ونتيجة للحرب والصدمة التى فاجأت الاقتصاد العالمى وأسواق النفط والغاز والحبوب التى كان لها أثر شديد على كافة الدول خاصة النامية منها وكانت أكثر الدول المتضررة هى تلك المعتمدة على السوقين الروسية والأوكرانية فى استيراد القمح والزيوت النباتية، كان للهزة الكبيرة التى أحدثتها العقوبات على روسيا وتوقف الملاحة فى البحر الأسود واضطراب خطوط الإمداد واضطراب سوق النفط والغاز آثارها العميقة التى لا زالت تتوالى وتتعقد وتتسبب فى موجة من الركود الاقتصادى العالمى.
ومن ناحية أخرى، فإن هذا الاضطراب وخاصة فى سوق النفط والغاز، جعل الولايات المتحدة تعيد حساباتها وجعل الرئيس الأمريكى جو بايدن يتراجع عن سياسة التنمر على دولة مثل السعودية التى وعد فى حملته الانتخابية وبعد توليه السلطة أن يجعلها دولة «منبوذة» فى العالم، فما كان منه إلا أن ابتلع «كرامته» وذهب إلى السعودية ليرجوها أن تتدخل للتخفيف من أزمة الطاقة العالمية من خلال زيادة الإنتاج، إلا أن السعودية تمسكت بإبعاد النفط عن السياسة وتحديد السعر وكميات الإنتاج وفقا لمقتضيات السوق، وبهذا نقلت السعودية علاقاتها بأمريكا من علاقة التبعية إلى علاقة الشراكة الاستراتيجية على أساس من الندية.
***
وتأتى الصين أيضا ضمن الدول التى حققت مكاسب بسبب الحرب على أوكرانيا، ففضلا عن حصولها على النفط الروسى بأسعار أقل من السعر العالمى بسبب تحول جزء كبير من اتجاه النفط الروسى من أوروبا إلى آسيا، فقد حققت مكاسب أخرى فى الجانب السياسى والأمنى، فبعد أن كانت الولايات المتحدة تصنفها كخطر على التحالف الغربى وبعد التحركات المستفزة لبعض رموز الحزب الديمقراطى الحاكم فى الولايات المتحدة وزيارة رئيسة مجلس النواب نانسى بيلوسى لتايوان والرد الصينى الشديد حيث قامت بمناورات عسكرية ضخمة اخترقت المجال الجوى والبحرى لتايوان وأعلنت أنها ستحارب إذا ما تهددت الوحدة الإقليمية للصين أو سعت تايوان للاستقلال عن الوطن الأم، بعد ذلك تدخل الرئيس بايدن وقام بالاتصال بالرئيس شى جين بينج وأكد له استمرار اعتماد الولايات المتحدة لسياسة الصين الواحدة واتفقا على استمرار التشاور.
كل هذه التطورات أثارت الرعب لدى مواطنى تايوان خاصة رأس الذئب الطائر فى أوكرانيا ودب الرعب فى قلوب مواطنى تايوان خشية من أن تؤدى استفزازات الغرب والحكومة فى تايوان من إثارة غضب بكين، فتقوم باجتياح الجزيرة التى تعدها جزءا لا يتجزأ منها.
لذلك أتت نتيجة الانتخابات المحلية التى أجريت فى تايوان فى 22 نوفمبر/تشرين الثاني الماضى بنتيجة مفاجأة حيث صوتت الأغلبية ضد الحزب الحاكم الذى يطالب بالاستقلال (حزب DPP) لصالح حزبKMT الذى يتبنى موقف التعاون مع بكين، وفقد الحزب الحاكم السيطرة على معظم المدن الكبرى بما فى ذلك العاصمة تايبيه، ما يعد مؤشرا عن اتجاه التأييد الشعبى لسياسة المهادنة مع الصين وهو التأييد الذى قد ينعكس فى الانتخابات الرئاسية القادمة عام 2024.
***
تعد فنزويلا ورئيسها نيكولاس مادورو بالذات من أكبر الكاسبين من جراء هذه الحرب، فقد كان الوضع قبيل الحرب قد وصل إلى القطيعة الكاملة مع الولايات المتحدة وأنصارها وحلفائها، وفرضت العقوبات على فنزويلا وقامت الولايات المتحدة و56 دولة من حلفائها بالاعتراف بالحكومة الموازية التى شكلتها المعارضة فى عام 2019 بقيادة خوان جوايدو الأمر الذى أدى إلى قطع العلاقات بين البلدين، وازداد التوتر بين البلدين حتى وصل إلى احتمال غزو الولايات المتحدة لفنزويلا فى عهد ترامب، وتم طرد شركة البترول الأمريكية العاملة فى فنزويلا فى نهاية عام 2020، إلا أن الحاجة إلى البترول الفنزويلى أدت إلى قيام الولايات المتحدة بتخفيف القيود المفروضة عليها واستأنفت شركة شيفرون الأمريكية أعمالها هناك وبدأ تصدير البترول من فنزويلا كما بدأت محادثات بين الحكومة والمعارضة وكل ذلك كنتيجة غير مباشرة للحرب على أوكرانيا.
أتت نتيجة الانتخابات المحلية التى أجريت فى تايوان فى 22 نوفمبر/تشرين الثاني الماضى بنتيجة مفاجأة حيث صوتت الأغلبية ضد الحزب الحاكم الذى يطالب بالاستقلال (حزب DPP) لصالح حزبKMT الذى يتبنى موقف التعاون مع بكين، وفقد الحزب الحاكم السيطرة على معظم المدن الكبرى بما فى ذلك العاصمة تايبيه، ما يعد مؤشرا عن اتجاه التأييد الشعبى لسياسة المهادنة مع الصين
***
أخيرا تأتى تركيا ضمن الدول المستفيدة من هذه الحرب، فقد تمكنت من خلال اتخاذها موقفا حياديا بين أطراف النزاع من الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع الجانبين الأمر الذى مكنها من القيام بدور الوسيط للتوصل إلى اتفاق الحبوب الذى تم بموجبه فتح البحر الأسود أمام السفن الأوكرانية والروسية المحملة بالحبوب حيث تقوم لجنة من إسطنبول بتفتيش السفن والسماح لها بمواصلة الإبحار إلى وجهتها، الأمر الذى خفف من الأزمة العالمية الحادة فى الحبوب وأكسب تركيا مكانة على الساحة العالمية، ونظرا لأن تركيا هى الدولة الوحيدة فى حلف الأطلنطى التى لم توافق على العقوبات على روسيا فقد أصبحت هى نافذة الروس إلى العالم الخارجى وقد لوحظ تدفق الملايين من السواح الروس إلى تركيا كما لوحظ الإقبال الشديد من الروس على شراء العقارات فى المدن التركية خاصة أنطاليا حيث فاقت الوحدات المبيعة للروس هذا العام المائة ألف وحدة.
***
باستثناء هذه الدول فإن معظم دول العالم النامى قد تضررت أشد الضرر من عواقب هذه الحرب على الاقتصاد العالمى واضطراب خطوط الإمداد وارتفاع الأسعار وندرة السلع.
ولا شك أن أكثر المتضررين من الحرب هم أوكرانيا وروسيا؛ أوكرانيا لأسباب واضحة فهى الضحية الأولى التى يعيش سكان عاصمتها ومعظم المدن الكبرى فى صقيع وظلام بسبب الضربات الروسية لمحطات توليد الكهرباء، فضلا عن فقدانها لمناطق شاسعة فى الجنوب والشرق وهى المناطق الصناعية التى تمثل عصب الاقتصاد الأوكرانى.
إلا أن روسيا لحقها ضرر شديد أيضاً. فقد فقدت الكثير من المكانة العالمية حيث كان من المتوقع أن تنهى هذه الحرب لصالحها فى أيام قلائل؛ فهى الدولة النووية الكبرى وهى التى اجتاحت شرق أوروبا وهزمت الآلة العسكرية النازية الجبارة وأول من دخل برلين من حلفاء الحرب العالمية الثانية… إلخ، لكن تعثرها لمدة عشرة شهور واضطرارها للانسحاب من مناطق كانت ضمتها إليها والأداء العسكرى المتواضع ــ إن صح التعبير ــ أفقدها الكثير من وضعها الدولى فضلا عن الآثار الاقتصادية للحرب واستنزاف الموارد فى ظل عقوبات اقتصادية خانقة.
إلا أنه بدت فى الأفق بادرة أمل فقد دعا الرئيس فلاديمير بوتين إلى مفاوضات سلام وتلا ذلك دعوة وزير خارجية أوكرانيا إلى مؤتمر قمة للسلام يعقد فى مقر الأمم المتحدة، وإن كان كلا الطرفين قد وضعا شروطا تعجيزية إلا أن ذلك يعد شيئا طبيعيا فهكذا تبدأ جميع المفاوضات كما أن جميع الحروب تنتهى دائما بالتفاوض، وندعو الله أن يكون عام 2023 بداية لإنهاء هذه الحرب التى ما كان لها أن تحدث فهى ليست «حرب الضرورة» ولكنها حرب الاختيار الخاطئ.
(*) بالتزامن مع “الشروق“