خواطر على هامش مؤتمر قرطبة: النهضة العربية، ما هي؟

عقد "معهد الدراسات الابيستيمولوجية ـ أوروبا" (ISES) أواخر الشهر الماضي مؤتمره السنوي الثالث هذا العام في مدينة قرطبة الأسبانية (الأندلسية) للبحث في مشكلات النهضة العربية وتعثّرها منذ الدعوة إليها أواخر القرن التاسع عشر.

شارك في جلسات المؤتمر التي أشرف على تنظيمها مدير المعهد بدّي المرابطي، أكثر من ثلاثين مفكراً وباحثاً عربياً كان من بينهم الشاعر والمفكر أدونيس، مدير معهد العالم العربي في باريس معجب الزهراني، رئيس حكومة المغرب السابق سعد الدين العثماني، المؤرخ المغربي عبد العالي العمراني، الأديب الجزائري واسيني الأعرج، برهان غليون، خطار أبو دياب، وكاتب هذه السطور، وعدد من المستعربين الأوروبيين كسفير فرنسا السابق في إيران بيار دولافرانس، والمستشرقين لوك باربوليسكو، وبويغ مونتادا.

إمتدّت جلسات المؤتمر على مدى ثلاثة أيام (26 ـ 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2021) وتوزّعت مناقشات المؤتمرين على جوانب عدّة من أسئلة النهضة: كيف تتصل أسئلة النهضة بالقضايا العربية الراهنة؟ هل يكتفي العالم العربي اليوم باستعادة أسئلة النهضة كما طرحها النهضويون الأوائل، أم يُعيد صياغتها لتتوافق مع المعطيات والوقائع التي استجدّت في العالم العربي؟ ما موقف المثقفين العرب في المهجر الأوروبي والأميركي من النهضة العربية اليوم؟

تناولت المناقشات أيضاً مشكلات النهضة العربية ومعوّقاتها، ماضياً وحاضراً، وبخاصة “الحقبة التي أُطلِق عليها مصطلح النهضة العربية التي تشكلت ضمن تقليد خطابي يستدعي ثنائيات: الأصالة/ المعاصرة، الاتّباع/ الإبداع، التخلّف/ التقدّم، الماضوية/ الحداثة..”.

والحقّ، أنّ سؤال النهضة لم يغِب قطّ عن المنطقة العربية، منذ أن طُرِح أواخر القرن التاسع عشر، بل ظلّ حيّاً مُتداولاً طوال القرن العشرين، لا في صفوف الفئات المثقفة والمتعلمة فحسب بل عمّ وشاع في العالم العربي قاطبةً حتى دخل كل بيت عربي وشغل عقل كل عربي، فالعرب جميعاً متعطشون للنهضة والتغيير والتقدم، لكن المشكلة، كل المشكلة هي في معرفة من أين الطريق؟ فهم كانوا لا يعرفون كيف؟ هذا الكيف كان يعرفه المجتمعون في مؤتمر دعا إليه رئيس وزراء بريطانيا كامبل بانرمان Campbell-Bannerman وعُرِف باسمه[1] وضمّ وفود سبع دول استعمارية، واستمرت جلساته التي شارك فيها كبار علماء التاريخ والاجتماع والاقتصاد والزراعة والجغرافيا والبترول الأوروبيون، طوال العام 1907، بحثاً عن آلية تحفظ  تفوق الدول الاستعمارية أطول أمد ممكن، بعدما تبيّن لها أنّ خشيتها ليست متأتّية من مستعمراتها في الهند والشرق الأقصى وأفريقيا والمحيط الأطلسي والمحيط الهادي، بل إنّ مصدر الخطر الحقيقي ماثلٌ في المناطق العربية التي كانت تحت الحكم العثماني، ولا سيّما بعدما أظهرت شعوب هذه المنطقة يقظة سياسية ووعياً قومياً ضد التدخل الأجنبي والهجرة اليهودية. وتتأتى تلك الخطورة من عوامل عدّة تمتلكها شعوب المنطقة العربية وهي ـ كما شرحها وبيّنها بانرمان أمام المؤتمرين وأمام خريطة كبيرة للمنطقة الممتدة “من المحيط إلى الخليج” (بالعبارة التي استخدمها بانرمان نفسه) ـ “وحدة التاريخ واللغة والثقافة والهدف والآمال وتزايد السكان، وبوادر التقدم العلمي والفني والثقافي”.

حينما دعا شكيب أرسلان سنة 1938 في كتابه “لماذا تخلّف المسلمون وتقدم غيرهم؟”، إلى نهضة عربية كان قد سبقه تيودور هيرتسل بنصف قرن حينما دعا يهود العالم في مؤتمر بال في سويسرا، سنة 1894 إلى قومية عبرية صهيونية

خرج “مؤتمر بانرمان” بوثيقة سرية سُمِّيَت “وثيقة كامبل” جاء فيها: “إن البحر الأبيض المتوسط هو الشريان الحيوي للاستعمار، لأنه الجسر الذي يصل الشرق بالغرب، ولأنه الممر الطبيعي إلى القارتين الآسيوية والأفريقية، وملتقى طرق العالم، ومهد الأديان والحضارات”. غير أنّ إشكالية هذا الشريان هي ـ كما ذكرت الوثيقة ـ أنه “يعيش على شواطئه الجنوبية والشرقية شعب واحد تتوافر له وحدة التاريخ والدين واللسان”.

شددت الوثيقة على ضرورة إسقاط أي قيادة عربية تعمل على تفعيل عوامل وحدة المنطقة العربية، كما شددت على ضرورة فصل الجزء الأفريقي من المنطقة العربية عن جزئها الآسيوي، بإقامة “دولة عازلة” (Buffer State) عدوّة لشعوب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية، وتكون بمثابة حاجز بشري قوي وغريب ومعادي بُغْيَةَ إسقاط كل محاولة نهوض للأمة العربية وإبقائها في حالة من الفوضى وعدم الاستقرار بتجزئتها وتقسيمها وإنشاء دويلات مصطنعة تابعة للدول الأوروبية وخاضعة لسيطرتها. تطابقت هذه الدعوة مع الدعوة الصهيونية لإقامة دولة لليهود تكون هي “الدولة العازلة” التي يوكَل إليها فصل الجزء الأفريقي من المنطقة العربية عن الجزء الآسيوي، والحيلولة دون قيام قيادة عربية تعمل على تحقيق وحدة هذه الشعوب. وهكذا، نشأ المشروع الصهيوني في كنف مصالح أوروبا الاستعمارية في التركة العثمانية (أي أراضي “الرجل المريض” العربية) فتغذّى منها وغذّاها في آن: سابقاً (المطامع الفرنسية في شمال افريقيا، وبخاصة في الجزائر؛ والمطامع البريطانية في فلسطين) ولاحقاً (المطامع الأميركية في العراق[2] وإيران والخليج).

حينما دعا شكيب أرسلان سنة 1938 في كتابه “لماذا تخلّف المسلمون وتقدم غيرهم؟”، إلى نهضة عربية كان قد سبقه تيودور هيرتسل بنصف قرن حينما دعا يهود العالم في مؤتمر بال في سويسرا، سنة 1894 إلى قومية عبرية صهيونية. وبينما كان مفكّرو العروبة يدعون إلى وحدة قومية في المنطقة العربية، كانت الصهيونية تدعو إلى احتلال قلب هذه المنطقة، فلسطين، من أجل العمل على تقويض كل نهضة عربية تمهيدا للسيطرة عليها وبناء نهضة شرق أوسطية تقودها إسرائيل. توافقت هذه الدعوة مع دعوة “مؤتمر كامبل بانرمان” للعمل على منع قيام أي قيادة عربية تحمل مشروع النهضة وتعمل على تنفيذه.

المشروع النهضوي

منذ أواخر القرن التاسع عشر، وبدايات تكوُّنِ المشروعين القوميين النقيضين: الصهيوني العنصري المتزمت، والعروبي الإنساني المنفتح، والمشروع الأول يمضي من نجاح إلى نجاح، والمشروع الثاني يُمنى بالهزائم فقد حظِيَ المشروع الصهيوني بدعم سياسي واقتصادي على صعيد القوى الدولية الكبرى وذلك لأسباب تخدم مصالح الدول الاستعمارية، اقتصادياً بوصفها دولاً صناعية تحتاج إلى مواد خام وأسواق تصريف، ومعنوياً لزعمها أنها تريح ضميرها المتعَب جرّاء وتكفّر عن الجرائم العنصرية التي ارتكبتها بحق اليهود في أوروبا طوال قرون من الزمن. بينما لم يحظَ المشروع القومي العربي إلا بالعداء المطلق والدائم من قبل الدول الاستعمارية الأوروبية، خوفاً من قيام كيان عربي يتمتع بكل أسباب النهوض والقوة، إذا توافرت له قيادة تمتلك إرادة النهوض السياسية.

ما زال توحيد الدول المتقاربة والمتجاورة يزداد وينمو (الوحدة الأوروبية، الوحدة الافريقية، الوحدة الروسية..) حتى بات عصرنا عصر التكتلات الكبرى، بل عصر العولمة الاقتصادية. ومع ذلك، لم يبقَ خارج هذا العصر إلا الوحدة العربية الممنوعة

وبالفعل، هذه الإرادة السياسية التي عملت الدول الاستعمارية وتعمَل على استئصالها من رؤوس القادة العرب، توافرت لدى بعضهم في فترات زمنية مختلفة. لكن هذه الإرادة كانت تواجهها وتهزمها إرادة أكثر صلابة وقوةً، بعدما توافرت لها، قبل ذلك بزمن، جملة طاقات علمية وصناعية وتكنولوجية صنعت نهضة الدول الغربية وحوّلتها إلى قوى استعمارية حملت مصالح الرأسمالية العالمية[3] وعملت على توسيع هيمنة رأس المال وتنميته، فأخضعت لها العالم برمّته واستولت على ثرواته وخيراته[4]. توافرت هذه الإرادة السياسية عند محمد علي ومشروعه النهضوي الهادف إلى الجمع بين مصر وسوريا، فالنهضة تحتاج إلى وحدة اقتصادية، احتاجتها الدولة القومية التي قامت في أوروبا نتيجة توحيد أقاليم كانت منفصلة وجرى توحيدها بالقوة (توحيد فرنسا، المملكة المتحدة، الوحدة الإيطالية، الوحدة الألمانية، الولايات المتحدة الأميركية..) وهو توحيد عملت على تحقيقه الدول القومية الأوروبية إبّان صعودها الصناعي، ثم احتاجته مرة أخرى بعدما تبيّن أن الحدود القومية تشكل عائقاً أمام الازدهار الاقتصادي لكل دولة، وجرّت عليها حربين طاحنتين، فنشأت الوحدة الأوروبية. وما زال توحيد الدول المتقاربة والمتجاورة يزداد وينمو (الوحدة الافريقية، الوحدة الروسية..) حتى بات عصرنا عصر التكتلات الكبرى، بل عصر العولمة الاقتصادية. ومع ذلك، لم يبقَ خارج هذا العصر إلا الوحدة العربية الممنوعة.

كان محمد علي قد استغّل ضعف الحكم العثماني، لإنجاز مشروعه النهضوي؛ لكن استغلال هذا الضعف كان له بالمرصاد استغلالٌ آخر ينافسه، وكان هناك مشروع آخر يعمل على إفشال مشروع محمد علي، هو المشروع البريطاني الفرنسي الروسي الذي كان قبل محمد علي بزمن ينتظر اللحظة المناسبة ليقتل “الرجل المريض” ويستولي على المنطقة؛ فلما اقترب الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا من القسطنطينية بعد انتصاره على الجيش العثماني في معركة نصيبين[5]، وصار على قاب قوسين أو أدنى من تحقيق مشروعه النهضوي، تصدّى له التحالف الأوروبي الروسي انقاذاً وصوناً لمشروعه الاستعماري في المنطقة العربية، وهزمه في معركة “نافارين” التي من بعدها، لم تقم له قائمة.

تدمير ممنهج

منذ انهيار السلطنة العثمانية أمام جيوش الحلفاء التي احتلّت المنطقة العربية بأسرها، في الحرب العالمية الأولى، لم تتوقف الحروب على هذه المنطقة ولم يتوقف قتل أبنائها وتهجيرهم، فعمليات القتل والتهجير والتشريد التي جرت في فلسطين لا تزال تجري في مختلف البلدان العربية. لا بل إن الحروب التي شُنَّت على النهضة العربية وبدأت ضدّ مشروع محمد علي باشا في منتصف القرن التاسع عشر، وتواصلت على امتداد القرن العشرين، لا تقلّ فظاعةً عن الحروب التي ما تزال تُشنّ عليها في القرن الحادي والعشرين. وها نحن نرى اليوم الشعوب العربية تُشرَّد وتُهجَّر من أوطانها، ونرى ما يُسمّى بـ”المهاجرين غير الشرعيين” يُقتَلون عند حدود الدول التي لا تسمح لهم بدخولها، مع أنهم لا يختلفون عن “الإنسان” الذي تؤمن تلك الدول بحقوقه.

الإستقلالات المصطنعة

النهضة العربية عبارة ظهرت في فترة تاريخية، وتعاملت أسئلتُها مع ظروف منطقة كانت تحلم بالإفلات من يد السلطنة العثمانية، وسنحت لها الفرصة التاريخية عندما انهارت السلطنة في الحرب العالمية الأولى، ونشبت “الثورة العربية الكبرى”. لكن هذه الفرصة ضاعت وقضى على الحلم هزيمة مشروع الشريف حسين أمام المشروع البريطاني، كما قضى سابقاً على مشروع محمد علي. ومنذ مؤتمر 1907 عملت الدول الصناعية الاستعمارية على منع أي نهوض لمنطقةٍ أطلقت عليها تسمية “من المحيط إلى الخليج”. تكرر هذا المنع سنة 1917 (وعد بلفور) و1948 (النكبة وقيام إسرائيل) 1967 (النكسة وهزيمة الجيش المصري) 1982 (اجتياح بيروت وطرد المقاومة الفلسطينية من لبنان) 2003 (تدمير العراق) 2011 (تدمير سوريا وليبيا) 2015 (تدمير اليمن) 2019 (تدمير لبنان) وهل يمكن لهذه الدول المدمّرة أن ينهض كل منها بمفرده، أم أن هذا الدمار هو دليلٌ قاطع على أنَّ نهوضها ووحدتها لا يمكن لأحدهما أن يتمّ من دون الآخر؟

إقرأ على موقع 180  صورة فلسطين في فرنسا.. حالةٌ من التشكُل الدائم

لم يعُد كافياً لتوصيف علاقة الدول الكبرى بالمنطقة العربية استخدام مفردات ومصطلحات فقدت دلالاتها التي كانت لها في الفترة التاريخية السابقة، بل يجب استخدام مفردات ومصطلحات صاحبت الفترة التاريخية الراهنة؛ فأطماع الدول الكبرى في المنطقة العربية لم يعد مبعثه استعمار كما في الماضي بل من حاجة النظام الرأسمالي العالمي إلى اعتبار هذه المنطقة ملكاً له فهو الأجدر بتنظيمها واستغلالها وتطويرها[6] فيقسمها أجزاء ويفصل بعضها عن بعض ويضم بعضها إلى بعض، فيفصل لبنان عن سوريا والأردن عن فلسطين ويسلخ الجولان عن سوريا ويهبها لإسرائيل وينتزع القدس من الفلسطينيين ويجعلها عاصمة لليهود[7].

ولا بد من التذكير هنا بأن الاستقلالات التي مُنِحت للدول العربية يعني أنها مستقلٌّ بعضها عن بعض، ولا يعني أنها مستقلة عن الدول التي منحتها الاستقلال. كانت هذه الاستقلالات المصطنعة والمنقوصة خطوة أولى على طريق تفتيت المنطقة العربية. وقد جرى تثبيت هذه الاستقلالات على أنها استقلال كل دولة عن الأخرى، وبخاصة عن الدولة المجاورة لها (استقلال لبنان عن سوريا، الأردن عن فلسطين، الجزائر عن المغرب، العراق عن الكويت، مصر عن السودان، تونس عن  ليبيا، اليمن عن السعودية، وقطر عن الإمارات الخ..)[8] ولكن ليس بحال من الأحوال استقلالها عن لندن وباريس أي الدول التي منحتها الاستقلال أو وافقت عليه. وقد أوكلت بريطانيا مهمة تثبيت هذه الاستقلالات والإشراف عليها إلى منظمة عملت على إنشائها، وهي “جامعة الدول العربية” الحريصة على إبقاء كل دولة مستقلة تماماً عن الأخرى، لا على الصعيد السياسي الذي قد يكون أمراً مقبولاً في البداية، فقد يتطور فيما بعد إلى شكل أفضل (كالمحاولات التي جرت بين مصر وسوريا، وبين سوريا والعراق، وبين مصر وليبيا، وبين دول المغرب الكبير) بل على الصعيد الاقتصادي، وهو استقلالٌ يشل اقتصاد كل دولة على حدة، أو يعوّق نموّها ويدفعها إلى ربط اقتصادها بدولة أجنبية، والتلهّف إلى طوق النجاة الذي ترميه إليها.

ترتدي مسألة النهضة العربية التي نوقشت في مؤتمر قرطبة أهمية مطلقة في ظل الظروف الحالية التي يعيشها عالمنا العربي، بعدما هيمنت على مسألة النهضة فيه مستجدات جيوبوليتيكية لم تكن قائمة في نهاية القرن التاسع عشر عندما طُرِحت أسئلتها واستمرّ طرحها كما هي على امتداد النصف الأول من القرن العشرين حينما قامت دولة إسرائيل واستتب لها الأمر وغيّرت معطيات تلك الأسئلة. فالنقطة المركزية في النهضة، أي نهضة، هي الإرادة السياسية التي تتجسّد في خطة استراتيجية شاملة. النهضة ليست مجرّد قرار سياسي، بل هي استراتيجية شاملة متكاملة، يحتاج تنفيذها إلى إرادة سياسية كي لا تبقى حبراً على ورق. والقرار الاستراتيجي يأخذ بالحسبان لا العوامل الداخلية فحسب، بل العوامل الخارجية الإقليمية والدولية؛ فقد بات على استراتيجية النهضة العربية أن تضع في حسبانها المشروع الإسرائيلي الذي قد يسبقها في توحيد المنطقة من النيل إلى الفرات عبر ما يُسمّى بـ”الشرق الأوسط الجديد”، وسياسياً بـ”صفقة القرن” بل بـ”الولايات المتحدة الإبراهيمية” بزعامة إسرائيل. أي أن تكون على مستوى المرحلة التاريخية الراهنة وأهوال الفظائع المأسوية التي تشهدها ست عواصم عربية باتت ركاماً بعد سلسلة حروب لم تهدأ منذ عقدين من الزمن قادتها إسرائيل إما مباشرةً وإما من وراء الستار.

حتّامَ ستظلّ النهضة العربية مؤجلة ومرجَأة وممنوعة بإرادة مزدوجة: إسرائيلية واستعمارية بدأت منذ بداية القرن الماضي؟ أإلى حين “إنضاج” الظروف العربية، وتكييفها للقبول بالمشروع النهضوي الوحيد للمنطقة العربية الذي تسمح به الدول الكبرى، مشروع شمعون بيريز “الشرق الأوسط الجديد”، بقيادة إسرائيل؟

“ولايات متحدة إبراهيمية”!

مفكرو النهضة الأوائل لم يعرفوا مرحلة ارتداد النظام الرأسمالي عن الاحتلال الاستعماري المباشر، الذي كان يمنع على شعوب العالم الثالث امتلاك قدرات علمية وتصنيعية، واستبدال ذلك الاحتلال العسكري المباشر باحتلالات جديدة باتت تطلب من دول هذه الشعوب أن تستورد مصانع جاهزة لا بل ومنشآت تقنية حديثة وتكنولوجيا شريطة ان تبقى إدارتها من الخارج. غير ان النظام الراسمالي ما زال يرى أن ثرواتنا هي ملكٌ له لا لأصحابها الجهلة والعاجزين صناعياً وعلمياً وعسكرياً ولا يعرفون كيف يستثمرون هذه الثروات. والمال العربي يُمنَع استخدامه في نهضة شاملة وخصوصاً في التنمية الفكرية والمعرفية. فاستخدامه وتوظيفه والتصرف به ليس رهن مشيئة أصحابه العرب وكيفية توظيفه في تنمية نهضوية، سواء لجهة التعليم أو إنشاء مراكز بحوث أو تشجيع الإنتاج الداخلي، بل هو رهن إرادة البنوك الغربية التي يُودع فيها وهو عرضَةً للمصادرة في أي وقت. ولم تتورع الولايات المتحدة عن قتل الملك فيصل بن عبد العزيز ما إن شعرت بأنه يعتقد أن بإمكانه أن يستخدم النفط سلاحاً لدعم القضية الفلسطينية. وما كان يتم على نحو مستتر صار يتم على نحو ظاهر ومكشوف فدونالد ترامب أثناء حملته الانتخابية الأولى أعلن للأميركيين أن أموال النفط العربي يجب أن تكون أموالاً أميركية. وأول عملٍ قام به عندما أصبح رئيساً أنه توجّه إلى الرياض ومدّ يده إلى صندوق النقد السعودي، وغرَف منه غَرفةً قُدّرت بنحو خمسمائة مليار دولار..

صحيح أننا نرى هذا المال يوظّف في بناء جسور وعمارات شاهقة، وشق طرقات واسعة وبمواصفات دولية، ومعارض دولية تعرض أحدث المنتجات الغربية  لكن هذا البناء لا يمتُّ بصلةٍ إلى نهضة حقيقية ولا يهدف إلى تطوير ورفع القدرات العلمية والمعرفية والإنتاجية لمجتمعاتنا، بل إن غرضه هو تسجيل سبق في كتاب “غينيس” للأرقام القياسية، نراها بخاصة في دول الخليج، وفي استهلاك كل المنتجات التي تريد المصانع الغربية تصريفها في الخارج (طائرات، سيارات، منتجات تكنولوجية، وحتى غذائية..) فتجعل من دول الخليج “فيترينا” (واجهة) للمنتجات الصناعية والتكنولوجية والذكية الأميركية واليابانية والأوروبية، فتقف نهضة تلك الدول عند حدود توفير الأرباح اللازمة للشركات الغربية من دون أن تكون جزءاً من عملية تنموية شاملة تنهض بهذه الدول وفق ما تتمنى شعوبها وتشتهي، وتبقى التنمية عند حدود نهضة خدّاعة تقتصر على المظهر الخارجي فقط.

حتّامَ ستظلّ النهضة العربية مؤجلة ومرجَأة وممنوعة بإرادة مزدوجة: إسرائيلية واستعمارية بدأت منذ بداية القرن الماضي؟ أإلى حين “إنضاج” الظروف العربية، وتكييفها للقبول بالمشروع النهضوي الوحيد للمنطقة العربية الذي تسمح به الدول الكبرى، مشروع شمعون بيريز “الشرق الأوسط الجديد”، بقيادة إسرائيل؟ أم بانتظار تحوّل “صفقة القرن” التي لا تعني الفلسطينيين وحدهم، بل تعني شعوب الشرق الأوسط كلها في العلاقة مع إسرائيل، وتطويرها في صيغة مختلفة، تتعدّى مجرّد “التطبيع” لتصبح “ولايات متحدة إبراهيمية”؟

المصادر والمراجع:

[1]  “مؤتمر كامبل بنرمان” الدول التي دُعِيَت إلى المؤتمر وشاركت فيه هي: انكلترا، فرنسا، إيطاليا، إسبانيا، البرتغال، بلجيكا وهولندا. ولم تُدعَ ألمانيا.

[2]  بالغت الولايات المتحدة في تقدير فعالية القوة العسكرية في إحداث تغيير سياسي أساسي، حتى عندما قللت من تقدير تأثير نموذجها في “اقتصاد السوق الحرة” على التمويل العالمي. وانتهى العقد بتورط قواتها في حربين ضد المتمردين عليها، وأزمة مالية دولية زادت من التفاوتات الهائلة التي أحدثتها العولمة التي تقودها الولايات المتحدة.

[3] تفاخر الصهيونية بفضلها على البشرية جمعاء بأن اليهود هم الذين صنعوا العصر الرأسمالي الذي تعيش البشرية في ظله منذ خمسة قرون. انظر: جاك أتالي، اليهود والعالم والمال: تاريخ اليهود الاقتصادي. بالفرنسية:

Jacques Attali,  Les Juifs, le monde et l’argent : Histoire économique du peuple juif

[4] يرى د. بدي المرابطي في كتابه “الاتباعيتان”،  أنّ مسألة النهضة العربية لم تَعُد مشروطة بالقطيعة مع الدين، كما يزعم تيار فكري عربي، اتّباعاً حرفياً لما حدث في أوروبا في “عصر الأنوار”، كما أنها لم تعُد مشروطة باتّباع السلف إحياءً لـ”العصر الذهبي” للإسلام كما يزعم تيار إسلامي سلفي. فالاتّباعيتان الغربية والسلفية ليسا طريقاً إلى نهضة عربية منشودة.  

[5] أو معركة “نزيب” كما يسمّيها، باللفظ العثماني، المؤرخ المصري عزيز خانكي: راجع كتابه “الذكرى المئوية لواقعة نزيب” الصادر سنة 1939.

[6]  كان شعار فرنسا في الجزائر، كما شعار الدول الاستعمارية في كل مكان: Les lieux appartiennent à ceux qui les organisent  (“المكان ملكٌ لمن يقوم بتنظيمه”). الشعار نفسه استخدمته الصهيونية في احتلال فلسطين.

[7]  يصف الشاعر العراقي مظفّر النوّاب نهش الأراضي العربية بقوله: “يا بلداً أكل الأتراك الكتف اليُمنى منها، والفرسُ الكتفَ اليسرى، وتغوّط فوق القلب غُزاة البحر”.

[8] من يجرؤ اليوم على القول بأن الحدود بين لبنان وسوريا مصطنعَة ومفروضة؟ بعدما قُتِل أنطون سعادة (1949) لأنه جهَر بذلك، وقُتِل الملك فيصل بن عبد العزيز (1975) لأنه لوّح باستخدام النفط سلاحاً وطنياً وقومياً، ودمّر العدوان الثلاثي الفرنسي البريطاني الإسرائيلي بورسعيد والإسماعيلية لأن عبد الناصر أقدمَ على تأميم قناة السويس، و… و…. و…. ؟

Print Friendly, PDF & Email
حسين جواد قبيسي

كاتب لبناني مقيم في فرنسا

Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  عمليتا القدس بعيون إسرائيلية: فلسطين على صفيح ساخن