الإجابة تكمن في طبيعة الدولار نفسه. فالولايات المتحدة لا تدخل عالم الأعمال بهدف الربح التجاري، إذ يمكنها نظريًا طباعة ما تشاء من النقود. لكن الدولار ليس ثروة حقيقية، بل أداة ائتمان ودَين، ولا يعمل إلا بقدر ما يقبله الآخرون. لعقود طويلة، كان القبول العالمي الواسع للدولار يسمح لواشنطن بتمويل عجزها بسهولة وتوزيع عملتها عبر النظام المالي العالمي دون عوائق تُذكر.
اليوم، تتآكل هذه المعادلة بسرعة. فالصين، أكبر اقتصاد في العالم من حيث القوة الشرائية، ومعها تحالف متزايد من الدول، تعمل بشكل منهجي على تقليص الاعتماد على الدولار. ومع تقلص شبكة القبول، لم تعد طباعة النقود كافية لتمويل الدولة بنفس الفعالية السابقة. وهنا تبدأ الولايات المتحدة رحلة البحث عن “مال حقيقي”: تدفقات نقدية، أرباح، وأصول إنتاجية، وهي عناصر يوفرها القطاع الخاص لا المطبعة.
إذا وصل الذهب إلى نطاق 5,000–7,500 دولار للأونصة، فمن المرجح أن تعود نسبة الذهب إلى الفضة من مستوياتها الحالية المرتفعة (80–90) إلى نطاقها التاريخي الأقرب إلى60، ما يعني أن سعر الفضة في عام 2026 قد يتراوح بين 80 و125 دولارًا للأونصة، وربما أكثر في حال تصاعد الضغوط التضخمية أو تراجع الثقة بالعملات الورقية
وبغض النظر عن نوع العملة، تستطيع الشركات القادرة على الإنتاج والربح توليد الدخل سواء أكان بالدولار أم الذهب أم البيتكوين. ومن هذا المنطلق، يبدو أن الحكومة الأمريكية تتجه لتحويل التدفقات النقدية للقطاع الخاص إلى مصدر تمويل بديل مع تراجع هيمنة الدولار. اليوم نتحدث عن شركات، لكن التاريخ يخبرنا أن الدول المثقلة بالديون، عندما لا ترى مخرجًا، تبدأ تدريجيًا بتحميل الكلفة للمجتمع ككل، وقد يشمل ذلك المدخرات، حقوق الملكية، الذهب، بل وحتى الأصول الرقمية. فالديون الضخمة لا تختفي دون ثمن، بل يتم توزيع ثمنها في نهاية المطاف على الجميع.
في المقابل، تقدم الصين نموذجًا مختلفًا جذريًا. ففي العام 2025، حقّقت بكين فائضًا تجاريًا يقارب التريليون دولار، وهو إنجاز لم تحققه أي دولة في التاريخ. التفسير السائد في الغرب يعزو هذا النجاح إلى “التلاعب بالعملة” عبر إبقاء اليوان ضعيفًا لتعزيز الصادرات، غير أن هذا الطرح يتجاهل أساسيات الاقتصاد الحقيقي.
خفض قيمة العملة لا يخلق صادرات. قبل التصدير يجب أن يكون هناك “إنتاج”، وقبل الإنتاج لا بد من سلع رأسمالية، مصانع، آلات، ورأس مال بشري وتقني. كثير من الدول خفّضت عملاتها بنسبة 50 أو حتى 70 في المئة خلال سنوات قليلة، ولم تتحول إلى قوى تصديرية. الصين صدّرت لأنها بنت قاعدة إنتاجية صناعية هائلة، لا لأنها خفّضت عملتها فقط.
الأهم أن الصين لا تكتفي بتكديس الفوائض، بل تعيد تحويلها إلى أصول حقيقية. فمن المتوقع أن تشتري عام 2025 ما بين 1200 و1250 طنًا من الذهب. وإذا قُسّم الفائض التجاري على كمية الذهب، نصل إلى سعر يقارب 26 ألف دولار للأونصة، وهو ما يعكس ضمنيًا تصور الصين للقيمة الحقيقية للذهب على المدى الطويل .حاليًا، يبلغ سعر أوقية الذهب نحو 30 ألف يوان بسعر صرف يقارب 7.0 يوان للدولار. وإذا افترضنا، كما يُكرّر كثيرٌ من الاقتصاديين، أن اليوان ضعيفٌ ويجب أن يكون أقرب إلى 4.0 يوان للدولار، فإن السعر الضمني للذهب بالدولار يقفز إلى نحو 7500 دولار للأونصة، أي أعلى بكثير من مستواه الحالي. وليس من قبيل الصدفة أن تتوقع مؤسسات مالية كبرى وصول الذهب إلى مستويات تقترب من 5000 دولار خلال العامين المقبلين، وهي أرقام أقرب بكثير إلى هذا التقدير الضمني من الأسعار الحالية.
ولا يقتصر هذا التحول على الذهب وحده، بل يمتد بقوة إلى الفضة، التي قد تكون المستفيد الأكبر في المرحلة المقبلة. فالفضة ليست مجرد مخزن للقيمة، بل معدن صناعي استراتيجي يدخل في الطاقة الشمسية، السيارات الكهربائية، أشباه الموصلات، والذكاء الاصطناعي. ومع تسارع التحول العالمي نحو الطاقة النظيفة والتقنيات المتقدمة، يتزايد الطلب الصناعي على الفضة في وقت تعاني فيه الإمدادات من عجز هيكلي مزمن، إذ فشل الإنتاج المنجمي في مواكبة الطلب لسنوات متتالية. تاريخيًا، تتحرك الفضة متأخرة عن الذهب ثم تلحق به بشكل حاد في المراحل المتقدمة من الدورات النقدية. وإذا وصل الذهب إلى نطاق 5,000–7,500 دولار للأونصة، فمن المرجح أن تعود نسبة الذهب إلى الفضة من مستوياتها الحالية المرتفعة (80–90) إلى نطاقها التاريخي الأقرب إلى60، ما يعني أن سعر الفضة في عام 2026 قد يتراوح بين 80 و125 دولارًا للأونصة، وربما أكثر في حال تصاعد الضغوط التضخمية أو تراجع الثقة بالعملات الورقية.
في الخلاصة، نحن أمام عالم ينقسم بوضوح بين نموذج يعتمد على التمويل والدَّين وطباعة النقود، ونموذج آخر يركز على الإنتاج، الفوائض، والأصول الحقيقية. الأول يُجبر في نهاية المطاف على ملاحقة الأصول الخاصة لتعويض تآكل عملته، بينما يعيد الثاني تسعير القيمة من خلال ما ينتجه وما يملكه فعليًا. وفي هذا التحول التاريخي، يبقى درس واحد ثابتًا: الديون الضخمة لها عواقب، ولا أحد ينجو من دفع ثمنها.
