في المخيم.. سيدتان وحبٌ وسخريةٌ و”نقطةٌ” وورقُ عنب

يقال أحياناً أننا لا ننطق ما في رأسنا بل ننتظر من الآخر أن ينطقه عنّا أو لنا. من شأن التكرار أن يعيد صياغة الحالة نفسها ولو بعد سنين. نعيد الشريط، نساء من مختلف الأعمار يرجعن يومياً من معمل غندور في بيروت الى مخيم برج البراجنة في سبعينيات القرن الماضي. يتصاعد بخار الحلل، ربما ورق عنب. لحظة يلامس الوجه مع مقطعهن المفضل! لقطة معلقة تنتفي فيها الرغبة بوجود شاهد. لحظة ليست ضمن الخيال ولا الواقع. ليست تعباً ولا راحة.

نعتقد أن الرغبة بوجود شاهد ستظل عالقة مع أصحابها تلاحقهم، منذ بداية طابور نساء البرج الى المعمل. قد تذوب في نهاية الأمر بعد القصف العشوائي المستمر، أو بعد طرد تعسفي للعمال حينها، أو ربما بعد أن هدأ الحلم وأصبح بالياً مثل المخيم. فمن الناطق حينها أم كلثوم؟ أم أصوات النساء في الأذهان؟ المخيم أم المعمل؟

تتوارث النساء الرؤية الفلسطينية في المخيم بوضوح أما الحلم فلا يورث. فكيف يبدو شكل تلك اللقطة اليوم؟ وهل يعني هذا أننا ندور في نفس الدائرة؟

ترتدي “روباً” خمري اللون وشتوي القماش. تخطت منتصف الستين. تعيش مع قططها وكلبتها وأخريات. متر ونصف وزاويتان فقط هو المطبخ، في منزل كبير. تقول: فلنضع أغنية “أنت الحب”. تنهض رفيقتها وهي من جيلها، ثم تتجهان إلى المطبخ. أصبحت الأولى عاطلة عن العمل في بداية الأزمة الاقتصادية في لبنان. لطالما عملت منذ القدم مضيفة في مطار بيروت. كانت تحلّق وتعود لمكانها المتواضع في مخيم مار الياس.

يتصاعد بخار حلة ورق العنب، تقلب الورق. تدندن ورأسها فوق الحلة “أنت الأمل اللي أحيا في نورو..”. كيف يكون شكل الحب هنا؟ فكرة ظريفة ليس أكثر؟ ربما لحظة للتفرد! تقف رفيقتها في الزاوية الثانية تساعد في العمل وهي تدندن أيضاً، يديران ظهرهما لبعضهما البعض. الثانية تعمل في أحد المعامل القريبة من المخيم. نعود للشريط، ما المختلف في تلك اللحظة أو اللقطة؟

تتكرر الحقيقة نعم، ولكنها تتلون أيضاً. هل تتكىء هذه المرأة المرتدية الثوب الخمري على الذاكرة للعودة إلى الحب المتأًصل فيها؟ هل تخرج للمس لمحة عن المستقبل في عمرها هذا أم أن الخيبة الملتصقة مع السكون الواقعي في مخيمها يشكلان مفهومها الخاص عن الحب في هذا العمر؟ ماذا عن وقع سماع أم كلثوم في عمر وظرف ومكان وزمان محددين؟ ماذا عن المخيم ونسائه؟ ماذا عمّن تم صرفهّن من أشغالهن في 2019 دون دفع تعويضات لهن؟ ماذا عن امرأة عادية ترفض المشاركة في المظاهرات الفصائلية لأنها لا تمثلها وتكتفي بمشاهدة النكبة الفلسطينية. ماذا عن انعدام الرغبة بوجود شاهد، وماذا عن تحرر الذات والحوار معها.. وعن اللاوعي الجمعي المتوارث لنساء المخيم ونطق المرآة عنّا. هل ندور في نفس الدائرة في أزقتنا. معاملنا. مطابخنا. أمام مرآتنا؟ كيف يبدو شكلها في انهزامنا وانتصارنا وحتى في صخبنا وهدوئنا؟

***

ربما هناك من يركض بين الخيال والواقع وآخر يمسك يد الوهم في شكل طفل صغير فتشبث الأخير فيه وارتمى في حضنه فتبنّاه! يركضان ثم يتعبان، تنتظرهما نقطة لطالما حاولا الهروب منها. وما هي النقطة؟ تقع في منتصف الجبين مرّات، وفي منتصف الغرفة مرات، وفي زواياها مرات، وأحياناً في صحن الطعام الملون، ومع الأسف نراها في ضوء القمر. ما لونها؟ سوداء ليست كما كحل الليل الجميل، ملونة مرّات! ونجدها في المرآة كثيراً، تتحرك مع حركة العين، نهرب وتهرب، تقفز ونقفز، نبتسم فتزعل، نحزن فتضحك، تكبر فنصرخ تصغر فنتقيأ! لماذا أتحدث عن النقطة الآن؟ تعيدنا كل فترة إلى محاولاتنا اللاواعية لتشكيل نظرة مستجدة عن واقعنا المتكرر في مرآتنا. ألاّ يلتصق بخار الحلل يومياً في وجهنا؟ ألا نشتم الفصائل يومياً في مخيماتنا! لكن عمّا يعبر الدوران؟ عن التكرار بأشكال مختلفة. وكيف نستفيد من التكرار لنستمر؟ كل شيء ولا شيء! الجحيم والجمال وهكذا..

***

تعيش حُسُن، وهي سيدة في بداية أربعينياتها ربما، في مخيم عين الحلوة. لديها ابنتين مراهقتين.. زقاق يفصل بين منزلها ومنزل والديها. تذهب يومياً للتسوق في سوق الخضار، ثم تشرب قهوة الصباح مع والديها قبل العودة الى منزلها. كان المنزل يصدح حينها بأغنية “ألف ليلة وليلة”. تبدو من الطبقة المستورة بالطبق اليومي! تغني والباب مفتوح على الزقاق مع المقطع الأحب إلى قلبها: “يا حبيبي الحب حياتنا وبيتنا وقوتنا”. تبتسم مع الغناء متكئة على حافة الكنبة حيث يجلس والدها.

هنا ما نوّد سماعه في صوتهن عنّا. فنعيد تشكيل الحوار، معهن على حافة الأريكة. مع أكياس الخضار، أو فوق الحلل عند الزاوية في المطبخ مع الرفيقتين.

نعيد الشريط مجدداً، عند تلك اللحظة، فهل نعيد تشكيل حواراتنا اللاواعية؟ هل نحاسب المخيم أم المدينة؟

قلنا أننا نرى النقطة (الحقيرة) في القمر أو ضوئه فننزعج. اليوم ما نرى في القمر؟ تجيب: الحب. نعم ليس موجوداً في الواقع وإن يكن. يدندن في رؤوسهن!

-ماذا ترين في القمر؟

-أرى الحب. سنعود لنفس الدائرة؟

-أعتقد أنه يمكننا اقتلاع الخوف المرضي وليس الخوف من الواقع، تقول حُسُن. ها! وما الفرق؟

-تجيب المضيفة: تلك أسئلة صعبة، فأنا أعبّر عن شعور ولا أريد تصنيفه وتحليله وأنت تصرين على ذلك! لماذا تسألينني ولماذا كل هذه الدندنة؟

إقرأ على موقع 180  رواية "هند أو أجمل امرأة في العالم" لهدى بركات.. بين تشريح الطبيب وحدس القارىء
معمل غندور

-نعم لأني أنظر الى القمر.

-يا عزيزتي ذلك تكرار.

-نعم، لقد اتفقنا أن حياتنا تكرارٌ، لكني أريد أن أفهم لماذا تشككين بكل ما أنطقه؟

-أنت التي تسألين وتشككين وتجيبين ولست أنا! ألم نتفق أننا واحد؟ ألم نتفق أن وعينا وما خلفه واحد؟ ألم نتفق أن لنا وجه واحد في “زاوية” المطبخ في المخيم وفي سوقه وأثناء تنقلاتنا في أزقته؟ في مختلف أعمارنا وحتى اختلاف زوايانا؟

-ترد العاملة الثانية: هل يعني ذلك أننا سنخرج من النقيضين؟ لماذا تسألينني أنا فذلك السؤال موجه إليك؟

-لأنك قلتِ أننا واحد! هاها. عزيزتي الم نقل أنه جميل أن مدّ لنا الآخر شريط كهرباء أو لمبة مؤقتا ولكن علينا أن نخترع الضوء نحن؟ كلا لم يكن هذا هو القول كان أجمل وأوضح! وما المشكلة طالما أنها وصلت؟ لا مشكلة جل ما نريده هو استيعابنا لنا في المخيم أو خارجه! فيما مضى وما نحن عليه.

أتساءل هنا: كيف سيكون وجهنا حينها أو كيف كان؟ هل كان أسمراً مبتسماً بسيطاً ضاحكاً حاداً مثل حُسُن في مخيم عين الحلوة؟ أو واعياً بما فيه الكفاية لسن ميري المضيفة السابقة في مخيم مار الياس؛ السيدة التي باتت تلف ورق العنب بطرب الواقع الحقير في المخيم؛ بطرب الاستهزاء بالفصائل؛ بطرب المرأة العاملة التي تذهب من مخيمات بيروت منذ الوجود الفلسطيني في برج البراجنة إلى معمل غندور؛ إلى نفس الطرب لرفيقة ميري وهي جميلة التي تذهب من مار الياس إلى معمل حلويات في كورنيش المزرعة منذ الرابعة فجراً.

هكذا يتشكل الفرق الصارخ مع الأغنية والسياق في هذه اللقطات اليومية!

-لنعد، ماذا ترين في القمر؟

-أرى الحب. أقصد الأمان الذاتي.

ينتهي الحوار وتثبت تلك اللقطة. هل هي متوارثة نقطة الأمان في المخيم أو أن استلابها فقط هو ما يورّث؟

سيظل التناقض فينا صارخاً أكان صامتاً أم مبعثراً فتلك قوانين المخيم، ولكنهن واحد، ولكل واحدة منهن قصة! دائرة وقمر، وهم وحقيقة، وخيبة لا يُرى ثقلها إلا بتلك اللقطات.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  لولاكِ بيروتْ.. لما خلَعْتُ الحجاب