها بدون تردد أو استئذان معلناً وصوله واثقاً أن أغلبية السكان مشتاقون لرؤيته وتبادل المنفعة معه. رأيته هو نفسه وقد استخدم عنواناً مختلفاً لمهنته، صار يمارس المبادلة بين “الهدوم” القديمة والأواني والأشياء المصنوعة من معادن لا تصدأ، وبالفعل اتخذت المهنة اسماً جديداً ومبتكراً وهو “سكسونيا” نسبة إلى إقليم ألماني معروف. وفي مرحلة تاريخية لاحقة صارت المبادلة تجري بين “الهدوم” وأشياء أخرى مصنوعة من ابتكار جديد أطلقوا عليه مادة “البلاستيك” وأقبل على منتجاته ربات البيوت، أكثرهن راضيات ومرحبات والقليل منهن مترددات و”متأنفات”.

***

لا أذكر أنني في تلك الأيام دخلت مطبخاً لم توجد فيه “نملية”، ولا أّذكر أنني في أيامنا هذه دخلت مطبخاً ووجدت فيه نملية. كان قدامى الأهل، مع هبوط الليل، يحفظون ما تبقى مما أنتجوا وأبدعوا واستهلكوا خلال النهار في نمليتهم المجهزة بشباك ومبيدات من نوع مخفف لحماية المأكولات ضد الحشرات وبخاصة النمل.

أذكر موقعها في مطبخنا تماماً كما أذكر الشباك البحري موقعاً لصينية القلل المبهرة بلمعانها ولمعان أغطية القلل. أذكر بالإحساس ربما برودة الماء المحفوظ في القلل والمعرض لنسائم باردة تهب عليها من الشمال مارة بفخار أثبت على مر القرون نجاعته الأسطورية في تبريد الماء وتنقيته من الشوائب. وجود هذه القلل لم يمنع ولم يتعارض مع وجود ثلاجة تعمل بألواح الثلج وليس بالكهرباء. على كل حال لم تكن ألواح الثلج متاحة دائماً أو بسهولة في منافذ البيع ولا مع شباب التحميل والتوصيل.

***

إن نسيتُ فلن أنس الشبابيك “الشيش”، أي المصنوعة بذكاء وفن من الخشب بحيث تسمح بمرور الهواء منقى في موسم العواصف وفاقداً سخونته أيام الصيف شديد القيظ، وبحيث لا تسمح للذباب بإقلاق رب البيت ساعة القيلولة. أذكر تحشيد قوانا كأطفال و”شغيلة” وربة بيت من أجل طرد الذباب قبل إغلاق “الشيش” وإظلام الغرفة.

وإن نسيتُ فلن أنسى استمتاعي في عصاري أيام طفولتي بسحر ما كانت تعرضه علينا، نحن أطفال الحي، السفيرة عزيزة  والأراجوز، وما كانت تبيعه لنا بقرش لا أكثر عربات جروبي المحملة بشتى أنواع الجيلاتي الإيطالي.

إقرأ على موقع 180  الحركة الوطنية المصرية.. الخديوي عباس والأقباط

وإن نسيتُ فلن أنسى أنني لم أنسَ أنني عشت طفولة سعيدة.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

دبلوماسي مصري سابق، كاتب متخصص في القضايا الدولية

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  البيئة المقاومة.. من أين تستمد قوتها؟