سوريا بعد الأسد.. سلطة برئيسين

بعيدًا عن عنوان احتفالية السنة الأولى: "عام على التحرير"، فإنّ الأهم هو محاولة استشراف المستقبل السوري، من خلال قراءة أداء رئيس المرحلة الانتقالية على مدى السنة المنقضية. فقد بدا أنّ لسوريا اليوم رئيسًا يُخاطب الخارج اسمه أحمد الشرع، ورئيسًا للداخل اسمه "أبو محمد الجولاني"، والفارق بينهما أنّ الأول يلبس بدلة رسمية وربطة عنق، ويتوسّل الاعتراف الدولي والإقليمي به، فيما الثاني ما يزال يرتدي البذّة العسكرية ويعتمدها لغة لتعامله مع مكوّنات المجتمع السوري.

يستطيع أحمد الشرع أن يتباهى بأنّه استطاع خلال العام المنصرم أن يُعيد سوريا إلى المسرح الدولي من الباب الأميركي العريض، وأنّه حصل على اعتراف دول العالم بسلطته. لكن قراءة متأنّية لمفاعيل هذه العودة تُظهر أنّ سوريا لم تعد كدولة، بل إنّ من عاد هو أحمد الشرع نفسه، الذي انتقل من زعيم تنظيم مصنّف دوليًّا إرهابيًا إلى زعيم كيان سياسي ما يزال هجينًا، وبالتالي ليس رئيسًا انتقاليًا لدولة مكتملة المواصفات. فطريقة استقبال الرئيس الأميركي دونالد ترامب له في البيت الأبيض خلت من أيّ بروتوكول رئاسي، إذ دخل من الباب الخلفي وجلس مع فريقه مقابل مكتب ترامب، الذي بدا وكأنّه يحاضر فيهم كما يحاضر المُدرّس في طلابه.

أمّا استقبالات باقي دول العالم لأحمد الشرع، فكانت مجرّد لقاءات بدا فيها الأخير وكأنّه يعمل فقط على محو صورته القديمة كقائد لتنظيم جهادي موسوم بـ«الإرهاب»، ومن ثم تظهير صورته الجديدة كدبلوماسي ورئيس دولة. وقد خلت كلّ هذه اللقاءات حتى الآن من أيّة مفاعيل اقتصادية لمساعدة سوريا في إعادة إعمار ما دمّرته الحرب التي استمرّت ثلاثة عشر عامًا.

هذا على المستوى الخارجي، أمّا واقع الحال في سوريا نفسها، فإنّ قراءته تُظهر أنّ الوضع ليس بخير. فقد استغلّت «إسرائيل» تفكّك الدولة المركزية لتشنّ حملة غارات جوية واسعة دمّرت فيها كلّ القدرات العسكرية السورية، البرية منها والبحرية والجوية، وحوّلت تسليح ما تبقّى من الجيش السوري إلى أقلّ من شرطة بلدية. أمّا ميدانيًا، فقد تجاوز الجيش «الإسرائيلي» خطّ الهدنة الذي رُسم بعد حرب العام 1973، وتقدّمت قواته لتحتلّ ما يقارب 650 كيلومترًا مربعًا من الجنوب السوري، ولتصبح على بُعد أقلّ من عشرين كيلومترًا من العاصمة دمشق، هذا بالإضافة إلى اللعب بالنسيج المجتمعي السوري عبر تقديم «إسرائيل» نفسها حاميةً للأقليات بصورة عامة في سوريا، وللدروز والأكراد والعلويين بصورة خاصة.

وفي الشمال الشرقي لسوريا، ما تزال القوات الكردية تحتفظ بمنطقة نفوذ واسعة، على الرغم من توقيع زعيم هذه القوات، مظلوم عبدي، اتفاقًا مع الشرع في مارس/آذار الماضي لاندماج القوات الكردية في الجيش السوري والمشاركة في السلطة، لكن شيئًا من ذلك لم يحصل. أمّا باقي مناطق الشمال السوري، فهي تخضع للاحتلالين الأميركي والتركي، وهنا يتجنّب الشرع مقاربة الكلام عنهما، كونهما باتا الراعيين الفعليين لسلطته. وما يزال الجيش الروسي يحتفظ بقاعدتين عسكريتين في طرطوس واللاذقية في الساحل السوري. وإلى جانب هذا الوجود العسكري الأجنبي (التركي والأميركي والروسي)، هناك نفوذ لهذه الأطراف على المجتمعات المحلية؛ فالتركي يتولّى رعاية السنّة، والأميركي يرعى الأكراد، فيما الروسي يرعى العلويين والمسيحيين ومن تبقى من الشيعة الذين نزح عشرات الآلاف منهم إلى البقاع الشمالي اللبناني.

ولا يمكن لأحد أن يتجاوز الأحداث الطائفية التي شهدتها المدن السورية خلال العام المنصرم، ضدّ العلويين والشيعة والمسيحيين في مدن الساحل السوري، وضدّ الدروز في محافظة السويداء. وقد ذهب ضحيتها آلاف الأبرياء، وما تزال تلك المناطق تعيش هدوءًا حذرًا، فيما لم تُظهر التحقيقات الشكلية أيّ جدّية في محاسبة المرتكبين حتى الآن، وبالتالي سيبقى عنوان “العدالة الإنتقالية” عنصراً حاكماً للمسار السوري في المرحلة المقبلة.

أمّا على صعيد تركيبة السلطة، فقد جاء تشكيل الحكومة المؤقّتة، كما الانتخابات البرلمانية، عبارة عن مسرحيةً ضعيفة الأداء والإعداد والإخراج، ناهيك عن أنّها أكّدت التوجّه الإقصائي لمعظم المكوّنات الاجتماعية السورية الأخرى. وفي الواقع المعيشي، لم تنطلق ورشة إعادة بناء ما دمّرته الحرب، وانعكس ذلك مزيدًا من تدهور الوضع المعيشي للناس الذين لمسوا شبه ثبات لسعر عملتهم لكن في ظل خدمات صاروا يدفعون ثمنها أضعافًا مضاعفة..

ويواجه الشرع مهمّات كبرى ومسؤوليات جسامًا، وقد يُصيب في مواجهة بعضها وقد يُخطئ في مواجهة البعض الآخر، لأنّ من يعمل يُخطئ. لكن النهج الذي يسير عليه حتى الآن لا يوحي بإمكانية وضع سوريا على سكّة السلامة. فالمعضلة الأكبر التي يواجهها هي التعامل مع احتلال «إسرائيل» لأجزاء واسعة من بلاده، والاشتراط عليه التوقيع على اتفاق أشبه بالاستسلام، لا يتخلّى فيه عن مرتفعات الجولان كليًّا فقط، بل أيضًا يعطي لـ«إسرائيل» حرّية الحركة في الأجواء والأراضي السورية لمواجهة كلّ ما تعتبره تهديدًا لأمنها في أيّ وقت من الأوقات. إنّ لجوء الشرع إلى التفاوض مع «إسرائيل» وفق وضع سوريا العسكري الراهن، ووضع كلّ أوراقه عند الراعي الأميركي على أمل الحصول على إخراج الاحتلال، هو رهان غير مضمون النتائج، ولن يتأخّر الوقت قبل أن يتحقّق الشرع منه. وهو قال في مقابلة مع “واشنطن بوست” إن الشرط الأساس لأي اتفاق مستقبلي يتمثل في انسحاب إسرائيل من كل الأراضي التي احتلتها بعد الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، أي تاريخ سقوط الأسد، معولاً على الولايات المتحدة “لأنها الدولة الوحيدة في العالم القادرة على ضبط السلوك الإسرائيلي”.

إقرأ على موقع 180  ترامب يُحاكَم أم يُرشّح للرئاسة؟

وعلى الرغم من ضعف سوريا في العقود الخمسين المنصرمة، فقد فرض الرئيس الراحل حافظ الأسد نفسه لاعبًا أساسيًا على المسرح الدولي في كلّ المحطات المهمّة التي عاشتها المنطقة، وتمسّك باستعادة الجولان كاملًا. ويشهد له على ذلك كلّ من الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون ورئيس الحكومة «الإسرائيلية» الأسبق إيهود باراك بعد مفاوضات جنيف عام 2000، قبل أيّام قليلة من وفاته. فما لم يُفرّط به الأسد لا يستطيع أن يُفرّط به الشرع، والشعب السوري لن يرحمه إن تجرّأ وارتكب خطيئةً من هذا النوع.

أمّا في إدارة الصراع الداخلي والتعامل مع الأقليات، فإنّ أفضل وصفة لاستمرار الانقسام الطائفي هي محاولة تهميش دور هذه الأقليات وإلغائه. وعلى الشرع العودة مجدّدًا إلى طريقة تعامل الأسد مع المكوّنات الطائفية السورية، التي لم يُهمَّش منها أحد في كلّ سنوات حكمه، فكان لكلّ طائفة حصّتها المعتبرة في السلطة، بمعزل عن مركزية القرار بيده ومن حوله حاشية من الضباط والشخصيات التي استفادت من قربها من السلطة، حالها كحال بلدان أخرى وقادة آخرين..

وفي هذا الإطار، لا بدّ للشرع أن يحسم أمره بضرورة خلع البذّة العسكرية في تعامله مع المكوّنات الاجتماعية السورية، واللجوء إلى لغة التسامح والمشاركة والمواطنة. وهذا يتطلّب منه التخلّص من العقول التكفيرية والأصولية التي تحيط به، وإشراك باقي شرائح المجتمع السوري في إدارة البلاد.

إنّ إعادة بناء الحجر في سوريا ليست بالأمر الصعب إذا تمكّن الشرع من إعادة بناء البشر على أساس مبدأ المواطنة، وإلّا فإنّ معاناة الشعب السوري ستكون طويلة وبلا نهاية. أمّا الاحتفال بـ«تحرير سوريا»، فلم يكن شعارًا موفّقًا أبدًا، فسوريا اليوم تحت احتلالات لم تعش مثلها منذ أيّام الانتداب الفرنسي قبل الاستقلال عام 1946.

Print Friendly, PDF & Email
سلطان سليمان

صحافي لبناني؛ كان يُوقّع مقالاته باسم "ماهر أبي نادر" لضرورات عمله

Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  الدونباس.. حدود الأمر الواقع بين روسيا والغرب!