ترامب وغزة.. حرب السرديات!

تقاس الحروب بنتائجها السياسية وما يترتب عليها من أوضاع جديدة على الأرض. بأى حساب يستحيل تمامًا تغييب سؤال حرب السرديات.. ومن يحسمها أمام الضمير الإنسانى؟ إنه سؤال حاسم فى تقرير الاتجاهات الرئيسية لما بعد الحرب.

فى زيارته إلى العاصمة البريطانية لندن حاول الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أن يسوغ دعمه شبه المطلق للعدوانية الإسرائيلية على المنطقة كلها، لا غزة وحدها، بالتبنى الكامل لسرديتها عن أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر (2023).

فى مؤتمر صحفى جمعه برئيس الوزراء البريطانى كير ستارمر أوقف حركة الأحداث عند ذلك اليوم، كأنه لم يحدث شىء بعده، ولا ارتُكبت جرائم حرب شنيعة بلا مثيل فى التاريخ الإنسانى الحديث. أعرب عن تألمه البالغ من المشاهد التى اطلع عليها، رغم أن صحفًا إسرائيلية بددت ادعاءاته بالوثائق والتفاصيل المدققة.

لم يُبدِ بالمقابل أدنى تعاطف مع إبادة أكثر من (66) ألف ضحية فلسطينية، ولا تأثر لحظةً بمشاهد إذلال أكثر من مليونى إنسان محاصر يتضورون جوعًا.

بقوة الصور سقطت السردية الإسرائيلية تمامًا ونهائيًا أمام الضمير الإنسانى.

استدعت المأساة أوسع تضامن مع القضية الفلسطينية كما لم يحدث فى تاريخها كله؛ أحيت القضية من تحت رماد النسيان والتجهيل، وطرحت سؤال مستقبلها على العالم كله.

بدا التوجه الدولى الواسع إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية تأكيدًا رمزيًا على شرعية قضيتها وإدانة مؤكدة للعدوانية الإسرائيلية.

إذا أُوقِفَت الحرب دون تحقيق هدفيها فى اجتثاث المقاومة واستعادة الأسرى، فإنها هزيمة استراتيجية لإسرائيل، وتداعياتها لا تُحتَمَل. السيطرة الأمنية الكاملة على قطاع غزة وهمٌ كبير. اجتثاث المقاومة المسلحة وهمٌ آخر. طالما أن هناك احتلالا فهناك مقاومة حتى لو اختلفت العناوين والمسميات.

لم يأبه ترامب، الذى يصف نفسه بأنه «رجل سلام»، بما يراه العالم كله من مآسٍ وجرائم تمس أى قيمة إنسانية.

هو، على عكس العالم كله، يرفض الدولة الفلسطينية ويؤيد الاستيطان فوق الأراضى الفلسطينية المحتلة، ويمعن فى تبنى السردية الإسرائيلية المتهافتة.

نسب إلى الأسرى الإسرائيليين الذين التقاهم أنهم لم يشعروا بأى تعاطف من خاطفيهم.

ولم ينسب إليهم أنهم تعرضوا للتعذيب أو الحط من كرامتهم كبشر، ولا قارن أوضاعهم بما يحدث من انتهاكات بشعة للأسرى الفلسطينيين داخل السجون الإسرائيلية.

إنه دفاع مستميت عن سردية لم تعد تقنع أغلب أنصاره فى الحزب الجمهورى حسب استطلاعات الرأى العام.

«ما نفعله الآن فى غزة حرب إبادة، قتل عشوائى للمدنيين بلا حدود، وحشى وإجرامى».

كانت تلك عبارة قاطعة منسوبة إلى رئيس الوزراء السابق أيهود أولمرت.

إنه إقرار علنى بهزيمة السردية الإسرائيلية.

لم يكن وحده الذى توصل إلى ذلك الاستنتاج.

أى متابعة لما ينشر فى إسرائيل عبر وسائل الإعلام المختلفة يلمس بوضوح خشية متصاعدة من أن تصبح دولة منبوذة.

التقط المعنى نفسه الكاتب الأمريكى اليهودى توماس فريدمان على صفحات «نيويورك تايمز» محذرًا ترامب من الوقوع فى فخ بنيامين نتنياهو. حرب السرديات تكاد أن تكون حُسِمَت.

هذه هزيمة استراتيجية وأخلاقية لإسرائيل لا يمكن تجاهلها أو التهوين منها.

باعتراف ترامب نفسه: «ربما تربح إسرائيل الحرب، لكنها خسرت ميدان العلاقات العامة».

ما لا يود الاعتراف به أنها ليست علاقات عامة وحملات دعاية. إنها حقائق على الأرض تنزع أية شرعية سياسية أو أخلاقية عن حربى الإبادة والتجويع.

أخذت منظمات حقوقية إسرائيلية تدعو علنًا إلى تحالف حقوقى دولى يعلن أن الدولة العبرية ترتكب جرائم حرب.

وأخذ أكاديميون إسرائيليون يصدرون بيانات يبدون فيها بوضوح خشيتهم من تقوّض صورة إسرائيل.

الوقائع السياسية تداهم مسارح الحرب.

تحت ضغط تصاعد الاحتجاجات الدولية وزخم الدعوات داخل الاتحاد الأوروبى لفرض عقوبات على إسرائيل، لم تعد هناك فسحة وقت طويلة أمام العدوانية الإسرائيلية.

معضلة ترامب أنه يقول شىء ويفعل عكسه.

يتحدث عن نفسه كرجل سلام يسعى لوقف الحرب وإدخال المساعدات الإنسانية للمجوعين فى قطاع غزة والإفراج عن الأسرى والرهائن الإسرائيليين، دون أن يكون مُصَدَّقًا على أى نحو أو بأى حساب.

بعد ساعات من تصريحاته اللندنية التى زعم فيها تبنيه لتلك المطالب، استخدمت بلاده حق النقض لإجهاض قرار من مجلس الأمن الدولى ينص عليها بالحرف.

لم يكن ممكنًا أن تتوحش آلة الحرب الإسرائيلية وتقوم بوقت واحد بعمليات عسكرية على جبهات متعددة فى الدوحة وغزة والضفة الغربية وجنوب لبنان وميناء الحديدة اليمنى وسوريا من دون دعم أمريكى شبه مطلق، شاملًا تبنى سرديتها لحرب بلا أفق ولا نهاية.

لا يوجد تصور سياسى واحد عن ترامب يتسم بقدر من التماسك لليوم التالى، ولا أية إجابة مصدقة على سؤال: متى تتوقف حربى الإبادة والتجويع؟

تطويق غزة بالكامل قبل السادس من تشرين الأول/أكتوبر المقبل هدف إسرائيلى معلن، لكنه ليس سهلًا مع تزايد قوة ضربات المقاومة الفلسطينية وسقوط ضباط وجنود إسرائيليين.

إذا أُوقِفَت الحرب دون تحقيق هدفيها فى اجتثاث المقاومة واستعادة الأسرى، فإنها هزيمة استراتيجية لإسرائيل، وتداعياتها لا تُحتَمَل. السيطرة الأمنية الكاملة على قطاع غزة وهمٌ كبير.

إقرأ على موقع 180  هل تستطيع إيران وحدها مواجهة التحالف الأميركي الغربي؟

اجتثاث المقاومة المسلحة وهمٌ آخر.

طالما أن هناك احتلالا فهناك مقاومة حتى لو اختلفت العناوين والمسميات.

حسب مجلة «الإيكونوميست» البريطانية واسعة النفوذ، فإن أخطر ما يتهدّد إسرائيل أن تخسر الولايات المتحدة حليفتها الأكبر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

إذا ما أفضى ذلك التوقع إلى نتائجه المحتمة، فإنها الهزيمة الاستراتيجية القاصمة، أَقَرَّ بها ترامب أو لم يُقِرّ.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
عبدالله السناوي

كاتب عربي من مصر

Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  انقلاب "سديه تيمان" و"بيت ليد".. "إسرائيل" إلى المجهول