بين تركيا وروسيا… أكثر من أس-400

ثمة في الغرب من يذهب إلى توصيف التقارب التركي-الروسي القائم منذ فترة بـ"الانقلاب"... بل أن البعض يفضّل تسميته "الانقلاب الروسي في تركيا"!

تبدو المخاوف الغربية، ولا سيما الأميركية منها، تجاه انعطاف أحد الأعضاء المؤسسين في حلف شمال الأطلسي باتجاه روسيا – العدو الدائم لـ”الناتو” – في محلّها، لا سيما أن ما يجمع أنقرة وموسكو بات يتجاوز التقاطعات السياسية الإقليمية، التي قد تبدو تكتيكية في معظم الأحيان، ليلامس الإطار الاستراتيجي، ومن آخر فصوله نشر منظومات صواريخ “أس-400″، جوهرة الدفاعات الجوية الروسية، في تركيا، في صفقة أثارت حنق الأميركيين.

ومع ذلك، لا يمكن اعتبار التقارب الحاصل بين تركيا وروسيا بمثابة تحالف واضح المعالم، خصوصاً أن عوامل الخلاف لا تزال تلقي بظلالها على الكثير من الملفات، ابتداءً من سوريا، حيث تتناقض سياستا الرئيسين فلاديمر بوتين ورجب طيب اردوغان حول الكثير من القضايا الجوهرية، وهو ما كشفت عنه أحداث ادلب، وصولاً إلى ما تنظر اليه موسكو كأمن قومي، سواء في الملف الأوكراني حيث لا يخفي الرئيس التركي معارضته لعودة القرم الى الحضن الروسي، أو في ملفات أخرى تنظر فيها روسيا إلى تركيا بعين الحذر، من قبيل ما يُحكى عن سعي تركي لاختراق بعض الجمهوريات الروسية ذات الغالبية المسلمة.

ولكن إرث الماضي ومحاذير الحاضىر لا تعني أن التقارب الحاصل في العلاقات الروسية-التركية أمر تفصيلي في المشهد الدولي المتحوّل، خصوصاً أن من سمات المرحلة الحالية – والمقصود بها مرحلة عودة روسيا كلاعب ندي للولايات المتحدة في عهد فلاديمر بوتين بعد سنوات من الانكفاء في عهد بوريس يلتسين غداة انهيار الاتحاد السوفياتي – أن الكل بات في حاجة الى حسم خياراته، بين مواصلة الالتحاق بسياسة “الأحادية” التي تسعى واشنطن لترسيخها برغم كل العثرات التي واجهتها، وبين الانضواء في السياسة التشاركية التي تقودها روسيا كقاطرة سياسية – عسكرية، والصين كقاطرة اقتصادية.

“اس-400”… مؤشر استراتيجي

كان الثاني عشر من تموز العام 2019 يوماً مفصلياً في العلاقات التركية-الروسية من جهة، والعلاقات التركية-الأميركية من جهة أخرى، حين أعلنت وزارة الدفاع التركية عن تسلّم الأجزاء الأولى من نظام الدفاع الصاروخي “إس-400”، ما مثّل تحدّياً تركياً واضحاً للتهديدات الأميركية بفرض عقوبات على أنقرة بسبب هذه الصفقة التاريخية، بما يشمل احتمال استبعادها من برنامج المقاتلات “أف-35”.

الحجة الأميركية، وإن كانت تقنية في ظاهرها، إلا أنها، في طابعها السياسي، أعمق بكثير من مجرّد القول إن نظام “إس-400” لا يتناسب مع شبكة حلف شمال الأطلسي الدفاعية، وأنه قد يعرض المقاتلات “الشبح” من طراز “إف-35” للخطر، فالتداعيات الاستراتيجية للصفقة العسكرية، وهي الاولى من نوعها بين روسيا وعضو في حلف “الناتو”، أهم بكثير، وهي تعزز مخاوف الغربيين من أن تركيا بدأت تنجرف بالفعل إلى مجال النفوذ الروسي.

ثمة حاجة إلى فهم السياق السياسي لما يجري. خلال السنوات الماضية، اتخذت العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا مساراً انحدارياً متدرّجاً، تبدّى في الانقسامات الكبيرة بين الجانبين حول قضايا عدّة، وقد طفت إلى العلن، وبشكل حاد، حين طالب رجب طيب أردوغان بتسليم الداعية الإسلامي فتح الله غولين المقيم في ولاية بنسلفانيا، والمتهم بالوقوف وراء الانقلاب العسكري الفاشل في صيف العام 2016.

التوترات الأخيرة لا تشكل في الواقع أكثر من رأس جبل الجليد في العلاقات التركية- الاميركية

مع ذلك، فإن التوترات الأخيرة لا تشكل في الواقع أكثر من رأس جبل الجليد في العلاقات التركية- الاميركية، فالخلافات أقدم قليلاً، والحلفاء المفترضون باتوا على تناقض متزايد تجاه الكثير من القضايا الإقيلمية، وإن كان لا يزال ثمة اعتقاد واسع النطاق بين صانعي السياسة وخبراء الأمن القومي في الولايات المتحدة بأن النخبة الأمنية القومية التركية تواصل النظر إلى الولايات المتحدة كحليف لا غنى عنه، برغم كل إرهاصات التجارب السابقة.

لكنّ ما يعتبر في الولايات المتحدة “بديهيات” تناقضه الوقائع على الأرض، فأردوغان يبدو اكثر استعداداً اليوم للمخاطرة بالشراكة القائمة في مشروع “اف-35”، الذي يمثل حجر الزاوية في التخطيط لمستقبل قواتها الجوية، وقد فضّل المضي قدماً في الحصول على منظومة “أس-400”، بما تمثله من امكانات جديدة لبلاده، خصوصاً أن هذه المنظومة الدفاعية مصممة لهزيمة تكنولوجيا التسلل الأميركية، ومن هنا يأتي شعور الولايات المتحدة بالقلق من إمكانية استخدامها لجمع معلومات استخبارية قيّمة قد تجد طريقها إلى روسيا.

على المستوى الاستراتيجي، يمثل خيار أردوغان بشراء منظومة “أس-400” رسالة واضحة، مفادها أنّ تركيا قد تكون مستعدة، في وقت ما، للتخلي عن العلاقات التاريخية مع واشنطن لصالح علاقات عصرية مع موسكو.

ومن خلال تبني سياسة خارجية أكثر توازناً، يسعى أردوغان إلى تعزيز مفهوم جديد لمصالح تركيا الوطنية، تقوم على إمكانية التعاون بشكل أوثق مع روسيا في الملفات السياسية والعسكرية والاقتصادية.

صحيح أن ذلك لن يقود بالضروة إلى تموضع تركي حاسم في المعسكر الروسي على حساب الولايات المتحدة، وهي مسألة جوهرية في تحديد شكل العلاقات الدولية بين الغرب والشرق، إلا أنه يشي بأنّ تركيا لم تعد تنظر إلى الولايات المتحدة كحليف لا غنى عنه.

مشهد متحوّل

يمكن النظر إلى هذا النهج التركي انطلاقاً من متغيّرات العصر. في الأصل، نشأ التحالف الأميركي- التركي بسبب المخاوف المشتركة بشأن التوسع السوفياتي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ولعلّ قرب تركيا الجغرافي من الاتحاد السوفياتي جعلها “الشريك المثالي” للجهود الأميركية لمراقبة خصمها في مرحلة الحرب الباردة، واكتساب نقطة ارتكاز في حالة اندلاع الحرب الساخنة. ولهذا الغرض، تلقت تركيا ضمانات أمنية من الولايات المتحدة، تضمنت نشر أسلحة نووية على الأراضي التركية، لمواجهة أي هجوم سوفياتي محتمل.

إقرأ على موقع 180  إنتخابات نقابة المهندسين.. خرقٌ يتيمٌ للتغييريين!

لكن طوال العقود الثلاثة التي انقضت منذ نهاية الحرب الباردة، وبالتالي زوال “البعبع” السوفياتي، واجهت الولايات المتحدة وتركيا صعوبات كبيرد في تحديد المصالح المشتركة.

في الواقع، برزت بدايات اختلاف الأجندات بين الجانبين غداة الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، الذي انتج فراغاً في السلطة، بسقوط نظام صدام حسين، ملأته الولايات المتحدة جزئياً بإقامة كيان كردي في شمال العراق، ما أثار مخاوف نخبة الأمن القومي التركية التي تعتبر القومية الكردية “تهديداً وجودياً”.

ساءت الأمور أكثر فأكثر مع بدء الحرب في سوريا، حين سعت تركيا إلى ضرب الأكراد السوريين، بعدما عجزت عن احتوائهم، حيث استخدمت ضدهم ورقة الفئات الأكثر تشدداً من الجماعات الإسلامية، مثل “جبهة النصرة” و”داعش” (معركة كوباني نموذجاً)، ولكنها دخلت في الوقت ذاته في تناقض مع الولايات المتحدة، التي وجدت في الوحدات الكردية شريكاً محلياً فاعلاً في الحرب على الإرهاب.

ومع أن تركيا والولايات المتحدة تشاركتا، بدايةً، مقاربة موحّدة في الصراع السوري، لجهة السعي لاسقاط نظام الرئيس بشار الاسد وضم سوريا الى “الهلال الاخواني” الذي أريد له أن يمتد من تركيا إلى مصر، الا أنهما سرعان ما افترقتا، على خلفية الازمة السورية نفسها، لا سيما بعدما تأكدت أنقرة من أن واشنطن حددت خياراتها الاستراتيجية في الميدان السوري على حساب مصالح الأمن القومي التركي، في تكرار لتجربة العراق بعد غزو العام 2003.

“ما بعد أميركا”

مع ذلك، لا يمكن اعتبار الحرب السورية عنصراً وحيداً في فهم العلاقات المعقدة بين تركيا والولايات المتحدة، وإن كان الميدان السوري قد شكل اختباراً لها، فمنذ سنوات، وتحديداً مع وصول “حزب العدالة والتنمية” إلى الحكم، بدأت مساعٍ حثيثة لتقليص الاعتماد التركي على الولايات المتحدة.

هذه الأطروحة برزت منذ وقت مبكر، وهي سابقة للأزمة السورية، اذ لطالما تحدث منظرو السياسة التركي عن فكرة القيادة التركية للشرق الأوسط في مرحلة ما بعد اميركا، وقد تكثف هذا الحديث، ليتخذ منحى فلسفياً منذ الانسحاب الاميركي من العراق في العام 2010، وانطلاق مرحلة “الربيع العربي” في العام 2011. ومع أن هذه المقترحات لم تستسغها النخبة العسكرية – الامنية التركية، التي راكمت نفوذها من خلال التحالف مع الولايات المتحدة طيلة عقود، إلا أن التباعد الاستراتيجي في العلاقات التركية-الاميركية، ولا سيما بعد محاولة الانقلاب على اردوغان، جعلت معارضي خيار “الانفصال” عن اميركا أقل امتلاكاً للحجة، خصوصاً بعدما اتضحت مخاطر معاداة روسيا، على غرار ما حدث بعد حادثة إسقاط طائرة “سوخوي” الروسية عند الحدود السورية التركية، من جهة، ومخاطر الرهان الكلي على الولايات المتحدة، لا سيما بعد ما حُكي عن دور أميركي في المحاولة الانقلابية، من جهة ثانية.

وفي رحلة البحث عن شراكات اقليمية ودولية جديدة، بدا بالنسبة إلى القيادة التركية أن ثمة عوامل كثيرة تجعل روسيا شريكاً مضموناً، لاعتبارات اقتصادية وسياسية، وبطبيعة الحال جغرافية.

اختلفت روسيا وتركيا حول الحرب في سوريا، لكنّ الحرب نفسها رسمت مسار تقاربهما!

ومن سخرية القدر، أن الحرب السورية التي جمعت تركيا والولايات المتحدة على أهداف مشتركة، هي التي أدّت في نهاية المطاف إلى “فض الشراكة” بينهما، في حين أن الحرب نفسها، التي فرّقت تركيا وروسيا منذ بداياتها، هي التي أطلقت رحلة بناء الشراكة الجديدة، التي تُرجمت في الميدان السوري بمسار أستانة، بما يشمله من اتفاقات حول مناطق خفض التصعيد، وتفاهمات على ضرورة الوصول إلى حل سياسي للأزمة السورية، علاوة على رسم قواعد اشتباك جديدة، سمحت روسيا من خلاله للجيش التركي بتنفيذ عمليات قتالية محدودة لمواجهة “خطر” الأكراد، بشرط عدم المس بالخطوط الحمراء المتصلة بحماية النظام السوري.

ديناميات ومحاذير

برغم كل الديناميات القائمة في العلاقات التركية-الروسية من جهة، والتركية- الاميركية من جهة أخرى، يبقى من الصعب الحديث عن تحالف مؤكد بين أنقرة وواشنطن، بانتظار أن تتبلور أكثر طبيعة التفاهمات والاختلافات في الملف السوري، وربما ملفات أخرى.

وفي هذا السياق، لا يمكن غض الطرف عن حقيقة أن العلاقات الروسية – التركية تتسم تارةً بالتعاون، وطوراً بالتنافس، لا سيما أن الطموحات الاستراتيجية لدى الجانبين متباينة، وهو ما يؤكده التاريخ بشكل لا لبس فيه، ما يجعل استمرار تعاونهما على المديين المتوسط والبعيد محاطاً بالكثير من الشكوك، وبالتالي فإنّ تقاطعهما على أهداف موحدة أو متقاربة في الوضع الجيوسياسي في الشرق الأوسط، لا يعني بالضرورة أنهما يسلكان طريق التحالف الرسمي، خصوصاً أن ثمة من ينظر إلى خيارات رجب طيب أردوغان باعتبارها تجسيداً لبراغماتية تصل إلى حد الانتهازية في إدارة السياسة الخارجية لتركيا، أملاً بتحقيق أفضل المكاسب الممكنة.

Print Friendly, PDF & Email
وسام متى

صحافي لبناني متخصص في الشؤون الدولية

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  فرنسا تكسب معركة ضد الصين: "لا" لاستقلال كاليدونيا الجديدة