صدمة غزّة.. ومعنى أن يكون الإنسان يهودياً؟

سيكون على اليهود صياغة هويّة جديدة بعد حرب غزّة. هويّةٌ تعتمد روايةً غير تلك التي تُستخدَم اليوم لتبرير المجازر الجماعية والتجويع، بل هويّةٌ أخرى تُبنى أكثر على جذورٍ مغايرة في الإرث اليهودي تقرّ بالمساواة بين البشر وتُدرِك خطر تبجيل الدولة المبنيّة على الدين على حساب حياة الإنسان. هذا موضوع كتاب أصدره الصحفي الأميركي بيتر باينارت حديثاً في الولايات المتحدة تحت عنوان "ما معنى أن تكون يهوديًا بعد تدمير غزة؟". كتابٌ خلق ضجّةً ويلقى رواجاً كبيراً اليوم حسب صحيفة "النيويورك تايمز".

يرى باينارت، وهو يهوديّ أميركيّ، أنّ الإبادة الجماعيّة في غزة تؤدّي إلى نقطة لا عودة لمعنى أن يكون الإنسان يهوديّاً في القرن الواحد والعشرين. ويقول إنّ الفرضيّة الأساسيّة للصهيونيّة الليبرالية “المؤيّدة لإسرائيل، وفي الوقت نفسه للسلام”، مع إمكانية تعايش دولة يهودية وديموقراطية بسلامٍ إلى جانب دولة فلسطينية قابلة للحياة، قد تلاشت بفعل واقع الاحتلال الإسرائيلي المتجذِّر، والتوسّع الاستيطاني، والقوّة الساحقة التي تستخدمها إسرائيل. وبالتالي يجب فصل الارتباط بين الدين اليهوديّ ودولة إسرائيل، كما الفصل بين الهويّة اليهوديّة والدعم غير المشروط للدولة العبريّة.

هذا كون أنّ الدمج بينهما قد أجبر اليهود على إعطاء الأولويّة لسلطة تأخذ طابعاً قوميّاً على حساب إرث العدالة والرحمة وحرمة الحياة البشريّة في الدين. كما أنّ استخدام ذكرى المحرقة ومكافحة معاداة السامية باتا يُستعملان لحماية السلطات الإسرائيلية من النقد وتبرير عنفها المُفرِط، مما له تبعاته الكارثيّة ليس فقط على الفلسطينيين بل أيضاً على أخلاقيّات اليهودية نفسها. هكذا يرى باينارت أن تدمير غزّة هو الدليل القاطع على إفلاس هذا الدمج أخلاقيًا. ويُجادل بأن كون المرء يهوديًا يعني بالضرورة أن يُعلي من شأن نفسه ومجتمعه، حتى – وبخاصةً – عندما يكون معسكره هو من يرتكب الفظائع.

يدعو باينارت إلى يهوديّة لا تُعرَّف بالتضامن العشائريّ والدعم المطلق لدولة ٍقومية، بل على الشجاعة الأخلاقية. ويستنِد في ذلك على أسفار الأنبياء في التوراة، فيستشهد بأشعياء وعاموس، اللذين انتقدا الأقوياء بلا خوف ودافعا عن المستضعفين، مستخلِصاً أن القوّة اليهودية الحقيقية تكمُن في شجاعة انتقاد الظلم، وبخاصّةً عندما يرتكبه من يدّعون التصرّف باسمها.

ويصل باينارت إلى أنّ حلّ الدولتين لم يعُد واقعًا قابلاً للتطبيق. فالواقع اليوم هو دولة واحدة، برغم أنّها تعمل حاليًا كدولة فصل عنصري (أبارتايد)، يتمتّع فيها شعبٌ بحقوقٍ كاملة، بينما يخضَع الآخر للاحتلال العسكري أو الحصار والقتل. المسار الأخلاقي والواقعي الوحيد هو دولة واحدة ثنائية القومية، يتمتّع فيها اليهود والفلسطينيون بالمساواة الكاملة في المواطنة، ما يتطلّب بالضرورة إعادة تفكير جذريّة في الهوية اليهودية، بعيدًا عن القومية الإقصائية.

ويدعو باينارت اليهود الأميركيين ومؤسّساتهم إلى استخدام نفوذهم السياسي للضغط على السلطات الأميركية لإنهاء دعمها العسكري والدبلوماسي غير المشروط لإسرائيل، واشتراط احترام حقوق الإنسان. ويخلُص إلى أنّ درس المحرقة وشعار “يجب ألاّ يتكرّر ذلك أبداً” يجب أن يكون التزامًا عالميًا بمعارضة تجريد أيّّ شعبٍ من إنسانيته وقتله الجماعي. إذ أنّ اضطهاد الآخرين هو في نهاية المطاف خيانة لضحايا المحرقة.

لا مطالبة عربيّة بقطيعةٍ اليوم. إذ أنّ القادة السياسيين يعملون اليوم على تهييج الغرائز، ضدّ “الآخر”، بل يدفعون “الآخر” بينهم إلى الاحتماء بالخارج. وأمام انفلات الغرائز لا يسود اليوم في المنطقة العربيّة سوى الإحباط والخنوع أمام الغطرسة أو الإلهاء بازدهارٍ افتراضي أو حقيقيّ يمسّ فئةً دون فئات أخرى.. بينما غزّة تُذبَح والبلدان العربيّة تستباح

هذا كلامٌ لافتٌ للانتباه من صهيونيّ أميركيّ، يطالب اليوم بالقطيعة مع الفكر اليهوديّ السائد في عزّ غطرسة بنيامين نتنياهو الذي يسعى لبسط الدولة اليهوديّة نحو النيل والفرات. بالمقارنة، لم تأتِ القطيعة مع فكر “الحرب الصليبيّة لتحرير القدس” حقّاً سوى بعد سقوط عكّا الصليبيّة عام 1291. هذا بعد أن حَرَفَ تجار البندقية الحرب الصليبيّة الرابعة عن هذا الفكر نحو تحرير القسطنطينيّة المسيحية الأرثوذكسيّة، وبعد أن عاثت “حملة الرعاة” قتلاً وإبادةً بيهود أوروبا.

هكذا أتى إيراسموس – الذي يتخذه الاتحاد الأوروبي اليوم رمزاً للتبادل المعرفي بين الشباب والجامعات – لينقض مفهوم الحرب المقدسة. ففي أعماله، ولا سيما كتاب “شكوى السلام”، جادل بأن الحرب نقيضٌ لتعاليم المسيح في السلام والمحبة. وسَخِرَ قائلاً: “من السخافة محاولة نشر دين المسيح بقوّة السلاح”. وقد قوّض هذا النقد الإنساني التبرير اللاهوتي للحروب الصليبية.

لكنّ فكرة أخرى نشأت وترسّخت مكان “الحرب الصليبيّة”، وهي الاستعمار، التي تشكّلت من مزيجٍ من “مهمّة تحضير الشعوب” (بما فيها عبر نشر الدين)، وفرض النموذج الأوروبي باعتباره الأعلى في “سلّم الخليقة البشريّة” (على أولئك “المتخلّفين”، بل المعتبرين “حيوانات” وليسوا بشراً)، مع خلفيّة دينيّة عن مهمّة إلاهيّة للهيمنة على العالم وخلفيّة أخرى تختزل العلوم لتبرير الهيمنة كنتيجة طبيعية وحتمية للتفوّق البيولوجي والثقافي. الفكر الاستعماري جرّد الشعوب المستعمَرة من إنسانيتها، ونَظَرَ إلى الأراضي التي يعيشون عليها أنّها “خالية” يجوز نهب ثرواتها. واعتبر هذه الشعوب عاجِزة عن حكم نفسها، وبحاجة إلى توجيهٍ أبويّّ. وما أسماه الشاعر روديارد كبلينج “عبء الرجل الأبيض”.

لم يسقُط الفكر الاستعماري وخلفيّاته حقّاً برغم نشوء الوعي عن استغلال الشعوب المُستعمَرة، وبروز حركات فكريّة مناهضة له من جون هوبسون وحتّى فرانز فانون أخذت إلى نضالات وإنجازات الاستقلال من الاستعمار المباشر. بل تحوّل إلى فكر هيمنة غير مباشرة، تمّت تسميتها بالإمبرياليّة، أي الإمبراطوريّات التي تجعل “دولاً قوميّة” تهيمن على “دولٍ قوميّة” أخرى ضعيفة وتنهب خيراتها، خلافاً لفكرة الإمبراطوريّات المتعدّدة القوميّات التي انتشرت حتّى الحرب العالميّة الأولى.

إقرأ على موقع 180  المقاومة ليست.. تهمة

خلفيّة هذا الفكر الاستعماري والإمبريالي ما زالت حاضِرة جليّةً في خطابات القادة السياسيين في الولايات المتحدة وأوروبا، وفي ما يسمّى “زلاّت لسانهم”. وخلفيّة هذا الفكر هي أساسٌ لعقيدة القادة الإسرائيليين، وخاصّةً بنيامين نتنياهو. لكنّ ممارسات هؤلاء القادة الغربيين باتت تشكّل صدمة لشباب بلادهم الذين تربّوا على أفكار حقوق الإنسان والحريّة. صدمةٌ لم تصِل حتّى الآن إلى فرض قطيعة يدعو إليها العقلاء.

الاحتجاجات الشعبيّة على صلافة الممارسة الاستعماريّة يقابلها اليوم تهييج اليمين المتطرّف ضدّ “الآخرين” (اللاجئين وغيرهم).. وصولاً إلى القمع المباشر. الصدمة من صلافة الممارسة “الاستعماريّة” اللا إنسانيّة ليست حكراً على اليهود وعلى شعوب أوروبا وأميركا. بل من المفترَض أن تكون أكبر لدى الشعوب العربيّة والإسلاميّة عموماً. إلاّ أنّها صدمة لم تبلغ حتى اليوم حد المطالبة بقطيعة مع أفكارٍ ما زالت سائدة.

“الحضارة الإسلاميّة” كانت دوماً متعدّدة الديانات والأقوام، حيث قامت على “حريّة الضمير”. مفهوم “الجهاد” فيها تمّ تحويله من نداءً للدفاع ضدّ غزوات الخارج وصراعٍ فرديّ روحيّ داخليّ ضد الغرائز والخطايا (“الجهاد الأكبر”) إلى مشروعٍ عنفيّ يرفض “الآخر”، حتّى الآخر الذي تتشارك معه في صنع حضارةٍ فريدة. ألا تكفي فظاعات “داعش”، حتّى ضدّ مسلمين، في خلق صدمةٍ وقطيعة؟

و”العروبة” نشأت كفكرةٍ تحرريّة جامعة ضدّ الاستعمار. لكنّ اعتمادها كأساسٌ لإنشاء دولة تمّ تقويضه منذ سايكس بيكو ونكسة 1967. أليس هناك صدمة وقطيعة لتحويلها إلى أساسٍ لفكرةٍ إنسانيّة تعتمد المساواة الكاملة في المواطنة لكلّ من يسكن أرضاً ودول عربيّة ولشراكةٍ عربيّة لصنع الازدهار؟

لا مطالبة عربيّة بقطيعةٍ اليوم. إذ أنّ القادة السياسيين يعملون اليوم على تهييج الغرائز، ضدّ “الآخر”، بل يدفعون “الآخر” بينهم إلى الاحتماء بالخارج. وأمام انفلات الغرائز لا يسود اليوم في المنطقة العربيّة سوى الإحباط والخنوع أمام الغطرسة أو الإلهاء بازدهارٍ افتراضي أو حقيقيّ يمسّ فئةً دون فئات أخرى.. بينما غزّة تُذبَح والبلدان العربيّة تستباح.

Print Friendly, PDF & Email
سمير العيطة

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  لحظة إستثنائية وتنتهي.. هذه أميركا