عالمٌ تقوده أمريكا طبقاً لتوجيهات “الملك المستبد”!

كنتُ طالباً أدرس العلوم السياسية خلال أهم مرحلة في مراحلها الانتقالية، عندما كان أغلب الأساتذة ما زالوا من دارسي القانون وأقلهم من خريجي معاهد وأقسام التاريخ السياسي. تلقت هذه المدرسة أول صدمة خلال مناقشات ومحاضرات الإعداد لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية إذ ظهر ميل واضح نحو جعل "القوة" شريكاً للقواعد والقيم التي اعتمد عليها المخططون لنظام دولي جديد (مدرسة مورجنثاو).

خطّط المخططون في هذه المدرسة لنظام يقوم أساساً على قواعد مهمة تولى صياغتها خبراء أمريكيون بينهم عسكريون قادوا جيوش الحلفاء خلال الحرب. نظام دولي يعتمد القانون الدولي شريكاً مؤسساً، وبخاصة نصوص الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي عقدت خلال مختلف مراحل تطور العلاقات بين الدول الغربية الكبرى.

تلقت هذه المدرسة، وأقصد المدرسة الجديدة للعلوم السياسية، صدمتها الثانية عندما راح بعض العلماء يتبحرون في فهم سلوك الأفراد عند اتخاذ قراراتهم ونحو فهم أعمق لمفهوم الدولة باعتبارها كيان حي يتأثر بمختلف مكونات البيئة المحيطة ويؤثر فيها. تطرّفوا فأخذوا من العلوم الطبيعية بعض نظرياتها في نشأة الأشياء وتطورها وعلاقاتها بما حولها. هكذا استحقت العلوم السياسية، بعد كفاح طويل، أن يجري تصنيفها ضمن فئة العلوم، وتغليب هذه الفئة في المكانة على الفئتين الأقدم، أي على القانون والتاريخ الدبلوماسي، وبخاصة عندما راحوا يتعاملون مع التاريخ الدبلوماسي كمعمل يجرون فيه تجاربهم النظرية.

***

أردتُ، بهذه المقدمة المطولة بعض الشيء، أن أقترب من فهم “المآلات” التي يمكن أن ينزلق إليها العالم الذي نعيش فيه الآن. ما نعرف وأظن أننا فهمناه “مآلًا” انحدر إليه العالم أو سقط فيه؛ هو أننا نتخلى في هذه اللحظة وبسرعة عن قيم وقواعد التزمها أو اعتمد عليها النظام الدولي منذ نشأته في أواخر الحرب العالمية الثانية. نتخلى عنها مذ بدأ الرئيس دونالد ترامب وعديد السياسيين في مناطق أخرى يفعلون.

***

كنت كطالب ثم كممارس شاهداً على بعض هؤلاء وهم يتخلون مثلاً عن قيم مثل سيادة الدولة والسمعة الحسنة والثقة المتبادلة والديموقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير وحرية التجارة والمساواة وغيرها من القيم التي نمت مع نمو العلاقات بين الدول وبين الشعوب أو كرد فعل لتجاوزات الدول والحروب المدمرة والتدخل في شئون الدول الأخرى وتجارب التعامل مع النظم الفاشية.

***

جرى التخلي عن الكثير من القيم عن طريق إجراءات ومراسيم يبتكرها ويصدرها وينفذها القطب المهيمن محطم النظام القائم ومبتدع بعض القيم للنظام الجديد. من هذه الإجراءات على سبيل المثال وليس أكثر إعلان الرئيس الأمريكي الطلب إلى كل من مصر وبنما إعفاء الولايات المتحدة من رسوم عبور سفنها في كلتا القناتين، قناة السويس وقناة بنما، منها أيضاً سحب الاعتراف بـ، أو وقف دفع الأنصبة في، وكالة الأونروا ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة التجارة الدولية ورفض إجراءات وأحكام محكمة العدل الدولية، والاستمرار في شل عمل مجلس الأمن الدولي للتعمية عن حرب الإبادة المشتعلة ضد شعب فلسطين وعن بعض نوايا الرئيس الأمريكي ومنها نية ضم جرينلاند وكندا إلى الولايات المتحدة. بهذا المعنى كادت تكتمل للولايات المتحدة عناصر الهيمنة المطلقة، الأمر الذي لم يعد يحظى بقبول أو موافقة الأقطاب الأخرى الصاعد منها والساقط على حد سواء، أقصد تحديداً الصين وروسيا ودول الاتحاد الأوروبي.

ولا يفوتني أن أضيف حقيقة أن كلاً من كندا ودول أخرى في الأمريكيتين وفي إفريقيا تعاملت مباشرة وبصبر وشجاعة مع عدد من مظاهر السلوك السياسي الأمريكي التي راحت تؤكد لها وللعالم الخارجي حال ومستوى الانحدار الأمريكي، وفي الوقت نفسه حال انحدار النظام الدولي.

***

يتساءل العالم، أو على الأقل، الدول التي دخلت فيما أسميه دائرة الشك في مستقبل الهيمنة الأمريكية، من هذه الدول الصين طبعاً وروسيا والهند ومعظم الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي، يتساءل هذا العالم عن المدى الذي يمكن أن يذهب إليه الرئيس ترامب وجماعته، وبالجماعة أقصد عدداً من الشركات والشخصيات المهيمنة على قطاعات التكنولوجيا وعلى المنظمة الصهيونية العالمية وعلى مجمع الأسلحة الأمريكي وجماعة العقاريين اليهود وغيرها من مكونات مشروع النظام الدولي المتوقع، وأما المدى فأقصد به كلا من المسافة الزمنية والقدرة الفعلية بالإضافة إلى درجة العنف التي يمكن أن يذهب اليها شركاء نظام الهيمنة لتعزيز مكانته وإمكاناته ووقف انحدار القطب الأعظم.

***

أخشى أن أكرّر عن قصد أنني سبق وتوقعت خلال حملته الانتخابية أن يأتي ترامب إلى البيت الأبيض في شكل عاصفة تسونامي بنية “اكتساح” كل ما يقف في طريق تحقيق حلم، أن يُحوّل العالم كما يراه إلى غابة عنف، إلى مرحلة “سلم أمريكي” ثانية؛ عالم تقوده أمريكا طبقاً لتوجيهات “الملك المستبد”، هنا يبدأ تنفيذ سياسات عنف، وفي صدارتها إن صح التعبير “سياسة الصفقات العنيفة أو الراديكالية أو الثورية” على أنقاض وأشلاء الديموقراطية والحريات والحقوق الإنسانية. توقعت إعصاراً مدمراً من سياسات عنف متنوع يهدم ويدمر قبل أن يبني فالوقت والدستور لن يمهلانه وقتاً إضافياً.

***

آخرون توقعوا زلزالاً أو كوارث أو حروباً لا تنتهي في مناطق متعددة وبخاصة في الشرق الأوسط، هؤلاء يعرفونه أكثر مني أو يعيشون واقعاً أمريكياً جديداً أو أدركوا مبكراً خطورة اجتماع “تهيؤات” وأوهام الرئيس الأمريكي مع خطط الجماعة الحاكمة في إسرائيل، وهي الخطط المستوحاة من أساطير تاريخية ودينية والمختلطة بأيديولوجية إمبريالية تعتمد مبدأ “تفوق الرجل الأبيض” والمتشربة بأسوأ ما في تراث الاستشراق من مزاعم ومؤامرات.

إقرأ على موقع 180  العنصرية سلاح الرأسمالية الإحتياطي.. في الأزمات

***

لسنا مبالغين ولا متشائمين إذا توقعنا أن تُخلّف زيارة الرئيس ترامب لبعض دول الشرق الأوسط شراً أو ضرراً يبقى معنا لشهور أو سنوات. أسباب توقعاتنا غير السارة أوجزها في السطور القليلة التالية:

أولاً؛ أوضاع الإقليم العربي ليست في أفضل أحوالها، فالحرب ضد غزة خصمت من أرصدة العرب جميعاً. بمعنى آخر، لسنا في وضع يسمح لنا بمخاطرة الدخول في مفاوضات لإبرام صفقات كبرى من أي نوع.

ثانياً؛ الرئيس الضيف يأتي إلى الشرق الأوسط مثخناً بجراح الفشل حسب ما أذيع من نتائج استقصاءات الرأي الأمريكية عن أداء حكومته في نهاية مائة يوم أو أكثر من توليها المسئولية. تعلمنا خلال مختلف مراحل الكفاح ضد الاستعمار أن نتوخى أقصى درجات الحذر عند التعامل مع عملاق دولي مصاب أو مهتز السمعة أو ساع بتهور لتعويض ما فقد أو اختلطت لديه مصالحه الشخصية مع المصالح القومية.

ثالثاً؛ في الظروف الدولية والإقليمية الراهنة لا نتوقع تدخلاً حازماً من جانب دولة عظمى أخرى لمنع توقيع صفقة أو أخرى تضر مستقبلاً بالمصالح الاستراتيجية بهذه الدولة أو تلك. بمعنى آخر لن تتكرر ظاهرة رسالة موسكو في حرب السويس إلى دول العدوان الثلاثي، ولن تتكرر بنفس الشكل ظاهرة الإنذار الذي وجهته مصر الناصرية لتركيا وأمريكا اللتين خططتا لتتدخلا في شئون سوريا في أعقاب حرب السويس. أضعف الظن أن الكل يعلم أن ترامب بما يفعله داخلياً وخارجياً إنما يُسرّع عملية جر بلاده إلى موقع في النظام الدولي الجديد أقل تميزاً.

رابعاً؛ لم يعد خافياً أن لإسرائيل مشروعها الخاص بشرق أوسط يكون لها فيه حق الريادة والهيمنة في نظام إقليمي متعدد الحضارات ومركزه القدس، نظام يحل محل النظام الإقليمي العربي ويفصل كلياً ونهائياً مجموعة دول المغرب العربي عن جماعة دول الخليج وفصل هذه وتلك عن مصر. أغلب الظن أن كلاً من تركيا وإيران لن تقبل سلمياً الخضوع لريادة إسرائيلية.

خامساً؛ تدرك إسرائيل الأهمية الاستراتيجية لسوريا في أي نظام إقليمي يقوم في الشرق الأوسط. تدرك أيضاً القيمة الكبرى للهيمنة على الممرات المائية الاستراتيجية في الإقليم، وفي الوقت نفسه أهمية تسريع تنفيذ المشاريع البديلة لها مثل الممر الهندي الخليجي الإسرائيلي وقناة البحرين وغيرهما.

سادساً؛ زيادة ملحوظة ومتوقعة أيضا في عدد النزاعات العربية -العربية، وزيادة في درجة التوتر الاجتماعي في عدد من دول الإقليم، وزيادة الضغوط الأمريكية على هذه الدول، وهو الأمر الذي سوف يتضح بجلاء خلال زيارة الرئيس الأمريكي للمنطقة وقبلها وبعدها.

لن يُغيّر الرئيس الأمريكي أسلوب تعامله مع الدول الأقل مكانة وقوة فهو الأسلوب الذي أتقنه كمُطوّر عقارات خلال رحلته الطويلة.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

دبلوماسي مصري سابق، كاتب متخصص في القضايا الدولية

Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  يتساءلون عن المسئول.. أمريكا أم ترامب؟