كي لا تكون لنا “سوريا ثانية” في أرض الكنانة

السودانُ سوريا الثانية. المشروعُ هناكَ هو إسقاطُ الدولةِ والمجتمعِ. تماماً مثلما حصَلَ في سوريا إذْ أُسْقِطَتْ سوريا كلـُّها بشعارِ إسقاطِ بشار الأسد، ووراءَ سوريا تتسارعُ مشاريعُ إسقاطِ لبنان وكلِّ بلادِ الشام والرافديْن.

هنا في المشرقِ يسيرُ المشروعُ الاستعماريُّ الأميركيُّ – الإسرائيليُّ بوتيرةٍ سريعةٍ، ويخلُقُ أمامَنا تحدِّياتٍ صعبةً لمقاومتِهِ ربَّما تحتاجُ إلى سنواتٍ عديدةٍ، لكنْ لا بدَّ من المقاومة، وسيفرِزُ المستقبلُ الأساليبَ المُمْكِنة. أمَّا في السودانِ فالتحدِّياتُ موجودةٌ بقوَّةٍ لكنَّها قد تختلِفُ نوعيَّاً عمَّا حصلَ في سوريا بسببِ وجودِ جارةِ السودانِ: مصرَ الكبيرةِ والقويّةِ وذاتِ المصالحِ الإستراتيجيّةِ في بذلِ كلِّ المحاولاتِ للإبقاءِ على وحدةِ ما تبقَّى من وحدةِ السودانِ بعد انفصالِ الجنوبِ عنه عام 2011 بدعمٍ إسرائيليٍّ خَطَّطَ له كيانُ الاحتلالِ منذ خمسينيَّاتِ القرنِ الماضي. لذا قد يكونُ الأملُ بمِصرَ واقِعيَّاً كي تحْمي نفسَها ممَّا يَجْري قربَها.

دورُ مصرَ أساسيٌّ تُجاهَ السودان المُعاصرِ، فضلاً عن حقيقةٍ تاريخيةٍ ثابتةٍ وهْيَ أنَّهما كانا شعباً متّحداً في مملكةٍ واحدةٍ منذ الألفِ الرابعِ قبلَ الميلادِ وصولاً إلى المَراحلِ المُتأخِّرةِ قبلَ أنْ يَفتِكَ بهما الاستعمارُ البريطاني أواخرَ القرنِ التاسعَ عشَرَ [نحو 1882] فمَهَّدَ للانفصالِ في خمسينيَّاتِ القرنِ الماضي.

إنَّنا هنا في المشرقِ مَعنيُّونَ بما يَجري في البوَّابةِ الجنوبيَّةِ لمصر، وستكونُ النتائجُ مؤثِّرةً في لبنان وسوريا، وفي اليمن خصوصاً حيث اشتعلتْ نارُ التنافساتِ الإقليمية في الجنوبِ قبالةَ واجهةِ البحر الأحمر في المدى الإستراتيجي المائي لمصر. حمى الله أرضَ الكنانة كي لا تكون فيها “سوريا ثانية”

اِستناداً إلى هذه الصورةِ، يبدو جَليَّاً أنَّ أزْمةَ السودانِ تنغَرِزُ في قلبِ مصر ولهذا لن تسْكُتَ، وإنِ اِختارتْ حتَّى الآنَ السيْرَ بين الألغامِ بتُؤَدةٍ كي لا ينفجِرَ فيها أيُّ لَغَمٍ ولا سيَّما أنَّ التعقيدَ كبيرٌ بسببِ تشجيعِ بعضِ القوى العربيَّةِ “قوَّاتِ الدعمِ السريعِ” [مجموعاتُ الجَنجويد أصلاً] على الاستمرارِ في الحربِ ومشاركةِ واشنطن وتلْ أبيب في هذا الدعم برغم دعوةِ الولاياتِ المتحدةِ الظاهريَّةِ إلى السلام. السيرُ بين الألغامِ أتقَنَتْهُ مصرُ ببراعةٍ، فضَربتْ “قواتِ الدعمِ السريع” غيرَ مَرَّةٍ، واستهدَفتْ قوافلَ التذخيرِ الآتيةَ من جهةِ التقاطُع ِالليبي – التشادي – السوداني، من دونِ أنْ تتبجَّحَ إعلاميَّاً وسياسيَّاً، وتمارسَ لعبةَ البياناتِ التحذيريَّة بين الدول ففتحتْ بذلك مرحلةَ وضعِ الحدِّ لـِ”الدعمِ السريع” من دون ضجيج.

لماذا تنغرِزُ الأزْمةُ السودانيَّةُ في قلبِ مصر؟

لأنَّ الأمنَ القوميَّ الإستراتيجيَّ المِصريَّ لا يَبدأُ منَ الحدودِ المباشِرةِ لِمصرَ، بلْ من آخرِ السودانِ عند أفريقيا الوسْطى، ومن البحريْنِ الأحمر والمتوسِّط وفلسطين المحتلّةِ ونهايات حدود ليبيا، ومن أعالي إثيوبيا وصولاً إلى القرنِ الأفريقي، ولهذا فإذا تفكَّكَ السودانُ مُجدَّداً جنوبَ مِصر، ونَشأتْ دولةٌ في “دارفور” التي تمثِّلُ وحدَها خُمس مِساحةِ السودان، فهذا يَعني أنَّ كلَّ البوَّاباتِ الأفريقيَّةِ والآسيويَّة – كما كان يُسمِيها جمال عبد الناصر – أصبحتْ مَصدَرَ خطَرٍ على مصرَ، وبُؤَرَ ابتزازٍ عند منابعِ النيليْنِ الأزرقِ والأبيض. هذه الجُغرافيا هي التي تصنعُ السياسةَ في مصر. وهي نفسُها التي يستغِلـُّها كيانُ الاحتلالِ الإسرائيليّ كي يُحاوِلَ مُحاصرةَ مصرَ، فيَمُدَّ علاقاتِهِ إلى جماعاتٍ داخليّةٍ سودانيَّةٍ، وإلى جمهوريَّةِ جنوبِ السودانِ وإثيوبيا وإريتريا على البحر الأحمر. ومنْ هنا فإنَّ الصراعَ في السودانِ ليس صِراعاً داخليَّاً على السلطةِ والنفوذِ والثروةِ في أرض الذهبِ والنفطِ والزرْعِ والضرع ِفحسْبُ، بل فوقَ هذا هو صراعٌ إقليمي ذو بُعدٍ إستراتيجي يتعلَّقُ بمصيرِ كُلِّ المَنطِقةِ لا بمصر والسودانِ وحْدَهما. ولا شكَّ في أنَّ دورَ مصرَ في الذوْدِ عن نفسِها ووَحدةِ دولتِها من مخاطرِ المشاريعِ التقسيميَّةِ في السودان، سيُؤَدِّي إلى عرقلةِ المشاريعِ المُماثِلةِ في المشرق، ولطالما علـَّمنا التاريخُ أنَّ مصرَ وأرضَ الشام ِوالعراقِ مُترابطانِ في الأمنِ والاقتصادِ والسياسة. أمَّا إذا اِنتكسَتْ مصرُ لِسببٍ أو لآخرَ فإنَّ البابَ يَنفتِحُ على مِصراعيْهِ أمامَ اِنهياراتٍ مُتتاليةٍ.

“الأميركيُّونَ” و”الإسرائيليُونَ” جرَّبُوا كُلَّ السُلطاتِ المصريَّةِ بعد رحيلِ جمال عبد الناصر، ووصلُوا إلى اتفاقيَّاتِ كامب ديفيد لكنَّ مصر- الشعب، ومصر- الجيش، ومصر- الدولة لم تتغيَّرْ، ولهذا لا يَطمئنّونَ للسلطةِ وإنْ لم تكن تُعادِيهم، بل يُريدونَ تفكيكَ الدولةِ المصريَّةِ من بوَّابةِ السودان وَفقاً لنصيحةِ “برنارد لويس” التي أَقرَّها الكونغرس الأميركي في إستراتيجيَّتِهِ عامَ 1983 وما زالت ساريةَ المفعول حتى هذه اللحظة.

الحربُ تدورُ في السودان لكنَّ الهَمَّ الإستراتيجيَّ يدورُ في مصر. هذه هي المعادلةُ التي تحكُمُ المرحلةَ الراهنة. وإذا كانتِ المؤشِّراتُ المتراكمةُ حتى الآن لا تدُلُّ على نِهايةٍ قريبةٍ للحربِ فإنَّ ما بدأَ يظهَرُ حاليَّاً هو أنَّ الجهاتِ المساندةَ لـ”قواتِ الدعم السريع”، ولا سيَّما العربيةُ منها، أخذتْ تُدْرِكُ صعوبةَ استمرارِ المواجهةِ – ولو غيرَ المباشِرة – مع مصر.

خلاصةُ القولِ إنَّنا هنا في المشرقِ مَعنيُّونَ بما يَجري في البوَّابةِ الجنوبيَّةِ لمصر، وستكونُ النتائجُ مؤثِّرةً في لبنان وسوريا، وفي اليمن خصوصاً حيث اشتعلتْ نارُ التنافساتِ الإقليمية في الجنوبِ قبالةَ واجهةِ البحر الأحمر في المدى الإستراتيجي المائي لمصر. حمى الله أرضَ الكنانة كي لا تكون فيها “سوريا ثانية”.

إقرأ على موقع 180  هل أنهى ترامب ست حروب بالفعل؟

Print Friendly, PDF & Email
بسّام ضو

عضو الهيئة الإدارية لاتحاد الكُتّاب اللبنانيين

Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  مَــوْجَة