

ربما مات الأطفال بالفعل نتيجة لحرب دونالد ترامب على الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID). وإذا استمر تجميد المساعدات الخارجية والتسريح الجماعي لموظفي الوكالة فمن المؤكد أن أطفالاً كثر آخرين سيلقون حتفهم بسبب عدم حصولهم على مساعدة.
كان ترامب قد أصدر مرسوماً في يومه الأول في منصبه، في 20 كانون الثاني/يناير الماضي، فرض بموجبه تجميداً لمدة 90 يوماً على المساعدات الخارجية. وفي الأسبوع الماضي، أعلن أن الوكالة يجب أن “تُغلق”، واصفاً إياها بأنها “تقود اليسار الراديكالي المجنون” وأن “الفساد فيها وصل إلى مستويات نادراً ما شوهدت من قبل”. ونتيجة لذلك، أعلنت الوكالة وضع جميع موظفيها في إجازة إدارية اعتباراً من الأسبوع الماضي، بما في ذلك العاملون في الخارج، كما تم وضع الوكالة تحت الإشراف المباشر لوزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو.
وبعد أربعة أيام، قام بيتر موروكو، (وهو شخصية مثيرة للجدا وكان مسؤولاً في إدارة ترامب إبان ولايته الأولى) بصياغة تفسير أكثر صرامة لهذا الأمر، ما أدى إلى إغلاق آلاف البرامج في جميع أنحاء العالم، وإجبار الموظفين على إجازات غير مدفوعة أو تسريحهم من العمل (تشير التقارير إلى أن عدد موظفي الوكالة سينخفض من 10 آلاف إلى حوالي 300 موظف فقط).
لكن الوكالة ليست مجرد صنبور لأموال إنسانية، توزع مساعدات بمليارات الدولارات على بلدان العالم، وتدعم مطابخ الوجبات المجانية وبرامج مكافحة الأمراض وحملات التطعيم، وتنقذ ملايين الأرواح، وغير ذلك.
لطالما كانت الوكالة أحد وجوه الإمبراطورية الأميركية. فالهدف الرئيسي من تأسيسها (إبّان الحرب الباردة) كان مواجهة النفوذ السوفييتي. ومن أجل وضع المزيد من الدول الفقيرة ضمن النفوذ الأميركي، عملت على تمويل البرامج التي تُعنى بقضايا الصحة والتنمية، لكنها أيضاً دعمت السياسات؛ وما يُسمى بـ”الإصلاحات الديموقراطية”.
وهكذا، فإن السباق نحو “إلغاء” عمل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، بحجة وقف الهدر والإسراف والتحيز الأيديولوجي، يحمل في طياته رسالة مفادها أن القوة الناعمة؛ إذا ما فهمناها بشكل صحيح؛ ليست قوة على الإطلاق، بل هي مجرد قيد يُفرض على ممارسة النوع الأكثر صرامة.
خلال ولايته الأولى، تم تصوير ترامب كأنه يحمل خريطة لإعصار يريده أن يجري وفق خططه وتوقعاته واسقاطاته الشخصية على قضايا البلاد والعالم. وها هو في ولايته الثانية يواصل وضع “العلامات” على بعض الخرائط الافتراضية للإمبراطورية الأميركية، والتي يقول إنه يرغب في رؤيتها تمتد شمالاً عبر كندا وغرينلاند، وجنوباً عبر “خليج أميركا” وصولاً إلى قناة بنما، مروراً بأنقاض قطاع غزَّة المدمر؛ الذي قال إنه سيستولي عليه وسيُحوّله إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”.
بالطبع، ليس من الواضح بعد ما إذا كان أي من “أهداف ترامب” ستتحقق (أو حتى يمكن تحقيقها). ففي مقال نشرته له صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، هاجم المفكر الأميركي ذو الأصل الياباني فرانسيس فوكوياما “الإمبريالية الأميركية الجديدة والعودة إلى عالم القرن التاسع عشر”، مشيراً إلى أن خطة ترامب لقطاع غزّة “غير قابلة للتنفيذ”.
هذا النوع المتقلب من خطاب ترامب، يُمكن أن يكون مجرد لفظ بلا معنى ويمكن أن يكون مليئاً بالدلالات في الوقت نفسه، أو يناقض نفسه حتى مع إظهاره أيضاً لقوة الرئيس في تشكيل العالم. وقد حذَّر بعض قادة الغرب، مثل رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو ووزير خارجية الدنمارك لارس راسموسن، من أن نزعة ترامب الاستحواذية خطيرة للغاية.
وأياً كان ما قد يأتي كـ”نتائج” من أحلام ترامب الرجعية، فإن التحدي الضمني للنظام الجيوسياسي القديم مذهل بالقدر نفسه: فإذا كنَّا نريد هذه الأشياء وهذه الأماكن، فمن الذي سيوقفنا؟
ومن بين الأوامر التنفيذية التي أصدرها ترامب، في أيامه الأولى من توليه منصبه، الانسحابات من “اتفاقية باريس للمناخ” ومن منظمة الصحة العالمية، ما دفع البعض إلى وصف السياسة الخارجية الناشئة للرئيس الجديد بأنها نوع من التراجع الاستراتيجي، بل وحتى محاولة لـ”تفكيك” أو “إعادة توجيه” القوة الأميركية في الخارج، على حد تعبير الصحافي رايان غريم. ولكن أمراً آخر صدر في اليوم الأول صنَّف عصابات المخدرات المكسيكية كمجموعات إرهابية. وعندما تولّى منصبه، أكدَّ وزير الدفاع الجديد، بيت هيغسيث، أنه عندما يتعلق الأمر بالعمل العسكري في المكسيك، فإن “كل الخيارات ستكون على الطاولة”. واقترح مستشار الأمن القومي، مايك والتز، أن الولايات المتحدة “يجب أن تسترد الأموال التي أرسلتها إلى أوكرانيا من خلال نهب الموارد الطبيعية للبلاد”. وهدَّد الرئيس بفرض تعرفات جمركية قاسية على الدنمارك بسبب غرينلاند أيضاً. وبالإضافة إلى الصين، استهدفت الجولة الأولى من الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب الحلفاء أيضاً.
في هذه الأثناء، بدأ وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، مهمته كأعلى دبلوماسي في الولايات المتحدة برفض الدبلوماسية بشكل فعَّال، على الأقل كما عرفناها لعقود من الزمن. ففي جلسة استماع أمام لجنة مجلس الشيوخ، في كانون الثاني/يناير الماضي، أعلن روبيو “أن النظام العالمي بعد الحرب قد عفا عليه الزمن.. وبات الآن بمثابة سلاح يُستخدم ضدنا”. وفي الأسبوع الماضي، أعلن روبيو أن الولايات المتحدة لن تحضر قمة “مجموعة العشرين” في جوهانسبرغ، موضحاً أن “وظيفتي هي تعزيز المصالح الوطنية لأميركا، وليس إهدار أموال دافعي الضرائب أو تدليل المعادين لأميركا”.
في عالم ترامب، يُعتبر روبيو متحدثاً صريحاً بشكل غير عادي. والتصريحان اللذان ذكرناهما بمثابة إعلان واضح ومحفز للنوايا، مفاده: أن النظام الذي بُني على مدى عقود من الزمان على أساس القوة الأميركية ومن أجلها يتم الآن التخلص منه لمنع العمل ضد القوة الأميركية.
ولطالما كانت الولايات المتحدة مُتنمرة على المسرح العالمي، لكنها على الأقل كانت تتظاهر بأنها تلعب بلطف، حتى مع تقلص سيطرتها الكاملة على العالم مؤخراً. وفي هذا الخصوص، كتب المراقب الفرنسي أرنو بيرتراند يقول: “كانت الهيمنة ستنتهي عاجلاً أم آجلاً، والآن تختار الولايات المتحدة إنهاءها بشروطها الخاصة.. إنه النظام العالمي ما بعد أميركا – الذي جلبته إليكم أميركا نفسها”.
ماذا سيحدث بعد ذلك؟
نادراً ما تنشأ نماذج جديدة مكتملة التكوين. ولكن إذا أمضينا السنوات الأربع الماضية في مشاهدة المحاولة غير الفعّالة التي بذلها الرئيس السابق جو بايدن لإحياء نسخة متهالكة من النظام الأخلاقي لما بعد الحرب، فمن الواضح تماماً ما الذي يودّ ترامب استبدال هذا التظاهر به: المبدأ القائل بأن الفوضى العالمية تفتح الفرصة للقوى العُظمى التي طالما حاصرتها المواثيق والأعراف. ربما سمع الجميع عن نهج المجنون في الدبلوماسية؛ ما يفعله ترامب وإدارته هو نهج العالم المجنون بحد ذاته.
على مدى العقد الماضي، ألهمت الصين العالم بمصطلح جديد في السياسة الخارجية: “دبلوماسية المحارب الذئب”، وذلك عندما تخلَّت عن استعراضها الخاص بـ”الطاعة الجيوسياسية” وبدأت في أداء ألعاب الهيمنة (على سبيل المثال، عندما أخبرت الدول العشر في التحالف الإقليمي لرابطة دول جنوب شرق آسيا، أن الصين دولة كبيرة، وأنتم دول صغيرة. وهذه حقيقة). أثار هذا الأمر استياء مؤسسي السياسة الخارجية في الغرب، بما في ذلك بايدن، الذي كرَّس جزءاً كبيراً من النصف الثاني من ولايته الرئاسية لمشروع استعادة “دبلوماسية الحنين إلى الماضي”، في محاولة للتلاعب، ليس فقط بالصين، ولكن أيضاً بروسيا وإسرائيل.
إن شعار “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى” هو شعار ساذج. والمطلوب أن لا نصبح مغفلين. فنحن جميعاً ذئاب على المسرح العالمي.. واللعبة تبدأ عندما نكشف عن أنيابنا.
فعندما وافقت إسرائيل وحركة “حماس” على صفقة وقف إطلاق النار، قبل يوم واحد من التنصيب مباشرة، بدا الأمر لكثيرين وكأنه ثناءٌ على ترامب، الذي نجح مبعوثوه، في يوم سبت استثنائي، في إرغام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على قبول صفقة كانت مُتاحة منذ أشهر عديدة – وربما كانت علامة على أن أولئك الذين صوّتوا للرئيس المستقبلي الذي تصوّروا أنه “مرشح السلام” لم يكونوا مخدوعين تماماً. ولكن بعد بضعة أسابيع قليلة فقط، يبدو من الواضح أنه يعتبر هدم وتشريد الملايين على نطاق واسع مسألة مباشرة تتعلق بالاستيلاء على الأراضي. ففي استعراض خطته لغزَّة ما بعد الحرب، قال ترامب إنه يريد أن يستولي على القطاع، وسيتعامل مع الأمر على أنه “صفقة عقارية” بسيطة، ولن تكون إسرائيل بل الولايات المتحدة هي التي ستُسيطر على الأرض (…).
لم يكن أيٌ من هذا متوقعاً على الإطلاق (…)، وبرغم أن الولايات المتحدة تظلّ قوة عالمية مركزية، فإننا الآن تجاوزنا إلى حدٍ كبير ما كان يُسمى ذات يوم باللحظة الأحادية القطبية، وربما نكون بعيدين عن الوقت الذي كانت فيه مادلين أولبرايت أو باراك أوباما يشيران إلى البلاد باعتبارها “الأمة التي لا غنى عنها” في العالم. (لقد أشار المؤرخ آدم توز مؤخراً إلى أن “تراجع الهيمنة قد أصبح أمراً واقعاً، لقد انتهى الأمر”).
ومع ذلك، فإن ولاية ترامب الثانية “تمثل نهاية رمزية لليبرالية الجديدة العالمية”، بحسب الخبير الاقتصادي برانكو ميلانوفيتش، وهي نقطة تحول أكثر حدَّة من ولايته الأولى. ويوضح ميلانوفيتش أن السبب جزئياً هو أن العديد من الدوافع التي بدت في السابق غريبة (حول الصين، والتجارة، والسياسة الصناعية) تحولت بهدوء إلى حكمة تقليدية نخبوية.
والواقع أن الفارق واضح أيضاً في الخارج، حيث ينضم عدد أقل بكثير من الزعماء العالميين إلى التحالف ضد ترامب ــ حتى وإن بدا أن قِلة منهم يستمتعون بالاختلاط به شخصياً ــ ويعترفون بأن الشروط الأساسية للتعامل قد تغيّرت. فقد أشاد مكتب وزير الخارجية الروسي علناً بالهجوم على الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، كما فعل فيكتور أوربان رئيس الوزراء المجري. ويبدو أن الصين سعيدة بمشاهدة أميركا تفجر أجزاء كبيرة من بنيتها التحتية للقوة العالمية. وفي أوروبا، وقع جوزيب بوريل رئيس المفوضية الأوروبية في ورطة قبل بضع سنوات عندما وصف القارة بأنها “حديقة” منظمة وسلمية، محاطة بـ”غابة” بقية العالم. والآن تتبنى رئيسة المفوضية، أورسولا فون دير لاين، لهجة مماثلة للغاية ــ واصفة إياها بـ”العالم المتهور” و”عصر الجغرافيا السياسية المفرطة في التنافس والتعامل”.
بمعنى آخر: إنها غابة هناك.
– ترجمة بتصرف عن “نيويورك تايمز“.
ديفيد والاس ويلز، كاتب في مجلة “نيويورك تايمز”، هو مؤلف كتاب “الأرض غير الصالحة للسكن”.