لماذا هذا الإنطباع المفاجئ خاصة إذا قارناها بالصورة التي لطالما أرستها لنفسها الدولة الوطنية المصرية، وهي صورة تعكس توجهات السياسة الخارجية المصرية في الإقليم عموماً والعالم العربي خصوصاً.
ثمة مقاربة إيجابية مفترضة لـ”استدعاء” الدور المصري لبنانياً. لا يكاد الإجماع اللبناني متوفراً حول دور خارجي أكثر من الدور المصري بوصفه ركيزة الدور العربي، فكيف إذا تكامل مع الدور الفرنسي في هذه المرحلة؟
لهذا الدور المصري ركائزه الواضحة، وأبرزها الحفاظ على مؤسسات الدول في مواجهة مخاطر التفكك على أسس مذهبية وقومية، ومواجهة التدخلات الخارجية غير العربية، واستطراداً إقفال النوافذ والأبواب أمام تسلل الإرهاب الكفيري الذي ينفذ من هشاشة المجتمعات والدول ليضرب ويتوسع، وهو الذي أنهك الدولة المصرية وجيشها في سيناء في أحد أخطر التحديات الأمنية التي استهدفتها بعد ثورة 30 يونيو. كما ترتبط هذه الأسس بالتركيز على الطابع الوطني للدول بمعنى أن تلبّسَها لبوس الإيديولوجيا الدينية، كما هو حال “الإخوان المسلمون” وغيرهم، يجافي المصالح المصرية العليا لأنه يُدخِل المجتمع المصري والدولة المركزية في حال استقطاب فتنوي داخلي، وهذا يسري على معظم المنظومة العربية.
إنسجاماً مع هذه المحددات، رسمت الدولة المصرية سياساتها في مواجهة العديد من الأزمات العربية، ما أدى إلى اختلافها أحياناً حتى مع أبرز حلفائها كالسعودية، وتحديداً في الأعوام الأولى للحرب السورية، إذ تمسكت مصر بالحفاظ على مؤسسات الدولة السورية والجيش ورعت المعارضات “الوطنية”، مخافة ذهاب سوريا نحو التفكك والفوضى.
جاءت زيارة سامح شكري معاكسة لركائز الدور المصري، وللصورة الوسطية الحاضنة لجميع المكونات، وهذا ما لا ترغب به شرائح لبنانية كبيرة تتطلع إلى دور عربي حاضن لا يُستدرج إلى الرمال المتحركة للإستقطاب السياسي اللبناني الداخلي
ونظراً لقوة ارتباط مواقفها بركيزة الأمن القومي في تفكيرها الإستراتيجي، لم تكترِث مصر إلى حجم المساعدات السعودية والخليجية عامةً لها في ظل الأزمة الإقتصادية التي تعانيها، فأبقت على استقلالية قرارها ولو تطلب ذلك إبعاد الركيزة الثانية من الأمن القومي وهي الإقتصاد المتعافي والنشط، إلى مرتبة دون الأمن القومي ببعده العسكري والأمني البحت، نظراً لمحوريته وكونه مسألة حياة أو موت للدولة التي لا مجال أمامها إلا أن تبقى موحدة ومركزية، لكي تحافظ على وظائفها وفي طليعتها إدارة مياه النيل ووحدة الأرض المصرية.
استتباعاً لهذه المحددات وترجماتها، نشأ الإستغراب الواسع لدى أوساط لبنانية، سياسية وإعلامية ونخبوية، إزاء الإنحياز الذي أظهرته لقاءات وزير الخارجية المصري سامح شكري، وتحوله عن دور “الوساطة” إلى محاولة عزل قوى لبنانية أساسية في تمثيلها الشعبي والنيابي، ولا يمكن أن يسلك أي حل طريقه إلى التنفيذ من دونها. ففي ظل كل تداعيات الإستقطاب الإقليمي والدولي على لبنان، يتطلع قسم كبير من اللبنانيين إلى دور عربي مصري حاضن للإستقرار ويشكل حاجزاً مانعاً للفوضى، خاصة أن مصر لا تنصبغ سياسات دولتها بالطابع الديني أو المذهبي.
أضف إلى ذلك، أن الرئيس اللبناني ميشال عون الآتي من رحم المؤسسة العسكرية هو الذي بادر إلى اجتثاث الإرهاب التكفيري من الأراضي اللبنانية فور تسلمه مقاليد السلطة، وهو لم يبخل بأي موقف داعم لمصر، بما في ذلك مؤخراً، إلى حد أنه كان في طليعة القادة والرؤساء العرب الذين أيدوا إعادة إنتخاب المصري أحمد أبو الغيط للأمانة العامة لجامعة الدول العربية.
استطراداً، جاءت زيارة سامح شكري معاكسة لركائز الدور المصري، وللصورة الوسطية الحاضنة لجميع المكونات، وهذا ما لا ترغب به شرائح لبنانية كبيرة تتطلع إلى دور عربي حاضن لا يُستدرج إلى الرمال المتحركة للإستقطاب السياسي اللبناني الداخلي.
على الدبلوماسية المصرية اعادة النظر في ما حصل، لمصلحة إستعادة صورة مصر التي يجب أن تكون جزءاً من دعائم الإستقرار والوحدة لا الشرذمة والإنهيار.