

هذه الصورة ابتكرها علماء أقدمون عن عالم محشور بين قرني ثور ضخم. ثور تخيلته دائماً غاضباً. دائما يركض وفي اتجاهات متناقضة. يفاجئنا بالتوقف للحظة ثم يثور واللهب الكثيف صادر من أنفه وأذنيه، حتى خيل لي أكثر من مرة أن يوماً سيأتي يشتعل الثور بالغضب أو باليأس إلى درجة تجعله يلقي بما يحمل بين قرنيه في بحر أو وادي عميق.
مرات أخرى، وربما في غالب الأوقات، تغلبت براءة الأطفال حتى صرنا نعتقد أن الثور طيب القلب، لن يلقي بما يحمل إلى التهلكة فوظيفته أن يحمل العالم ولا يريد أن يفقد هذه الوظيفة، يغضب لأعمال الشر التي كثيراً ما يقترفها سكان هذا العالم فينفث نار الغضب من داخله قبل أن يهزهم هزاً عنيفاً ليعودوا بعده إلى صوابهم.
***
برغم تقدمي في السن وما قرأت ودرست وتعلمت لم أستطع أن أزيح صورة العالم بين قرني ثور من رأسي وأنا أرى من حولي بشراً يمارسون الشر في ألعن حالاته وبشراً مهددين بالفناء، أرى عمالقة في القوة والهيمنة مرتعبين، أرى بشراً جبارين خرجوا من صفحات كتب صفراء ومهمتهم إبادة بشر آخرين تصادف وجودهم على طرق زحفهم اللعين. أرى بشراً، برغم كل الخطر المحيط بهم، عازمين على الخروج بسلام وبغير الحرب من خطر شر زاحف.
الآن أعود إلى الواقع وتفاصيله وبخاصة بعد أن رأيت بنفسي الخوف يطل بقسوة من وجوه أعرفها، رأيته على وجوه رؤساء دول ومسئولين كبار في الخارج. أما مصادره فغير قليلة. أذكر هنا القليل منها:
أولاً؛ الأسلوب الذي جاء به الرئيس دونالد ترامب إلى ولايته الثانية من سنوات الندم والاستعداد ونية الانتقام. منذ اليوم الأول من الولاية الثانية في البيت الأبيض انتهج الرئيس أسلوب المزج بين التهديد والابتزاز في لقاءاته مع ضيوفه وبخاصة رؤساء الدول. أراد، بدون حرب، أن يضع كل رئيس دولة يقابله في موقع “دوني” بالنسبة لشخصه وبالنسبة أيضاً للولايات المتحدة مستخدماً السخرية والتجاوز والتجاهل والشروط المجحفة لاستمرار العلاقة الشخصية أو بين دولتين.
وإمعاناً في السخرية جعل اللقاءات مفتوحة للصحفيين وكاميرات التصوير. أعرف أن هذا الأسلوب المستجد في دبلوماسية البيت الأبيض قد حقّق بالفعل النتائج المتوقعة منه وأهمها بث الخوف. رأيناها مستخدمة في لقاءات الرئيس بالقمة الأوروبية مجتمعة أو متفرقة ورأيناها في واحدة من أبشع صورها في قمة جمعت الرئيس الأمريكي مع زعماء إفريقيين. أعترف بأن العرب، عن قصد ربما رفضوا أو تهربوا من عقد قمة عربية موسعة يُدعى إليها الرئيس الأمريكي.
لماذا قُتل ريتشارد كيرك؟ الشاب المؤيد لمواقف ترامب اليمينية والمؤيد سابقا لإسرائيل على أسس مسيحية، الشاب المرشح من الآن ليقود أمريكا في المستقبل وليكمل مشوار التطرف اليميني للرئيس ترامب. جاءت الإجابة المدوية بأصوات العديد من الإعلاميين الأمريكيين، “قُتل لأنه، وهو الداعم للتحالف الأمريكي الإسرائيلي، أبدى في الآونة الأخيرة تحفظات قوية على سياسات إسرائيل في فلسطين واعتراضات على المدى العميق الذي وصل إليه النفوذ السياسي الصهيوني في الدولة الأمريكية حتى صار يهدد الديموقراطية والقيم المثلى في أمريكا”
ثانياً؛ أنا، ومثل كثيرين غيري ممن هم في عمري، شاهد على الاغتيال السياسي كأداة من أدوات الصراع السياسي الداخلي. أما وقد صار أهم أداة في الصراع الدولي، ولعله بكثافة استخدامه صار يفسر الغموض والخوف الشائعين في تصرفات معظم حكومات العالم وفي سلوكيات الدول المشتركة في صراع إقليمي أو دولي. يفسر أيضا إقبال دول عديدة على إدخال تعديلات قسرية وعاجلة على آليات أمن السلطة الحاكمة وبخاصة أمن أشخاصها. مثال على ذلك خطط السفر وبرامج اللقاءات والمؤتمرات الدولية. لاحظ معي أيها القارىء إصرار المسئولين السياسيين في حكومة بنيامين نتنياهو على تذكير الدول العربية كل يوم بإمكانات إسرائيل الهائلة في مجالات استخدام الاغتيال السياسي.
ثالثاً؛ استنتجت من كتابات معلقين وخبراء غربيين، وبخاصة الأمريكيين منهم، أن بعض سلوكيات الرئيس الأمريكي وسياساته في الآونة الأخيرة صارت تكشف عن قلق شديد يدفعه للتطرف في مواقفه خشية اتهامه بالضعف، الذي هو حقيقة يصعب تجاهلها وإن راح ينكرها بسياسات وقرارات أشد تطرفاً.
الفشل يلاحقه، وهو أمر آخر لا شك فيه. جدير بالذكر أن الاعتقاد السائد في واشنطن كما في غيرها بأن جائزة نوبل للسلام التي يسعى الرئيس الأمريكي إليها ويطلبها من زواره، عادت تبتعد حتى صارت أملاً بعيد المنال وموضوع تندر ينشغل به أمراء برامج الفكاهة والسخرية في “الميديا” الغربية. وفي الوقت نفسه، صار هذا الضعف خطراً يُهدّد مكانة أمريكا ويؤثر مباشرة على توجهات السياسة الخارجية.
رابعاً؛ انكشف أمام الرأي العام الأمريكي والدولي الدور الخطير والهام جداً الذي تلعبه المصالح الشخصية في صنع السياسة في أمريكا وانعكاساتها على الخارج، وبالذات الدور المتنامي لعالم رجال الأعمال وجماعات التكنولوجيا المتقدمة، وبوجه خاص جماعة كبار المطورين وسماسرة العقارات وجماعة الصهيونية العالمية ممثلة في “إيباك” وغيرها.
هنا يجدر بي التوقف أطول قليلاً لأهمية ما يطرأ يومياً من مظاهر خوف خطيرة تكشف بدورها عن أحداث عالمية لا تقل خطورة. ففي مؤتمر عقده الناشط و”المؤثر” الجمهوري اليميني الشاب تشارلي كيرك اجتمع الألاف من المناصرين له وللرئيس ترامب المدين له ببعض الفضل في فوزه في انتخابات الرئاسة، قيل إن شاباً مجهول التوجه والعقيدة، شاب بسيط بماض أبسط، ولكن ببندقية غير بسيطة، أطلق النار على الناشط والقائد لهذا التيار المتزايدة شعبيته. المثير أنه في هذه اللحظة أو في أعقابها نشبت في الولايات المتحدة انتفاضة إعلامية لعلها الأولى في تاريخ الدولة.
بعد يوم أو يومين لم توجد قناة تلفزيونية إلا وصار هذا الحادث شغلها الشاغل. لماذا قتل تشارلي ومن القاتل الحقيقي. السؤال نفسه الذي سئل في أعقاب مناسبات عديدة متشابهة وتكتموا عليه وعن الإجابات عليه. هذه المرة جاءت بسرعة الإجابة عن سؤال من القاتل وما الجهة المدبرة والمنفذة لجريمة قتل ريتشارد كيرك، جاءت هادرة ومتدفقة ومثيرة للفضول الإعلامي المكتوم لسنوات عديدة، جاءت ومعها تفاصيل جديدة عن حادثين تاريخيين سبق أن أثارا حملات من الأسئلة المباشرة والإجابات الزائفة والمحيرة، وهما حادثة قتل الرئيس جون فيتزجيرالد كينيدي وحادثة تفجير برجي مانهاتان وقد راح ضحيته ثلاثة آلاف شخص واتهم فيه عناصر إسلامية متطرفة حتى صار نموذجاً يمهد لحرب عالمية أو حروب بالوكالة ناشبة وبخاصة في الشرق الأوسط ضد ما يسمى بالإرهاب.
لماذا قُتل ريتشارد كيرك؟ الشاب المؤيد لمواقف ترامب اليمينية والمؤيد سابقا لإسرائيل على أسس مسيحية، الشاب المرشح من الآن ليقود أمريكا في المستقبل وليكمل مشوار التطرف اليميني للرئيس ترامب. جاءت الإجابة المدوية بأصوات العديد من الإعلاميين الأكثر شعبية في صفوف الإعلام الأمريكي، “قُتل لأنه، وهو الداعم للتحالف الأمريكي الإسرائيلي، أبدى في الآونة الأخيرة تحفظات قوية على سياسات إسرائيل في فلسطين واعتراضات على المدى العميق الذي وصل إليه النفوذ السياسي الصهيوني في الدولة الأمريكية حتى صار يهدد الديموقراطية والقيم المثلى في أمريكا”. لم يتأخر هؤلاء الإعلاميين في الرد على بقية السؤال، وهو عن القاتل الحقيقي.
خامساً؛ جاء الرد وكأنه الزلزال المنتظر من البعض والمتوقع من البعض الآخر. جاء الرد في شكل اتهام صريح وخطير، القاتل هو الأجهزة الخفية في الصهيونية العالمية بمعاونة عملاء في أكبر جهازين للاستخبارات في العالم، البريطانية والأمريكية وفي جهاز “الموساد” الإسرائيلي.
الهاجس على مر السنين صار اتهاماً علنياً يضرب في عمق حرب عالمية شنتها الصهيونية العالمية مع عملاء لاغتيال أشخاص وأمراء وزعماء وقادة في عديد الدول على امتداد عقود تحت زعم الحرب العالمية ضد الإرهاب.
سادساً؛ ما نزال نركض وراء تكهنات وتسريبات واجتهادات إعلاميين وإن كبار في قدراتهم وعمق تحليلاتهم وغنى مصادر معلوماتهم. بعضهم يهودي العقيدة ومتبحر في فنون الضغط الصهيوني الممارس يومياً على حياة ونشاط الإعلاميين الأمريكيين.
لم يعد خافياً أن قتل الشاب الأمريكي تشارلي كيرك سوف يزيد من حجم الخوف المنتشر في مختلف دوائر القرار السياسي. يتردد وبكثرة على ألسنة المنتفضين وكتاباتهم أن أمريكا اليوم أمام نوع من الخوف غريب ومخيف، وبخاصة خوف الكبار، سياسيين كانوا أم إعلاميين ومثقفين. يتردد أن تشارلي لم يخفِ على مستمعيه في أيامه الأخيرة غضبه وهو يرى الصهيونية الأمريكية تتلاعب بأولويات أمريكا وتضع مصالح إسرائيل قبل مصالح أمريكا. كلام خطير عن شاب قاد مع ترامب حملته الانتخابية وتعده آلة الحزب الجمهوري لترشيحه في الانتخابات الرئاسية القادمة خلفاً لترامب.
سابعاً؛ يتردد الآن، وأسمعها أكثر وأكثر من أصدقاء في مواقع نفوذ، يتردد أن ترامب نفسه يخضع هذه الأيام لحملة ضغوط بالغة الخطورة ولأعمال ابتزاز تتصل بمصالح عائلته المالية وفي مجال العقارات وفي ماضي وحاضر علاقاته الحميمة. يبالغ زميل آخر بالزعم أن نتنياهو نفسه، وبرغم تأصل الشر فيه، لم يعد يملك حق أو حرية التراجع في أي من سياساته.
***
في كل الأحوال، وبخاصة حال كل من أمريكا القطب الأعظم والمهيمن وحال إسرائيل الطرف الأقوى عسكرياً وإرهابياً في معادلة الشرق الأوسط وحال العلاقة بينهما، غير خافٍ نوع المستقبل القريب للأوضاع الدولية والإقليمية.