استراتيجية ترامب للأمن القومي.. أميركا لن تنقذ أوروبا بعد الآن

عمدت أميركا إلى انقاذ أوروبا من ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، ولعبت دوراً رئيسياً إلى جانب روسيا (الاتحاد السوفياتي) في تحرير القارة من ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية. الآن، يقف الأوروبيون أمام حقيقة تبدّل جذري في الموقف الأميركي في زمن الحرب الروسية-الأوكرانية، بينما يتبع الرئيس دونالد ترامب مقولة أحد أبرز وزراء الخارجية البريطانيين في القرن التاسع عشر اللورد هنري بالمرستون، حول وجود "مصالح دائمة وليس حلفاء دائمين".

أخذت استراتيجية الأمن القومي الأميركية الجديدة الصادرة ، الأسبوع الماضي، أوروبا على حين غرة، وولّدت صدمة في هذه القارة، لا تقل عن صدمة الحرب الروسية على أوكرانيا قبل نحو أربعة أعوام. الخلافات في المواقف لم تعد تقتصر على السياسة والأمن فحسب، بل تمتد إلى المعايير الثقافية.

الاستراتيجية الأميركية الجديدة، جاءت انعكاساً لشعار “أميركا أولاً”، الذي تنادي به القاعدة الانتخابية لترامب من جماعة اليمين المتطرف المعروفة بـ”ماغا” (لنعد أميركا عظيمة مرة أخرى). ومسّت للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، بثوابت في العلاقات عبر الأطلسي، عندما شكّكت بجدوى توسيع حلف “الناتو”، الهيكل الأمني-السياسي، الذي تأسست عليه الأواصر بين الولايات المتحدة وأوروبا. وكذلك الأمر، مع تحذير بعيد الأصداء، مفاده أن أوروبا ستكون عرضة لـ”محو حضاري” بفعل فتحها أبواب الهجرة، التي تُهدّد بـ”تغيير الغالبية الديموغرافية في بعض دول الناتو”. وأبرزت الدعوة إلى استعادة “الهوية الغربية” للقارة.

حملت الاستراتيجية الجديدة، الكثير من الأفكار التي طرحها نائب الرئيس الأميركي جي. دي. فانس في خطابه المثير للجدل أمام مؤتمر ميونيخ للأمن في شباط/فبراير من العام الماضي. وتضمنت انتقاداً “للرقابة على حرية التعبير وقمع المعارضة السياسية”. ونوهت بـ”النفوذ المتنامي للأحزاب القومية الأوروبية” في إشارة إلى صعود تيارات اليمين المتطرف، على غرار “التجمع الوطني في فرنسا” و”حزب البديل لألمانيا” و”حزب الإصلاح” في بريطانيا. واعتبرت هذا الاتجاه مدعاة للتفاؤل، وبأن واشنطن ستدعم هذه الأحزاب. ومعلوم أن اليمين المتطرف الذي حقّق اختراقات في الانتخابات الأوروبية خلال السنوات الأخيرة، يتبنى خطاباً معادياً للمهاجرين.

ومما ضاعف صدمة القادة الأوروبيين، الطريقة التي تعاملت بها الاستراتيجية مع الحرب الروسية-الأوكرانية، إذ نصّت “على أن غالبية أوروبية كبيرة تريد السلام، وهي رغبة لا تترجم في السياسة، نتيجة تخريب الحكومات للعملية الديموقراطية”. ودعت الدول الأوروبية إلى تحمل مسؤولية الدفاع عن نفسها. وأغفلت الإشارة إلى روسيا كتهديد مباشر للولايات المتحدة، واتهمت الاتحاد الأوروبي بتأييد استمرار الحرب في أوكرانيا.

وتعليقاً على هذه الاستراتيجية، قال النائب البارز في حزب الاتحاد الديموقراطي المسيحي الحاكم في ألمانيا روبرت روتجين :”للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، لا تقف أميركا إلى جانبنا في قضية الحرب والسلام في أوروبا”. ووجد وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو في الاستراتيجية الأميركية الجديدة، فرصة للدعوة إلى “تسريع” انتقال أوروبا نحو “الاستقلال الاستراتيجي”.

ما لم يرد في نص استراتيجية الأمن القومي الجديدة للولايات المتحدة، قاله الرئيس ترامب في مقابلة مع مجلة “بوليتيكو” الأميركية، إذ وصف بعض قادة أوروبا، بأنهم “حمقى حقيقيين” بسبب الهجرة، مضيفاً أن “الكثير من الدول الأوروبية لن تبقى دولاً قابلة للحياة”. واتهم القادة الأوروبيين بأنهم “ضعاف.. ولا يدرون ماذا يفعلون”، وبأن القارة تحولت إلى دول “متهالكة”. وفي نيسان/أبريل الماضي، لا ينسى الأوروبيون كيف فرض ترامب زيادة كبيرة في الرسوم الجمركية على الواردات من الاتحاد الأوروبي، الذي وصفه بأنه “لاعب سيىء”.

“النيويورك تايمز”: قادة في حلف “الناتو” يعتقدون أنه سيكون في امكانهم من الآن وحتى عام 2029، بناء قوة ردع تقليدية يمكن الاعتماد عليها في مواجهة روسيا. وسيستوجب ذلك من الدول الأوروبية، اقناع الناخبين فيها بأن الدفاع عن أوكرانيا يستحق العناء، وبأن صد روسيا يتطلب مزيداً من الانفاق العسكري وجيوشاً أكبر، وأشكالاً جديدة من الخدمة الإلزامية

وما تزال الحرب الأوكرانية في صلب الجدل الأميركي-الأوروبي. ويقف قادة فرنسا وألمانيا وبريطانيا إلى جانب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي تحفظ على الخطة الأميركية الأخيرة لحل النزاع مع روسيا، مما أغضب ترامب الذي جدّد حملته على الرئيس الأوكراني، إلى حد اتهامه بعدم قراءة الخطة وباتخاذه الحرب ذريعة لعدم إجراء انتخابات في بلاده.

يرفض زيلينسكي، التخلي عن شرق أوكرانيا في مقابل وقف الحرب، وتقدم بخطة بديلة، بعد أسبوع حافل بالمشاورات مع القادة الأوروبيين في بروكسيل ولندن.

وكان لتزامن صدور الاستراتيجية الأميركية مع الجهود التي يبذلها ترامب لوقف الحرب الأوكرانية، عظيم الأثر في وضع الأوروبيين في مواجهة السؤال الكبير: هل تستطيع أوروبا حماية نفسها بنفسها في حال قرّرت أميركا رفع مظلة الحماية العسكرية التي توفرها للقارة منذ 8 عقود؟

لا تزال أميركا تنشر 79 ألف جندي في أوروبا، أي ما يفوق عديد الجيش البريطاني بكامله. ويقر مسؤولون في “الناتو”، بأن الأوروبيين لن يكون في مقدورهم ملء الفراغ على صعيد قدرات عسكرية أميركية أساسية، مثل المعلومات الاستخباراتية التي توفرها الأقمار الإصطناعية، والدفاعات الجوية، والصواريخ بعيدة المدى، ومراكز القيادة والسيطرة.

وأوردت صحيفة “النيويورك تايمز” الأميركية، أن قادة في حلف “الناتو” يعتقدون أنه سيكون في امكانهم من الآن وحتى عام 2029، بناء قوة ردع تقليدية يمكن الاعتماد عليها في مواجهة روسيا. وسيستوجب ذلك من الدول الأوروبية، اقناع الناخبين فيها بأن الدفاع عن أوكرانيا يستحق العناء، وبأن صد روسيا يتطلب مزيداً من الانفاق العسكري وجيوشاً أكبر، وأشكالاً جديدة من الخدمة الإلزامية.

إقرأ على موقع 180  "فورين أفيرز": يعاقبون روسيا فيتضرر الجنوب

وعلاوة على ذلك، عندما يجتمع قادة الاتحاد الأوروبي الأسبوع المقبل في قمة نهاية السنة، سيتيعن عليهم اتخاذ قرار في شأن كيفية تأمين 200 مليار دولار لأوكرانيا، من أجل تمكينها من مواصلة القتال في العامين المقبلين. وتبدو عملية استخدام 245 مليار دولار من الودائع الروسية المجمدة في المصارف الغربية، معقدة إلى حد كبير.

 لم تعد أوكرانيا، وحدها، التي تباعد بين أوروبا والولايات المتحدة، بل ثمة افتراقاً في الرؤى إلى القيم. ورأت صحيفة “الغارديان” البريطانية، أن “العلاقات الأميركية- الأوروبية، لم تعد قائمة على التحالف، بقدر ما باتت تقوم على الإهانة والضغط”. وحذّرت من أن ترامب وأنصاره “ينظرون إلى الاتحاد الأوروبي، باعتباره عبئاً أمنياً ومنافساً اقتصادياً وخصماً ثقافياً يجب تقويضه”.

وأظهر استطلاع للرأي أجراه معهد “بيو” أن 36 في المئة من الفرنسيين فقط ينظرون بإيجابية للولايات المتحدة، بينما كانت هذه النسبة 36 في المئة قبل عام. كما أظهر استطلاع للمعهد نفسه أُجري مؤخراً، أن 73 في المئة من الألمان يعتقدون أن العلاقات الألمانية-الأميركية، سيئة، بعدما كانت هذه النسبة فقط 22 في المئة قبل عام.

هذه التحولات الكبيرة، تجعل أوروبا تهجس بواقع أنها لم تعد أمام عدو واحد يتجسد في روسيا، وإنما انتقال أميركا من موقع الحليف إلى موقع الخصم!

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  المزاج الأوروبي يتحول.. هل ينجح مؤتمر "حل الدولتين"؟