ما بعد ضربة الدوحة: الانزياحات البطيئة.. وتحولات الذات الخليجية

الركون إلى "الصديق الأميركي" كضامن وحيد للأمن الخليجي تحوّل إلى وهم نفسي تجاوزه الزمن. واشنطن التي عُرضت طويلاً كحارس الاستقرار تنظر إلى المنطقة بميزان مصالحها الفورية، وتضع كل ما يُسمّى "القيم المشتركة" في سلة السياسة الواقعية حين تتعارض مع مركز ثقلها المالي والعسكري. التحالف مع إسرائيل يمثل انعكاس غياب البدائل الاستراتيجية الخليجية آنذاك، وتجسيد ذات خليجية انشغلت بطلب الحماية الخارجية أكثر مما انشغلت ببناء قوتها الداخلية.

طوال الحرب الباردة، سادت معادلة واضحة: الأمن مقابل النفط. أميركا تؤمّن الحماية من السوفييت والمد القومي العربي، مقابل تدفق الطاقة والتزامات البترودولار التي كرّست الدولار كعملة كونية. بعد انهيار الاتحاد السوفييتي تغيّر العدو: العراق ثم إيران. والجوهر بقي ثابتاً: ذات خليجية متوجسة، ترى في الخارج مرآة أمنها، وتعيد إنتاج علاقتها مع واشنطن بوصفها عقداً نفسياً أكثر مما هو عقد سياسي.

عملية “طوفان الأقصى” 2023 والحرب اللاحقة قلبتا التوازن. إسرائيل تحوّلت من “شريك ردع” ضمن الاستراتيجية الأميركية إلى تهديد مباشر لبنية الأمن الخليجي. الضربة الإسرائيلية في الدوحة، عاصمة تحتضن أكبر قاعدة أميركية خارج الأراضي الأميركية، شكّلت إشارة صادمة: واشنطن عاجزة أو غير راغبة في ضبط فائض القوة الإسرائيلي. عندها اهتزت البنية النفسية للتحالف؛ الذات الخليجية لم تر في أميركا ضامناً، بل رأت نفسها رهينة لمعادلات ضيقة تُدار فوق رؤوسها.

الاقتصاد الأميركي يعيش مأزقاً بنيوياً: دين عام يتجاوز 37 تريليون دولار، خدمة سنوية تتخطى التريليون، أي أكثر من ميزانية الدفاع. التدفقات الخليجية – استثمارات بأكثر من تريليوني دولار في السندات الأميركية، عقود تسليح تفوق 200 مليار، وأسعار طاقة مستقرة – تشكّل صمام أمان لواشنطن. المفارقة أنّ أميركا في حاجة وجودية للخليج، فيما الحاجة الخليجية لأميركا تحمل بعداً عاطفياً أكثر منه استراتيجياً.

إنها بداية مرحلة تحمل معادلة صريحة: مصالح واشنطن الاقتصادية مرهونة بكبح إسرائيل. هذا توصيف سياسي استراتيجي يعبّر عن إدراك خليجي أنّ زمن الاعتماد الأُحادي على أميركا وصل إلى نهايته، وأن الانزياحات البطيئة – حتى حين تبدو مترددة في بداياتها – تفتح الباب أمام تحوّل جذري في موقع الخليج ودوره

التحول الجاري يظهر في صورة انزياحات بطيئة، نفسية قبل أن تكون سياسية:

  • إدراك خليجي متزايد أنّ إسرائيل بفائض قوتها تشكّل تهديداً بنيوياً للاستقرار.
  • وعي جديد يرى أنّ خطاب الابتزاز الأميركي بذريعة “الحماية من إيران” فقد فعاليته.
  • بداية خطاب داخلي يتعامل مع تنويع الشراكات (الصين، روسيا، آسيا الوسطى) كخيار سيكولوجي يحرّر الذات الخليجية من عقدة “الحماية الأميركية”.

هذه الانزياحات توازي إعادة تشكيل للذات: من هوية سياسية اعتادت الارتهان للخارج بوصفه مصدر الأمان، إلى هوية أكثر ثقة بقدرتها على إنتاج أمنها الذاتي وفرض ردع متبادل يعيد رسم حسابات واشنطن.

ما بعد “الأمن مقابل النفط” هو زمن التوازنات النفسية والسياسية الجديدة. الحماية لا تُشترى بالدولار ولا تُستدرج بعقود السلاح، بل تُنتزع عبر خيارات إقليمية جريئة وتحول في الوعي الخليجي الجماعي: من ذات مستهلكة للأمن إلى ذات منتجة له.

إنها بداية مرحلة تحمل معادلة صريحة: مصالح واشنطن الاقتصادية مرهونة بكبح إسرائيل. هذا توصيف سياسي استراتيجي يعبّر عن إدراك خليجي أنّ زمن الاعتماد الأُحادي على أميركا وصل إلى نهايته، وأن الانزياحات البطيئة – حتى حين تبدو مترددة في بداياتها – تفتح الباب أمام تحوّل جذري في موقع الخليج ودوره.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  المواطن الحر عماد الدولة لا الطوائف والمكونات
عبد الحليم حمود

رئيس تحرير مجلة "بوليتيكا"؛ روائي وفنان تشكيلي لبناني

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  المواطن الحر عماد الدولة لا الطوائف والمكونات