التوغل الأوكراني في روسيا.. يفتح الطريق للتفاوض أم لحرب أوسع؟

بصرف النظر عن الثمن المعنوي والإحراج الكبير الذي واجهه الكرملين، بسبب التوغل الأوكراني الذي بدأ في منطقة كورسك الروسية في 6 آب/أغسطس الجاري، يبقى مقياس نجاح هذه المخاطرة "النابوليونية" التي أقدم عليها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، مرتبطاً إلى حد كبير بإحداث تحولات على خطوط الجبهة في منطقتي خاركيف ودونيتسك.

كورسك، منطقة تعني الكثير في الذاكرة الروسية. ففي الحرب العالمية الثانية، جعلت معركة كورسك السوفيات واثقين من امكان الانتصار على ألمانيا النازية. قاد الجيش الألماني في المعركة الجنرال أريك فون مانشتاين، وشارك فيها 1.5 مليون جندي ألماني وسوفياتي، قتل وجرح ثلثهم. وبحسب المؤرخين فاجأ ستالين الجيش الألماني بالأعداد الهائلة من الدبابات من طراز “تي-34” التي جهّزها لتسحق تفوق دبابات “البانزر” الألمانية الأكثر تقدماً.

أراد هتلر من خلال معركة كورسك أن يستعيد معنويات الجيش الألماني، الذي كان يتراجع في مناطق كثيرة من الاتحاد السوفياتي السابق. لكنها تحوّلت إلى بداية النهاية لعهده.. وحقبته.

وبعيداً عن الإسقاطات التاريخية والرمزية، دفع زيلينسكي بألف جندي من قوات النخبة الأوكرانية من منطقة سومي المقابلة لكورسك، ليجتازوا الحدود الرخوة التحصين والموضوعة بعهدة مجندين لا يتمتعون بخبرة قتالية يُعتدُ بها. لعب عنصر المفاجأة دوره في مباغتة الروس، مما وفّر تقدماً سريعاً للجنود الأوكرانيين تحت غطاء من سلاح المُسيّرات. وتوجد في كورسك محطة نووية ويبلغ عدد سكان العاصمة التي تحمل الإسم نفسه أكثر من 500 ألف نسمة.

التقدم السريع، أعاد للجنود الأوكرانيين بعضاً من الروح المعنوية التي فقدوها مع فشل هجومهم المضاد في الصيف الماضي، والخسائر التي منيوا بها على الصعيد البشري، كما في معداتهم واسلحتهم. أيضاً منحت معركة كورسك زيلينسكي جرعة من الأمل بامكان تحقيق انجاز مهم قبل أن يبدأ موسم المفاوضات، فتذهب كييف إلى الحوار وفي يدها ورقة قوية للمساومة (أرض مقابل أرض).

لكنّ معظم المحلّلين يقولون مهلاً. ليس الأمر بهذه السهولة. ويتعين الأخذ في الاعتبار عوامل عدة، قد تجعل عملية كورسك ذات تأثيرات عكسية. فالجيش الروسي لم يسحب، وفق ما توقع زيلينسكي، قوات كبيرة من جبهتي خاركيف ودونيتسك لزجها في معركة كورسك، بما يُخفّف الضغط على هاتين الجبهتين.

وتنقل التقارير الصحافية الغربية أن المواطنين الروس في عشرات البلدات والقرى التي احتلها الجيش الأوكراني، وبينهم من كان يعارض الهجوم الروسي على أوكرانيا، لم يستقبلوا الجيش الأوكراني كمحرر لهم من حكم فلاديمير بوتين، بل إن الاحتلال الأوكراني جعلهم متعاطفين مع الرئيس الروسي، وينتظرون بفارغ الصبر صد الهجوم. علاوة على ذلك، يُمكن للكرملين أن يستخدم الهجوم الأوكراني، كي يعطي صدقية لما كان يُكرّره دائماً من أن روسيا تتعرض للتهديد من أوكرانيا والدول المتحالفة معها.

لم يكن عبثاً أن زيلينسكي اختار موعد الاقتحام تحت غطاء المشهد الانتخابي الأميركي. الرئيس الأوكراني يستبد به القلق من احتمال عودة المرشح الجمهوري دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بسبب دعوة الأخير إلى انهاء الحرب، ربما على حساب كييف. أما إذا فازت هاريس، فإن القيادة الأوكرانية ستكون أكثر اطمئناناً إلى مواصلة المساعدة الأميركية

أضف إلى ذلك، أن الدول الغربية المؤيدة لكييف (باستثناء بريطانيا) لم تُظهر حماسةً للتوغل الأوكراني، كما أن الرئيس الأميركي جو بايدن اعتبر الأمر بمثابة “معضلة” لبوتين، لأنه بدا غير قادر على حماية مواطنيه برغم مضي أكثر من 30 شهراً على اندلاع الحرب في أوكرانيا.

وتُبدي بعض مراكز الأبحاث الغربية، تخوفاً من أن التوغل الأوكراني في كورسك الروسية، سيؤدي إلى مزيد من الإرهاق الذي يعاني منه الجيش الأوكراني، ويجعل خطوط الجبهة في الشرق الأوكراني أكثر ضعفاً، خصوصاً وأن الجيش الروسي يواصل الضغط على هذه الخطوط، وتحديداً في اتجاه مدينة بوكروفسك الاستراتيجية في منطقة دونيتسك. ولو تمكن الروس من السيطرة على بوكروفسك، فإن ذلك سيفتح لهم الطريق إلى مدينة تشاسيف يار، التي تعتبر خط الدفاع عن كراماتورسك كبرى مدن المنطقة التي ما تزال في أيدي القوات الأوكرانية. ويعني سقوط كراماتورسك سيطرة روسية شبه كاملة على الشرق الأوكراني.

لا جدل في أن التوغل الأوكراني في كورسك، قد منح زيلينسكي مبادرة تكتيكية للمرة الأولى منذ عام، لكنها خطوة لا تخلو من مخاطر، بسبب الحاجة إلى نقل جنود وعتاد من جبهة ضعيفة في الأصل، واستخدامهم في التوغل داخل كورسك. وستكون حماية خطوط الإمداد إلى القوات المتوغلة في كورسك، بحاجة إلى مزيد من الجنود والسلاح. وثمة سؤال مطروح حول قدرة الجيش الأوكراني على الإمساك بالأراضي التي سيطر عليها في كورسك، وبأن لا يكون ذلك على حساب خسارة استراتيجية في دونيتسك أو خاركيف.

وفي الوقت نفسه، أراد زيلينسكي توجيه رسالة أيضاً إلى شركائه الغربيين، مفادها أن الجيش الأوكراني لا يزال قادراً على تغيير المعادلات الميدانية متى توافرت له الأسلحة والذخائر اللازمة. ويُعزّز مثل هذا الاعتقاد، أن يكون قرار التوغل قد اتخذ بعد أيام فقط من تسلم أوكرانيا السرب الأول من مقاتلات “إف-16” الأميركية.

إقرأ على موقع 180  الجائزة الكبرى لقاح كورونا.. كلّ شيء مباح

ولم يكن عبثاً أن زيلينسكي اختار موعد الاقتحام تحت غطاء المشهد الانتخابي في الولايات المتحدة. الرئيس الأوكراني يستبد به القلق من احتمال عودة المرشح الجمهوري دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بسبب دعوة الأخير إلى انهاء الحرب، ربما على حساب كييف. أما إذا فازت المرشحة الديموقراطية المفترضة كامالا هاريس، فإن القيادة الأوكرانية ستكون أكثر اطمئناناً إلى مواصلة المساعدات الأميركية.

ومع ذلك، فإن زيلينسكي لا يُمكنه أن يشطب من حساباته أنه حتى لو بقي الديموقراطيون في البيت الأبيض، فإن نسبة التأييد في الرأي العام الأميركي لمواصلة تزويد أوكرانيا بالمساعدات في تراجع مستمر، في مقابل تصاعد التأييد لحل سياسي. وينسحب هذا الرأي على أوروبا أيضاً. وحتى داخل أوكرانيا يتزايد الميل نحو تسوية ديبلوماسية للحرب الأوكرانية الروسية.

سلباً أو إيجاباً، تبقى كورسك مفتاحاً للتاريخ ومحطة فاصلة بين مرحلتين. والأنظار ليست في اتجاه واحد، بل إن العيون شاخصة أيضاً إلى جبهة دونيتسك، فهل تأتي من هناك مفاجآت جديدة؟

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  ظريف على طريق الرئاسة.. وجسوره الإصلاحية آمنة؟