لكن الفدرالية مطروحة في فضاء الحدث السوري، وان ضعف الاهتمام بها، لا يعني استبعادها، بل لعله يعزز حضورها، ذلك أن إكراهات الحرب تفتح باب الإمكان على أطروحات عديدة بشأن سورية، ومنها الفدرالية، التي قد تبدو “حالة وسطاً” مقارنة بأطروحات التقسيم، أو حتى استمرار الحرب، بكل المخاطر الناتجة عنها.
تنطلق الورقة من سؤال رئيس هو: هل تصلح الفدرالية لسورية، وما هي اشتراطات أو كيفيات النظر للفدرالية بشأن سورية، وهل يمكن تجاوز سؤال الفدرالية، وتخلص إلى أن الفدرالية هي “تقنية سياسية” و”دستورية”، وليست “قانوناً للتطبيق” أو شرطاً تاماً أو كافياً لتحقيق الديمقراطية أو التنمية أو الأمن والاستقرار، ولها أنماط وتشكلات كثيرة، وغالباً ما يمكن “هندستها” و”صناعتها”، وأن المهم بالنسبة لسورية، هو استعادة فكرة مجتمع ودولة سوريين، وهوية وطنية، ومواطنة، وتنمية، وتحول ديمقراطي، فإذا أمكن ذلك، لا يعود مهماً، أن يكون النظام الدستوري والسياسي فيها فدرالياً أم لا، إنما كيف يمكن ذلك؟
تتألف الورقة من مقدمة وتسعة محاور: أولاً- الرؤية والمقاربة، ثانياً- ما الفدرالية؟ ثالثاً- الأطر المرجعية، رابعاً- المثال والمنوال، خامساً- أطروحة الفدرالية بشأن سورية، سادساً- تَلَقِّي الفدرالية، سابعاً- من يريد الفدرالية؟ ثامناً- الفدرالية: حل أم مشكلة؟ تاسعاً- في اشتراطات النظر للفدرالية، وأخيراً خاتمة.
***
أولاً- الرؤية والمقاربة
هل تمثل فكرة الفدرالية “نقطة ابتداء” أو “شرطاً” في سياسات الحل أو التسوية في سورية، بمعنى هل يتم “تهيئة” الحدث السوري لقبولها، بوصفها “كلمة السر” في الحل أو التسوية، أم يكون العكس، أي التفكير أولاً أو قَبْلاً في: أي دولة تكون سورية ما بعد الحرب، ومن ثم يمكن النظر تالياً في طبيعة النظام الدستوري المناسب؟
أي “قابلية” داخلية أو محلية في سورية لقيام الفدرالية؟ ما موقع فكرة الفدرالية في الفضاء الداخلي أو الإقليمي، والسؤال الأهم هو: هل تصلح الفدرالية لسورية، وكيف يمكن النظر إلى الفدرالية في إطار الحرب وتداخلاتها ورهاناتها، وأي اشتراطات للتفكير فيها، وهل تمثل بالفعل أولوية أو شرطاً في إطار الحدث السوري، أم أن ثمة أولويات أو مقاربات أخرى؟
تواجه فكرة “بناء الدول”[1]، وخاصة في مرحلة ما بعد الحرب، وخاصة إذا كانت من نمط الحرب السورية، إشكالية على قدر كبير من الأهمية، وتتمثل بوجود تحديات مركبة، في مستويين رئيسين متعاكسين: الأول، الحاجة لـ”توزيع القوة”، وأولوية التعدد والتنوع، والمناطق والجهات، والتكوينات الاجتماعية الخ كشرط للحل أو التسوية، والثاني، الحاجة لـ”تركيز القوة”، والتأكيد على أولوية التوحيد والإدماج، والهوية الوطنية، ومركزة السلطات والصلاحيات الخ كشرط للمحافظة على المجتمع والدولة.
تمثل أطروحات الفدرالية جزءاً من “وصفة ناجزة” تقريباً في عمليات “بناء الدول” في مرحلة ما بعد الحرب، كما سبقت الإشارة، و”بنداً ثابتاً” في الأجندات المطروحة للحلول والتسويات من قبل الدول الكبرى والمنظمات الدولية والأهلية والشبكات المهتمة بالحرب والنزاعات حول العالم. الأمر الذي يضع “الفدرلة” في فضاء التفكير لحل أو تسوية الحرب السورية
وهكذا، فإن التحدي الرئيس بالنسبة لسورية، هو كيف يمكن إدارة تلك الفواعل والاتجاهات وتجلياتها المتناقضة وأحياناً المتعاكسة؟ وإذا اتجهت الأمور بالحدث السوري للإجابة بـ”نعم” على سؤال الفدرالية، فهذا يحيل إلى تحدٍ اخر، يتمثل في السؤال الآتي:
أي بناء دستوري ممكن أو صالح لسورية، وكيف يمكن إنتاج فكرة وتجربة دستورية مناسبة لها؟ ذلك أن النظم السياسية والدستورية وغيرها ـ ىعلى اختلاف أنماطها وتشكلاتها – ليست محض “تقنية للاستيراد”، ولا “قانوناً للتطبيق”، كما سبقت الإشارة، وإنما هي أفكار ومشروعات يجب التفكير فيها، وتجارب يجب خوضها أو عيشها، وأُطر وديناميات يجب بناؤها.
هذا ينسحب على فكرة الفدرالية، صحيح أن ثمة مبادئ وقواعد مشتركة بين تجارب الفدرالية حول العالم، إلا أن تنوعها من جهة، ووجود نظم كثيرة “لا فدرالية” من جهة أخرى، يضعنا أمام نسبية الفكرة، ونسبية التطبيق، وبالتالي نسبية النجاح، ومن ثم فإن فكرة الفدرالية ليست مُسَلَّمَة أو حتى مَشروعة بذاتها أو مطلوبة لذاتها، وإنما بمدى “مطابقتها” أو “مواءمتها” للواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الخ المراد تطبيقها أو إقامتها فيه.
ثانياً- ما الفدرالية؟
ثمة طيف واسع من المعاني والتقديرات والتجارب الفدرالية[2]، تبدأ من دخول جماعات أو كيانات أو كانتونات في “متحد اجتماعي-سياسي” أو “دولة”، تكون قطاعات السياسة الخارجية والأمن والدفاع من اختصاص الحكم المركزي، فيما يكون لوحداته (الفدرالية) القدرة على تدبير شؤونها الداخلية، وخاصة في قطاعات العمل والإنتاج والتعليم والتربية والثقافة، وحتى في تنظيم السياسات المحلية والإدارة الخ..
وتختلف أنماط الفدرالية حول العالم، مثل: روسيا الاتحادية، وبريطانيا وألمانيا وكندا واستراليا والهند والبرازيل والولايات المتحدة الأمريكية وسويسرا وإسبانيا ونيجيريا والمكسيك والأرجنتين وغيرها. وهي تجارب متفاوتة في أمور كثيرة، مثل ظروف نشأتها وتطورها، وبناها الاجتماعية والإثنية والدينية والثقافية، وتوزيع السلطات والموارد المادية والمعنوية، ونظم التمثيل والانتخابات والمجالس التشريعية، كما تختلف “دولها” من حيث موقعها في ميزان المعنى والقوة في العالم اليوم.
ويحدث أن تقوم الفدرالية نتيجة تفاهمات وتسويات إثر حروب ومواجهات داخلية وتدخلات خارجية، كما هو الحال في البوسنة والعراق؛ أو فدرالية مركز- أطراف، إن أمكن التعبير، كما هو الحال في روسيا مثلاً، التي اتسمت تجربتها بـ”طابع إمبراطوري”، بدءاً من اللحظة القيصرية، ثم السوفيتية، وصولاً إلى اللحظة الراهنة. ويمكن أن ينسحب ذلك ـ بكيفية أو أخرى – على الولايات المتحدة.
كما يمكن أن تقوم الفدرالية في بلد ما نتيجة ديناميات توحيد مركبة، في إطار “بناء أمة”، وتُعدُّ ألمانيا والهند وباكستان وماليزيا، وهي ليست سواء، أمثلة على ذلك، ولو أن دينامياتها وقابلياتها الداخلية بقيت تعمل بفعالية ضمنت لها الاستمرار.
ثالثاً- الأطر المرجعية
يرتكز حديث أو فكرة الفدرالية بالنسبة لسورية على عدد من الاطر المرجعية، يمكن تركيزها أو إجمالها في النقاط الرئيسة الآتية:
- إكراهات الحرب، وإجهاد البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقيمية، وتعدد خرائط السيطرة والنفوذ وسلطات الأمر الواقع خلال فترة زمنية مديدة نسبياً (منذ العام 2011 وحتى الان).
- قرار مجلس الأمن 2254 لعام 2015، وهو لا يذكر الفدرالية صراحة، لكنه يمثل ـ بالنسبة لدعاتها ومؤيديها – مدخلاً أو مرجعية أو غطاء ليس للحديث فيها فحسب، وإنما لفتح باب الإمكان لمراجعة طبيعة الدولة والمجتمع ككل.
- مسارات إدارة الأزمة مثل ديناميات استانة وسوتشي وجنيف، والتفاهمات بين فواعل الحرب، وخاصة: روسيا والولايات المتحدة، وروسيا وإيران وتركيا، فيما يعرف بـ”ثلاثي استانة”، وغيرها، والتي عززت مقاربات مختلفة للحرب، وأقامت مناطق نفوذ، ومناطق خفض تصعيد، و”ضبطت إيقاع” المواجهات والعمليات العسكرية، ورسمت “خطوط استقرار” بين مناطق أخذت تشكل “كيانات” ذات طابع سياسي واجتماعي وعسكري الخ..
- الأطر المرجعية النظرية في العلوم السياسية والنظم الدستورية وغيرها، وخاصة في تجارب البناء الدستوري لمجتمعات ودول الحرب[3]، وثمة تراكم كبير في الأدبيات والرؤى في هذا الباب.
- التطبيقات والخبرات في الإقليم والعالم، وهي كثيرة، وخاصة في العقود الأخيرة. وتكاد تكون “الفدرلة” بنداً ثابتاً في نظريات ومقاربات “بناء الأمم والمجتمعات” في مرحلة ما بعد الحرب، انظر مثلاً ما حدث في البوسنة والعراق ورواندا وليبيريا وغيرها.
- تطورات وتجاذبات الموقف بين الدولة المركزية في دمشق و”الإدارة الذاتية” في منطقة الجزيرة وشرق الفرات؛ صحيح أن الأمور لم تصل إلى حل أو تسوية، إلا أنها تُراكم معطيات وتخلق وقائع لها منعكسات جدية على طبيعة الحل أو التسوية، بما في ذلك ـ وفي القلب منه – طبيعة النظام السياسي والدستوري، بل طبيعة المجتمع والدولة ككل.
- المرجعية الأهم اليوم – وفق ميزان القوة والدولة، ووفق قرار مجلس الأمن 2254 – هي الدستور الحالي (2012)، وقانون الإدارة المحلية الجديد رقم 11 للعام 2015، وهو تعديل للقانون رقم 107 للعام 2011.
رابعاً- المثال والمنوال
تمثل أطروحات الفدرالية جزءاً من “وصفة ناجزة” تقريباً في عمليات “بناء الدول” في مرحلة ما بعد الحرب، كما سبقت الإشارة، و”بنداً ثابتاً” في الأجندات المطروحة للحلول والتسويات من قبل الدول الكبرى والمنظمات الدولية والأهلية والشبكات المهتمة بالحرب والنزاعات حول العالم. الأمر الذي يضع “الفدرلة” في فضاء التفكير لحل أو تسوية الحرب السورية. ويمكن تركيز الحديث عن المثال والمنوال في النقاط الرئيسة الاتية:
- إن المثال والمنوال في الواقع السوري الراهن يعطي تقديرات مختلفة ومتعاكسة، كما هو الحال في منطقة الجزيرة ومنطقة إدلب وريف حلب، ولو ان ما يحدث هناك ليس في إطار الفدرالة بذاتها، وإنما في إطار كيانات نتجت عن الحرب وفي مواجهة إكراهاتها، وسيطرة جماعات وتنظيمات أخذت تطور ديناميات حكم وتتشبه بـ”الدول”.
- أما المثال والمنوال في الإقليم، فيتمثل في العراق بعد 2003، والذي يبدو مثالاً قريباً ونموذجياً تقريباً، بالنسبة لفكرة الفدرالية في سورية[4]. ويمثل لبنان نمطاً من “فدرالية غير مسماة”، و”غير نمطية”، باعتبار أنه يقوم منذ اتفاق الطائف، بل منذ تأسيسه قبل اكثر من مئة عام، على توزيع مركب للسلطات والموارد المادية والمعنوية على أسس دينية طائفية، وليس جغرافية أو مناطقية أو سياسية.
وتجربة الفدرالية في العراق قائمة كإمكان واحتمال في الدستور، لكنها “غير مكتملة” في الواقع، ولم يتجه العراق كله لـ”الفدرلة”، وهي مع ذلك تجربة مفيدة بالنسبة لدعاة الفدرالية في سورية، لجهة أن الفدرالية ممكنة في منطقة لم تقم فيها فدرالية واحدة، ثم إن التوترات والصعوبات التي تواجهها (في العراق)، تمثل درساً يمكن الإفادة منه، بتدارك مشكلاته، ومن ثم إعادة إنتاجه معدلاً في حالة سورية.
وهي تجربة مفيدة، بما هي درس أو نذير، يحيل إليه مناهضو الفدرالية في سورية، لجهة أن التجربة لم تنجح بالتمام، إذ نحا الإقليم الكردي للانفصال، ولم يكن لها جاذبية أو قابلية عميقة لدى شريحة كبيرة من العراقيين العرب، الأمر الذي يعني أن توزيع الموارد والقوة والمشاركة السياسية يمكن أن يكون بديلاً لـ”الفدرلة”، وأن بقاء العراق بلداً مفخخاً بالعنف، هو خير تجربة ودرس للسوريين (الرافضين للفدرالية).
- أما المثال والمنوال على الصعيد الدولي، فيتمثل بتجارب عديدة حول العالم، وخاصة ما قامت به أو حاولته الولايات المتحدة والأمم المتحدة وعدد من المنظمات الدولية بشأن “إعادة بناء الأمم” أو “إعادة بناء الدول”، ومثل ما حدث في: ليبيريا، يوغسلافيا (البوسنة)، تيمور الشرقية وغيرها.
خامساً- أطروحة الفدرالية بشأن سورية
يمكن النظر إلى أطروحة الفدرالية في سورية من عدة زوايا أو وفق عدة مستويات، وذلك بوصفها:
- استجابةً لمخاوف من مركزة السلطات أكثر منها إيماناً بالديمقراطية أو بالفدرالية ذاتها، أي أن الفدرالية ليست مقصودة بذاتها أو نتيجة مدارك يقينية أو مفكر فيها.
- تكشف عن تحول في مدارك الحرب، وذلك في مستويين رئيسين: الأول من منظور المعارضة ويعدها تراجعاً عن فكرة الثورة وإسقاط النظام، إلى مجرد إصلاح أو تعديل في البنى السياسية والدستورية في ظل النظام القائم[5]، والثاني من منظور الموالاة ويعدها التفافاً على انتصار النظام في الحرب..
- محاولة لـ”تثبيت” و”قوننة” أمر واقع، ولكن غير معترف به أو متنكر له، ويمكن القول ان خرائط القوة والسيطرة تتجاوز الفدرالية، وبأقصى صيغها راديكالية، وصولاً إلى “تقسيم” البلاد إلى مناطق وخرائط سيطرة ونفوذ مختلفة، يتخذ بعضها ملامح كيانات دولتية أو شبه دولتية، كما هو الحال في منطقتي الجزيرة وإدلب – ريف حلب. وليس من اليسير تفكيك كل تلك الوقائع والمصالح والمدارك والتراكمات الناتجة عن ذلك.
تصدر أطروحات الفدرالية في سورية عن الفواعل الإقليمية والدولية على جانبي الحرب، إن أمكن التعبير، أي من قبل حلفاء النظام السياسي وحلفاء المعارضة، وهذا ما يعطي الفكرة دافعية ومقبولية نسبية، ويفترض أن يخفف ذلك من مدارك المؤامرة أو الوصم الجاهز لمقولات من هذا النوع.
وعلى الرغم من أن روسيا كانت أول من طرح فكرة الفدرالية لسورية[6]، وأعقبتها إيران[7]، وربما ضغطتا بعض الشيء على النظام السياسي، من أجل البحث فيها، إلا أنهما ما لبثتا أن “خففتا النمط” بهذا الخصوص، بسبب حساسية النظام (وشريحة قد تكون كبيرة من المجتمع) حيال الفكرة.
ثمة مقاربات أخرى ترى أن حديث الفدرالية هو أحد نتائج الحرب، وجزء من دينامياتها، إذ لم يكن مطروحاً قبلها، بمعنى أنه فكرة مستجدة في فضاء السياسة في سورية، تهدف لتشكيل نظام سياسي ودولة ضعيفين، وربما يكون ذلك مقدمة لتقسيم البلاد أو جعلها مفخخة بالصراع الداخلي والعنف، وعاجزة عن مباشرة أجندات أو أهداف أو القيام بأدوار في الإقليم
وفيما قالت إيران ان مبادرتها حول دستور سوري، لا تعدو أن تكون “فكرة” أو “طرحاً” سياسياً أو دبلوماسياً من أجل “تحريك” الخطاب أو المسار السياسي في ذروة الحرب، فإن روسيا تواصل البحث في فكرة نظام دستوري لسورية، ولا تستبعد الفدرالية، كجزء من حل أو تسوية للحرب، سواء أكان ذلك في إطار عملية جنيف والقرار 2254، أو عملية أستانة، أو أي صيغة أخرى يمكن أن تنشأ في المستقبل.
لم تُظهِر الولايات المتحدة حماسة حيال فكرة الفدرالية، على مستوى الخطاب على الأقل، خلا بعض الاستثناءات، ولكنها عملت الكثير من أجل تكريس وجود مناطق سيطرة ونفوذ مختلفة خارج سلطة الدولة المركزية في دمشق، وفي الوقت الذي تحمي فيه واشنطن “الإدارة الذاتية” في منطقة الجزيرة، وتهيء الظروف لكيانية دولتية أو شبه دولتية هناك، فإنها تقوم بحماية غير مباشرة لكيانية “جبهة النصرة” في إدلب، من خلال دعم سياسات ورهانات تركيا في تلك المنطقة، وإعاقة جهود الدولة السورية لاستعادة إدلب. ويقدم باحثون أمريكيون أفكاراً حول “فدرلة” سورية وحتى تقسيمها[8]، ليس لأن الفدرالية مطلوبة بذاتها، وإنما من أجل “احتواء” أي عودة محتملة لدولة مركزية قوية في سورية مستقبلاً.
وأما تركيا فهي ضد الفدرالية، لاعتبارات تخص الوجود الكردي في سورية، ولكنها ليست ضد فدرالية يمكنها الهيمنة عليها أو احتواء أي تطورات ممكنة أو محتملة جرائها، وإذا قامت كيانية كردية في منطقة الجزيرة السورية، تشبه الكيانية الكردية في شمال العراق، فلن تعدها تهديداً.
سادساً- تَلَقِّي الفدرالية
يحيل الحديث عن الفدرالية في سورية إلى مقاربتين أو ديناميتين رئيستين متداخلتين: الأولى تبحث الفدرالية في أفق الحل/التسوية للأزمة أو ما يعرف بعملية جنيف وقرار مجلس الأمن 2254 لعام 2015؛ والثانية تبحث في أي نظام سياسي وبناء دستوري ممكن في سورية ما بعد الحرب؟
الأولى ترى في الفدرالية مدخلاً ـ إلى جانب مداخل أخرى – لتهيئة ظروف أو قابليات مناسبة للخروج من الحرب، والثانية ترى فيها ضمانة لبناء نظام سياسي ديمقراطي ودولة قابلان للاستمرار والاستقرار، ومن ثم الحيلولة دون اندلاع حرب أخرى بأسباب وعناوين وقابليات داخلية.
بالمقابل، ثمة مقاربات أخرى ترى أن حديث الفدرالية هو أحد نتائج الحرب، وجزء من دينامياتها، إذ لم يكن مطروحاً قبلها، بمعنى أنه فكرة مستجدة في فضاء السياسة في سورية، تهدف لتشكيل نظام سياسي ودولة ضعيفين، وربما يكون ذلك مقدمة لتقسيم البلاد أو جعلها مفخخة بالصراع الداخلي والعنف، وعاجزة عن مباشرة أجندات أو أهداف أو القيام بأدوار في الإقليم.
بين هذه وتلك من المقاربات، تجد قبولاً حذراً او مشروطاً للفكرة، بين مدارك “التكيف” مع إكراهات ومتطلبات التسوية بأبعادها الداخلية والخارجية، وبين قناعة بأن الفدرالية ليست شراً بالضرورة، وأن بالإمكان تكييف وهندسة نظام فدرالي مناسب لسورية، بقدر يضمن توزيعاً أكثر توازناً للموارد المادية والمعنوية، ونظام حكم ديمقراطي، بقدر يضمن بقاء مجتمع ودولة آمنين ومستقرين وقادرين على الدفاع عن مصالحهما في الداخل والخارج.
ويثير الحديث عن الفدرالية الكثير من الجدال في الحدث السوري، لكن من دون أن يتم التوصل إلى أي توافقات حولها، بل ان “الرفض” أو “التحفظ” كان السمة الغالبة لدى فواعل السياسة من السوريين، موالاة ومعارضة، خلا فواعل الإدارة الذاتية الذين اهتموا بتقديم الفكرة بأشكال ومسميات شتى. أما بالنسبة للرأي العالم فلم تظهر دراسات أو مسوح أو استطلاعات حول موقفه منها.
ويبدو أن بعض الاعتراض على الفدرالية ينتج ـ في جانب منه – عن وجود مدارك وصور نمطية لدى السوريين عنها، بوصفها منتجاً غربياً، يراد “فرضه” عليهم بصرف النظر عن مدى مواءمته أو قابليته السورية من عدمه، فضلاً عن أن تجارب الفدرالية في الإقليم، وخاصة العراق، ليست مشجعة أو أنها لم تحقق نجاحاً كافياً.
ويمكن تقصي مدارك تهديد – بل مدارك مؤامرة – لدى شريحة من السوريين، تجد في فكرة الفدرالية المطبقة في العراق “مثالاً” لما يريده الغرب حيال سورية، أي بناء “دولة هشة” تعاني من واقع انقسامي نشط، وصولاً إلى “التقسيم الناعم” للبلاد، ذلك أن الفدرالية في العراق ـ من هذا المنظور- صممت من أجل أن يكون العراق على ما هو عليه اليوم: واقع مفخخ بالعنف، ومن الصعب تغييره، بل ان أي محاولة لتغييره تهدد بتفجيره!
سابعاً- من يريد الفدرالية؟
قد لا تكون الفدرالية مقصودة بذاتها، أو لحاجة سورية لها، بقدر ما انها حاجة إقليمية ودولية، بمعنى انها نتيجة تقديرات واستدعاء أو تَمَثُّل لأنماط حل، كما أنها أحد أنماط “احتواء” عودة نظام سياسي قادر على مركزة الموارد والقوة، و”احتواء” عودة دولة تكون قادرة على خلق اجماع داخلي وتخصيص الموارد للعب دور نشط ومؤثر في الإقليم. وهذا لا يغفل وجود فواعل (الكرد) تمثل الفدرالية بالنسبة لها حاجة وضمانة وجود أو قاعدة تأسيس كيانات تنسجم مع مرجعيات ثقافية وفكرية وايديولوجية معروفة.
ليس في انثروبولوجيا السياسة والثقافة لدى السوريين الكثير من الخبرة والتجارب حول الفدرالية، لعل المثال الحديث الوحيد تقريباً هو “الفدرالية” التي أقامتها فرنسا في السنوات الأولى للانتداب على سورية[9]، وكانت جزءاً من ديناميات الضبط والسيطرة، وديناميات خلق بيئة اجتماعية سياسية قابلة للإدارة والحكم الخ ولكن السوريين رفضوها.
ان وجود تجارب سيطرة وحكم محلي ـ غير رسمية وغير معترف بها دستورياً – كان في جانب منه متوافقا مع متطلبات الحرب والنفوذ وخرائط القوة في البلاد منذ العام 2011، ذلك أن الحرب أثارت قابليات نشطة للتشكلات الجهوية والمناطقية والطائفية الخ بالتوازي مع سلطة الدولة[10]، وفي مواجهتها، وبدعم خارجي، وكان ذلك جزءاً من النتائج “غير المقصودة بذاتها”، ولو أنها خلقت في ما بعد قابليات أو استعدادات ما للتفكير في ما يشبه الفدرلة أو الكيانات القائمة بحكم الأمر الواقع. انظر مطالب درعا (جنوب سورية) قبل التسويات وعودة سلطة الدولة (أيلول/سبتمبر وتشرين الأول/أكتوبر 2021)، والسويداء في السنوات الأخيرة من الحرب وحتى اليوم، وكذلك الأمر بالنسبة لإدلب وريف حلب وبعض مناطق شمال شرق تحت سيطرة الجيش التركي والشبكات والتنظيمات الموالية لتركيا.
لكن الفاعل الرئيس والصريح في طلب الفدرالية هو حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) و”الإدارة الذاتية” في مناطق شمال شرق أو منطقة الجزيرة[11]. إذ تمثل الفدرالية أحد مطالب ومكونات مشروع “قوات سورية الديمقراطية”، انظر خطاب الإدارة الذاتية حول الفدرالية، والمداولات بين دمشق وكردها، والحديث المتكرر ـ ولكن المتعثر- عن قانون الإدارة المحلية بوصفه أساساً محتملاً للمداولات حول شكل التنظيم الإداري والدستوري للبلاد.
ثامناً- الفدرالية: حل أم مشكلة؟
الفدرالية هي “تقنية سياسية”، وشكل من أشكال التنظيم الدستوري لأي بلد، وهي ليست مسلمة دستورية، ولا شرط للديمقراطية؛ ثمة ديمقراطيات “لا فدرالية”، وثمة نظم غير ديمقراطية ولكنها فدرالية، الأمر الذي يفترض أن يخفف من الحمولة الإيديولوجية والمدارك السلبية حيالها، وخاصة في منطقة مثل المنطقة العربية والشرق الأوسط، وبالأخص في المشرق العربي، حيث لا تتمتع الفكرة بأي شعبية تقريباً، وغالباً ما ينظر لها بوصفها مشكلة أو مؤامرة.
وباعتبار الفدرالية “تقنية سياسية” و”تقنية حكم” و”تنظيم دستوري”، وخاصة في المجتمعات المتعددة، إثنياً وعرقياً ودينياً ومناطقياً الخ، فغالباً ما ينظر إليها بوصفها ضرورة لأمن المجتمعات والدول التي تقوم فيها، غير أنها، كأي تقنية أخرى، يمكن أن تنطوي على مخاطر، وخاصة إذا لم تتوفر ضمانات تصحيح وموازنة، بحيث لا تنزلق الأمور إلى التوتر وربما الانفصال.
بناءً عليه، ثمة وجهان رئيسان للفدرالية، الأول بما هي حل، والثاني بما هي مشكلة:
- الفدرالية بما هي حل، إذا تم “صناعتها” و”بناؤها”، وليس “استيرادها” أو “فرضها”، ولا أن تكون “متفاوض عليها” أو جزء من اشتراطات الحل أو التسوية. وهنا قد تتجه الأمور للبحث في صيغة موسعة ومعمقة لقانون الإدارة المحلية، بمزيد من الصلاحيات للمناطق والجهات والمحافظات، وبالطبع المزيد من التمكين للجماعات والهويات الدينية والإثنية واللغوية والثقافية الخ أو صيغة “فدرالية مخففة”، تحتفظ بقدر مناسب من السلطات للدولة المركزية.
- الفدرالية بما هي مشكلة، إذا كانت جزءاً من متطلبات وضمانات إقليمية ودولية، وبما يتجاوز ضمانات الحل بين السوريين إلى التدخل في طبيعة ودور سورية في الإقليم والعالم، وإذا تأسست على المدارك والهويات الفرعية والجهوية، تعززها وتكرسها، بداعي الطمأنة وتهدئة المخاوف وجبر الخواطر، فتكون البلاد عرضة للتأثيرات الخارجية، ومفخخة بالتوتر والعنف.
إذا حدثت توافقات بين فواعل الحدث السوري، واستعاد السوريون فكرة مجتمع ودولة، وهوية وطنية، ومواطنة، وتحول ديمقراطي، فلربما تجاوز الحدث السوري سؤال الفدرالية والتجاذبات والاصطفافات حوله، لتغدو الفدرالية مقولة مُتَحَقِّقَة بالنسبة للمطالبين بها، ومُتَجَاوَزَة بالنسبة للمتوجسين منها
تاسعاً- في اشتراطات النظر للفدرالية
لعل أول ما يشترط أو يفترض مراعاته في النظر للفدرالية كنظام قانوني دستوري لسورية، هو:
- الوعي بالفكرة، بوصفها اقتراحاً أو إمكانية تحت التقصي والتدقيق، في أفق الدستور الحالي أو أي صيغ معدلة منه، وفي أفق إصلاح سياسي كلي، وليس إعادة البناء من “نقطة الصفر” دستورياً أو من “الصفر سياسة”.
- ميزان المواءمة والصلاحية، انطلاقاً من خبرة الحرب، وموضعة الفكرة في سياق الحدث السوري، ووزنها النسبي في ديناميات إدارة الحرب ـ التسوية ـ إذ تشكل الفدرالية جزءاً من النظام الدستوري، وليس كله؛ وهكذا، تمثل “اللجنة الدستورية” مثلاً واحدة من مفردات أجندة دولية لإدارة الأزمة، في أفق القرار 2254، وثمة مفردات وموضوعات أخرى لا تقل أهمية أو خلافية عنها.
- النظر للفدرالية بما هي “تقنية سياسية”، أي شكل من أشكال تنظيم السلطات والموارد في المجتمع والدولة، وليس “مقولة” مطلوبة لذاتها، ولا “مطلباً” أو “تطلعاً” بذاته، وجزء من دينامية وليس قاعدة يجب تطبيقها أو وعداً في أفق كياني وانفصالي أو شبه انفصالي.
- وعي مخاطر أن تكون الفدرالية بمثابة “قاطع ترددي”، تنهار مع أي أزمة أو إجهاد في البلاد، أو مع أول اختبار لوحدة البلاد، أو عند محاولة فواعل الفكر والسياسة والاجتماع الخ تغيير النمط أو تجاوزه لصالح تركيز أكبر للمعنى والقوة لدى الدولة المركزية.
- أن تكون الفدرالية، مرحلية أو انتقالية أو مؤقتة، والحاجة لتدبر سبل عدم تطور الأمور بها إلى دينامية انقسام بتأثير رهانات داخلية أو خارجية.
- قيام كتلة اجتماعية سياسية، أو “كتلة تاريخية”، بتعبير غرامشي، تكون قوة جاذبة وتوحيدية، ونواة تمركز للمعنى والقوة، في أفق مشروع وطني ديمقراطي للبلاد ككل، منفتح على أفق إقليمي عربي ومشرقي.
خاتمة
إن البداهة الكامنة في الفدرالية تتمثل في نوع من “الموازنة” بين متطلبات المجتمع ومتطلبات الدولة، بين طبيعة التكوين الاجتماعي واتجاهات الهوية والمعنى في المجتمع، وبناء “عقد اجتماعي” بروح تعددية واضحة ومستقرة، وبين (مقابل) الحاجة لنظام سياسي ودستوري لدولة قوية وقادرة على تركيز الموارد المادية والمعنوية اللازمة للأمن في الداخل والخارج. كلمة السر هنا هي: مجتمع أمن ومستقر – دولة آمنة ومستقرة.
لكن ليس كل مجتمع آمن – دولة آمنة يتطلب نظاماً فدرالياً، والفدرالية ليست شرطاً شارطاً لذلك، لعل الشرط أو “كلمة السر” تتمثل في المواطنة والتنمية والديمقراطية، فإذا ما توافر ذلك، لا يعود مهماً نمط النظام الدستوري، هل هو فدرالي أم لا.
وأخيراً،
إذا حدثت توافقات بين فواعل الحدث السوري، واستعاد السوريون فكرة مجتمع ودولة، وهوية وطنية، ومواطنة، وتحول ديمقراطي، فلربما تجاوز الحدث السوري سؤال الفدرالية والتجاذبات والاصطفافات حوله، لتغدو الفدرالية مقولة مُتَحَقِّقَة بالنسبة للمطالبين بها، ومُتَجَاوَزَة بالنسبة للمتوجسين منها!
(*) ينشر بالتزامن مع “مركز البيان للدراسات“
[1] حول مفهوم بناء الدول، انظر مثلاً: فرانسيس فوكوياما، بناء الدولة النظام العالمي ومشكلة الحكم والإدارة في القرن الحادي والعشرين، ترجمة: مجاب الإمام، (الرياض: العبيكان للنشر، 2007)، ص 20.
[2] انظر بكيفية عامة: George Anderson, Federalism: An Introduction, (Oxford: Oxford University Press, 2008).
[3] انظر مثلاً: George Anderson, Creation of Constituent Units in Federal Systems, Law Working Paper (The Center
for Constitutional Transitions: NYU, 2014).
[4] انظر مثلاً: علي المولوي، “الفدرالية الفاعلة” في العراق .. وجهة نظر نقدية”، مقال، بغداد موقع مركز البيان للدراسات والتخطيط، 7 نيسان/أبريل 2018.
[5] انظر مثلاً: راتب شعبو، “الفدرالية مخرجاً”، العربي الجديد، 23 نيسان/أبريل 2021.
[6] انظر: النص الكامل لمسودة دستور سوريا “الروسي” بالعربية، وثيقة، موقع عربي21، 28 كانون الثاني/يناير 2017.
[7] “إيران تقدم مقترحات بشأن “صياغة الدستور السوري”، سكاي نيوز عربية، 11 حزيران/يونيو 2018.
[8] انظر مثلاً: Michael O’Hanlon, Deconstructing Syria: Towards a regionalized strategy for a confederal country, (Washington, Center for 21stCentury Security and Intelligence, Brookings, June 2015).
[9] فيليب خوري، سوريا والانتداب الفرنسي: سياسات القومية العربية 1920-1945، ترجمة: مؤسسة الأبحاث العربية، (بيروت: المؤسسة، 1997).
[10] انظر مثلاً: عقيل سعيد محفوض، الهوامل والشوامل: الحرب وأسئلة الهوية في سورية، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2021).
[11] انظر مثلاً: عقيل سعيد محفوض، رهان مهاباد! شرق الفرات بين الكرد والولايات المتحدة وتركيا، أي استجابة ممكنة؟، (دمشق: مركز دمشق للأبحاث والدراسات، تشرين الأول/أكتوبر 2019).