مفاجأة سيبيريا.. أوكرانيا تُخاطر بتغيير قواعد الحرب

سيبقى الهجوم الذي نفذته الاستخبارات الأوكرانية ضد أربعة مطارات روسية في سيبيريا في الأول من حزيران/يونيو عالقاً في أذهان المؤرخين العسكريين، بوصفه الضربة الأخطر حتى الآن في الحرب الروسية-الأوكرانية المستمرة منذ ثلاثة أعوام ونيف.     
ثمة إجماع على أن عملية “شبكة العنكبوت” التي استهدفت مطارات دياغيليفو وألينيا وإيفانوفا وبيلايا، على مسافات تتراوح بين 1900 كيلومتر و4500 كيلومتر عن الحدود الأوكرانية بواسطة مسيّرات من طراز “بي. أو. في.” انطلقت من شاحنات عائدة لشركة وهمية أسّسها عميل أوكراني، تعتبر نجاحاً أمنياً غير مسبوق لكييف. وفي المقابل، تسبب الهجوم بصدمة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي سارع إلى توظيفه في معرض الأسباب التي تجعله يرفض التفاوض “مع هؤلاء الإرهابيين”.
إن تدمير أو تضرر نحو 20 قاذفة استراتيجية من طراز “تو-95” و”تو-22“، بحسب التقديرات الأميركية (أوكرانيا تقول إنّها دمّرت 41 قاذفة بينما تقول روسيا أن 13 قاذفة فقط تضرّرت ويمكن إصلاحها)، يترك أثراً يتجاوز الميدان الأوكراني ليمس بقدرة “الثالوث النووي”، الذي يُوفر الحماية الاستراتيجية لروسيا من الأسحلة النووية الأميركية والغربية عموماً. القاذفات الاستراتيجية التي تملك منها روسيا مئة طائرة، إلى جانب الصواريخ العابرة للقارات والصواريخ التي تنطلق من الغواصات، هي “الثالوث” الذي يحفظ لروسيا مكانةً متقدمةً بين القوى العظمى النووية.
دون ريب، التأثير المعنوي للهجوم الأوكراني، الذي استغرق الإعداد له سنة ونصف السنة، يأتي ضمن سياقات اعتمدتها الاستخبارات الأوكرانية للعمل خلف خطوط الجبهة. وأثمرت نجاحات ملموسة بفضل التفوق الذي يتمتع به الجيش الأوكراني في مجال الحرب الحديثة. هذه الحرب تعتمد أكثر على المُسيّرات الجوية والبحرية، سلاحاً رئيسياً، حقّق توازناً إلى حد كبير مع التفوق الروسي البري، الذي ما يزال يعتمد على الكثافة العددية في الهجمات. (التقديرات الغربية تتحدث عن خسارة روسيا لما يصل إلى نحو ألف جندي بين قتيل وجريح يومياً على الجبهات البرية).
من إغراق الطراد “موسكوفا” عام 2022 ولجوء القطع الحربية لأسطول البحر الأسود إلى أماكن بعيدة عن متناول المسيّرات الأوكرانية، إلى تفجير جسر كيرش بين الأراضي الروسية وشبه جزيرة القرم التي ضمّها بوتين عام 2014، وصولاً إلى استهداف ما يصل إلى ربع مصافي النفط الروسية وضرب مطارات عسكرية وتفجير جسور روسية في الأراضي المحاذية لأوكرانيا، إلى اغتيال عدد من الجنرالات الروس في قلب المدن الروسية، وإلى القدرة على تعطيل المطارات المدنية في موسكو مراراً، بسبب كثافة هجمات المسيّرات الأوكرانية بالمئات على نحو شبه يومي في الآونة الأخيرة، وصولاً إلى ضربات سيبيريا وما قيل عن محاصرة المُسيّرات المعادية لمروحية بوتين خلال عودته من تفقد منطقة كورسيك الشهر الماضي، تسعى كييف إلى تكبير ثمن الحرب على روسيا.
على رغم الأثر الكبير معنوياً ورمزياً، والذي جعل كثيرين من الروس يطالبون برد نووي على كييف، فإن بوتين يؤثر الرد بتكثيف الهجمات الجوية بالمُسيّرات والصواريخ، وفي تصعيد الضغط على الجبهات
ما هي التأثيرات المباشرة لضربة سيبيريا على مجرى الحرب؟
في هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن قاذفات “تو-95” و”تو-22” هي من صنع سوفياتي وتعود إلى حقبة الحرب الباردة. وبموجب معاهدات الحد من التسلح النووي مع الولايات المتحدة، يُفترض أن تبقى هذه القاذفات في أماكن مكشوفة، وكذا الأمر بالنسبة للقاذفات الأميركية من طراز “بي-52″ و”بي-1” و”بي-2” في الولايات المتحدة.
ومع أن الطائرات الجديدة التي تُصنّعها روسيا أكثر تطوراً من القاذفات السوفياتية، لكنها تفتقر إلى الميزات التي تتمتع بها الأخيرة، من حيث المدى ونوع الذخائر التي تحملها. وأتى الهجوم الأوكراني أيضاً على طائرة “أنطونوف” تستخدم للقيادة والسيطرة جواً. وكانت ضربات المُسيّرات الأوكرانية خلال الأعوام الماضية، هي التي حملت روسيا على نقل القاذفات الاستراتيجية إلى سيبيريا.
تستخدم روسيا القاذفات الاستراتيجية في قصف أوكرانيا من المجال الجوي الروسي، حتى تتفادى أنظمة الدفاع الجوي للأوكرانيين. وتدمير عدد منها، مهما كان قليلاً، سيؤثر على الهجمات التي تشنها روسيا. ويتطلب صنع قاذفات من الطراز ذاته سنوات، ما يعني أن روسيا غير قادرة على تعويض النقص الحاصل، إلا من طريق إصلاح القاذفات التي لم تُدمّر كلياً.
كما سيزداد اعتماد روسيا على المُسيّرات في قصف الأهداف الأوكرانية. وتستخدم القوات الروسية مُسيّرات “غيران-3″، التي هي نسخة عن مسيرة “شاهد-238” الإيرانية التي تعمل بالقوة النفاثة، وليس بالمراوح، مما يؤهلها لقطع مسافات أبعد مع امتلاك قوة مناورة أوسع في مواجهة الدفاعات الجوية الأوكرانية. ومنذ أشهر، تضرب روسيا أوكرانيا بمئات المُسيّرات وعشرات الصورايخ، في محاولة لإرهاق منظومة الدفاع الجوي الأوكرانية.
علاوة على ذلك، يُرجح أن تُكثّف روسيا عملياتها البرية، في وقت تتوقع معاهد الحرب الغربية، شن هجوم واسع روسي النطاق في الصيف المقبل. وبعد طرد القوات الأوكرانية من منطقة كورسيك الروسية، يتوغل الجيش الروسي في منطقة سومي بشمال أوكرانيا، وهناك توقعات بتجدد الهجوم على منطقة خاركيف، بينما زادت وتيرة تقدم الروس في منطقة دونيتسك الشهر الماضي، عما كانت عليه في الشهر الذي سبقه.
وفي غياب أية مؤشرات إلى امكان تحقيق اختراق في جهود الرئيس الأميركي دونالد ترامب لوقف الحرب الأوكرانية، يبقى التصعيد هو السمة الغالبة على النزاع هناك.
أيقظت ضربة سيبيريا التي شبّهها البعض بالهجوم الياباني على بيرل هاربور في الولايات المتحدة عام 1941، أو ضربة “البيجرز” الإسرائيلي ضد “حزب الله” في 2024، الدول الغربية أيضاً وفي مقدمها أميركا، على الفارق النوعي الذي أحدثته المُسيّرات في الحروب. ويُحذّر خبراء غربيون من أن ما تعرضت له روسيا يُمكن أن يحدث في أميركا نفسها.
وعلى رغم الأثر الكبير معنوياً ورمزياً، والذي جعل كثيرين من الروس يطالبون برد نووي على كييف، فإن بوتين يؤثر الرد بتكثيف الهجمات الجوية بالمُسيّرات والصواريخ، وفي تصعيد الضغط على الجبهات.
في العقيدة النووية الروسية، فإن الحكومة تلجأ إلى استخدام السلاح النووي في حالة التعرض لهجمات تشكل “تهديداً خطيراً” لسيادة البلاد. هل يرقى هجوم سيبيريا إلى هذا النوع من التهديدات المذكورة؟
في مقابلة مع موقع “ميدوزا” الروسي المستقل، قال الخبير في شؤون الأسلحة النووية الروسية بافل بودفيغ، إن ضربة المُسيّرات الأوكرانية لا تُبرّر رداً نووياً. وجادل بأن العملية لم تُهدّد سيادة روسيا أو وحدة أراضيها، كما أنها لم تؤثر على قدرة الرد للترسانة النووية الاستراتيجية الروسية.
المؤكد أن روسيا ستلجأ إلى ردود تثبت فيها أن اختراق سيبيريا لم يؤثر على المجرى العام للحرب وعلى الأهداف التي حدّدتها، وفي الوقت نفسه تبدو آمال إدارة الرئيس دونالد ترامب بقرب انهاء الحرب الروسية الأوكرانية غير متناسبة مع الوقائع السياسية والميدانية المتدحرجة.
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  "إنقاذ" لبنان من اللبنانيين.. مهمة "الأعداء"!
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  القوى الكبرى الراهنة والصاعدة.. فوضى أم تفاهمات ومؤسسات؟