مجدداً، نجحت المرجعية الدينية في العراق ممثلة بالسيد علي السيستاني في خلط أوراق المشهد العراقي، برغم عدم وجود إشاراتٍ أو معطياتٍ تدل على أن الأزمة التي يعيشها العراق والعراقيون قد تحل قريباً.
كان من الصعب على المرجعية الدينية تغطية جريمة بحجم تلك التي أصابت العراقيين: أكثر من أربعمائة قتيل وآلاف الجرحى، خلال أقل من شهرين من عمر حراك شعبي إختلط فيه السياسي بالإجتماعي، لكن العنوان الجامع لكل الساحات هو محاربة الفساد الذي بلغ حدودا قياسية في العراق في سنوات ما بعد الإحتلال الأميركي في العام 2003.
الأزمة العراقية، مقيمة في الشارع، كما في السياسة. ما من جديّةٍ ملموسة من السلطات الثلاث (رئاسات الجمهورية والمجلس النيابي والحكومة) للإصلاح أو التجاوب مع الحد الأدنى من مطالب الحراك الشعبي.
بدا واضحا منذ اليوم الأول أن المتظاهرين لن يتركوا الساحات والشوارع قبل تحقيق مطالبهم. هذا إن تمت مقاربة الأزمة من المنظار المحلّي الضيق؛ غير أن الأزمة باتت أعمق وأعقد بكثير.
تحوّل السخط الشعبي على سوء الأداء الخدماتي إلى معركة لتصفية الحسابات بين طهران وواشنطن. من الأٌقوى في العراق ومن الأكثر نفوذاً فيه؟ من المتحكم بقواعد اللعبة العراقية؟ ومن يقلب الطاولة على الآخر في عاصمة الرشيد؟
أسئلة تبدو إجاباتها معدومة في ظل مشهدٍ عراقي قاتمٍ، غير أن المرجح هو أن تتوالى فصول لعبة عضّ الأصابع، ومعها يستمر واقع الضياع في التعامل مع الأزمة، من طهران إلى بغداد وصولاً إلى واشنطن، مروراً بجميع العواصم المؤثرة بالمشهد العراقي.
محليّاً، فشل رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي في إحتواء العاصفة. معظم من كانوا معه بالأمس صاروا ضده اليوم، وكل القرارات التي خرج بها مع وزرائه، منذ الأسابيع الأولى للأزمة، في مطلع تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، لم تكن على قدر تطلعات وتوقعات الشباب العراقي الغاضب، المتمايز في مطالبه، من حقوقٍ فردية إلى دعواتٍ لإسقاط النظام، وما بينهما من مطالب تُجمع القوى السياسية على أحقيتها وضرورة تنفيذها.
هذه القوى، وتحديداً المتحالفة مع إيران، تنظر بريبةٍ إلى الهبّة الشعبية، “لأنها ليست عفويةً أبداً”، لكنها في الوقت عينه، تتعامل معها بأمرٍ واقعٍ خوفاً من تمدّدها، لأحقية الكثير من مطالبها، وتحوّلها إلى إعصارٍ يبدّل التركيبة السياسية الراهنة، في ظل المتابعة الخليجية – الأميركية لمجريات الأمور، وأملهم أن تكون الإطاحة بعبد المهدي إطاحةً من صناعة محليّة.
لكن ذلك لا ينفي حقيقة وجود فئة عراقية ترى في الأزمة الحالية، فرصةً ذهبية لتحقيق إصلاحاتٍ سياسيةٍ أهم بكثير من المطالب المعيشية. ثمة من يوصّف أن الأزمة العراقية الراهنة أزمةٌ سياسية محضة. فالفساد وملحقاته من الأحاديث الأخرى، معضلةٌ لا تحل بعصا سحرية. لا حلّ جذرياً لدولةٍ ومؤسسات مهترئةً من الداخل، ولعل البداية من قانون الإنتخاب.
من هنا، تبرز أهمية مطالبة المرجعية الدينية بإقرار قانون انتخابي يكون مدخلاً لانتخابات تشريعية مبكرة تغيّر آلية إنتاج الطبقة الحاكمة، أي كسر للكبار وجبرٌ للصغار، قانونٌ يراعي المستقلين خارج التحالفات الكبيرة. فالقانون المرتقب – بحسب مصادر متعدّدة، يعتمد الانتخاب الفردي المباشر والدوائر الصغيرة، إضافةً إلى إقرار تعديلات دستورية جوهرية، أبسطها: تحديد الكتلة الأكبر (المادة 76)، إلغاء مجالس المحافظات (المادة 122)، تقليص عدد أعضاء مجلس النواب برفع نسبة التمثيل من مئة ألف مواطن لكل نائب إلى مئتي ألف (المادة 49)، وكل ذلك ضمن سقوف زمنية محددة.
عمليا، باتت ثوابت المرجعية تشكل خارطة طريق إلزامية سيكون أي رئيس حكومة سيخلف عبد المهدي (أو إذا أعيد تكليفه مجدداً) مُلزماً بإتباعها
في المقابل، ثمة من يذهب في القول إن الأزمة الحالية هي أزمة بنيوية تطال أصل النظام، وقد بات واجباً بعد فشل النظام الجمهوري البرلماني تغييره، والتحوّل إلى نظام جمهوري رئاسي. خيارٌ تتبناه شريحة من المتظاهرين وبعض حلفاء إيران (هادي العامري وقيس الخزعلي)، لكن المرجعية تبدو ــ حتى الآن – ضده، إلى جانب المكونين السني والكردي، اللذين ينظران إلى النظام الرئاسي بوصفه نظام إقصاء وتهميش لهما. لهذا، فإن الأزمة، وإن حاول البعض نقلها إلى سياق آخر، تعود إلى مربع العلاقات السياسية الحاكمة بين القوى المحليّة، والقوى المؤثرة بالمشهد العراقي، إقليمياً ودوليّاً، مع الأخذ بالاعتبار موقف المرجعية الدينية في النجف اليوم (الجمعة)، وقرارها المربع الأضلاع: فرض الأمن، تغيير الحكومة، الإسراع في إقرار قانون الانتخابات التشريعية الجديد ومفوضية الإنتخابات المستقلة، إجراء انتخابات نيابية مبكرة.
عمليا، باتت ثوابت المرجعية تشكل خارطة طريق إلزامية سيكون أي رئيس حكومة سيخلف عبد المهدي (أو إذا أعيد تكليفه مجدداً) مُلزماً بإتباعها.
ولأن الأزمة الحالية محصورةٌ ضمن إطار البيت الواحد، أي البيت الشيعي، فإن الحل مرهون باتفاق أركانه على خارطة حلٍّ بجدول زمني محدّد، مشخصة البنود والمعالم، تمنح رئيس الحكومة الجديد أريحية في التنفيذ، دون أي تدخلٍ أو ضغوط. لكن، لكل قوّةٍ من هذه القوى حساباتها. مقتدى الصدر، يمارس لعبته المعهودة. دخولٌ في الحكم، وتحقيق مكاسب ثم الانقلاب وركوب موجة الشارع. هذه المرّة، صارت لعبته مكشوفة وثمة سؤال كبير بإحتمال أن ترتد عليه في المرحلة المقبلة. هادي العامري وقيس الخزعلي ومن معهما، يراد تحميلهما المسؤولية الكاملة لما آلت إليه الأوضاع. حلفاء إيران، الذين يشكّلون عمادة الحكومة الحالية، وجدوا أنّهم في الحكم أمام قنبلةٍ موقوتة. لم يدركوا كيف يفككوها، بل ساهم الأداء المرتبك من قبلهم في تسريع إنفجارها وأن تطالهم شظاياها. عمار الحكيم، بخروجه إلى المعارضة وجد نفسه أفضل حالاً من غيره. لم ينتقل إلى الشارع بشكلٍ كامل، بل حافظ على خطوط الرجعة لأن طهران ترى فيه جزءاً من الحل، في ظل حديثٍ عن تنصيبه رئيساً لـ”تحالفٍ وطني” جامع، لكل المكوّنات العراقية، بهدف رعاية العملية الإصلاحية. نوري المالكي، متناقضٌ نوعاً ما، في العلن كان مع عبد المهدي، لكن في السر كان عكس ذلك، أملاً بعودةٍ إلى الحكم بناءً على وعودٍ التمسها من أطرافٍ عدّة، وهو ما يشاطره الشعور حيدر العبادي الآمل بأي شكلٍ بالعودة رئيساً للحكومة، وقد أظهر “تمرّداً” علنيّاً على قاسم سليماني، الذي حاول في المرحلة السابقة أن يدفع كل أهل “البيت الشيعي” للوقوف إلى جانب عبد المهدي، ومنع أي إطاحةٍ به، لكن معطيات الساعات الأخيرة، جعلت إستقالة عبد المهدي حتمية لا بل ممرا إلزاميا لأية محاولة لتدارك الموقف.
فما جرى من أعمال قتل، خصوصا في الناصرية والنجف الأشرف وقبلهما بغداد، يعتبر جريمة موصوفة، ويتطلب فتح تحقيق شفاف، أخذاً في الإعتبار ما قيل عن دور لعبته بعض المجموعات السياسية ـ الأمنية في ما جرى، وبأوامر من داخل الحدود العراقية أو من خارجها.
واشنطن، تدرك أن حكومة عادل عبد المهدي تجاوزت خطوطاً حمراء، عندما قررت إدارة وجهها صوب الصين على حساب الأميركيين. كذلك، أخذت على حكومة عبد المهدي أنها إنحازت علناً إلى طهران بالخيارات السياسية، ولم تراع التوازن الموجود في العراق بين الجانبين
وبالنسبة إلى الإيرانيين أيضاً، لا يمكن عزل ما يجري وخصوصا حرق القنصليات الإيرانية بصورة متعمدة، عن أصل الصراع الإيراني – الأميركي على العراق. وإذا كانت طهران قد تعاملت مع حكومة عبد المهدي المستقيلة بوصفها حكومتها منذ اليوم الأول حتى الأمس القريب، خصوصاً وأن الخدمات التي قدمتها الحكومة للإدارة الإيرانية، جليّة، فإن واشنطن، تدرك أن حكومة عادل عبد المهدي تجاوزت خطوطاً حمراء، عندما قررت إدارة وجهها صوب الصين على حساب الأميركيين. كذلك، أخذت على حكومة عبد المهدي أنها إنحازت علناً إلى طهران بالخيارات السياسية، ولم تراع التوازن الموجود في العراق بين الجانبين، وعليه، كان لا بد من سقوطها. معادلة، فرضت على واشنطن البحث عن بدائلٍ لتغيير المشهد العراقي، وهو موقف يستفز المكونات السياسية الشيعية العراقية، برغم التناقضات الكبيرة في ما بينها، ويعيدها إلى موقفها الرافض لأي “دورٍ تخريبي” تؤديه واشنطن في العراق.
ولعل أكثر ما يعقّد الأزمة العراقية، هو تعامل الخارج معها. فإيران تراها “مكيدة أميركية” ليس إلا، ويمكن عبورها بنفس الآليات المجرّبة (في إيران)، وتصر – وهي مخطئة حتماً – أن شكل العلاقة مع العراق بين عامي 2003 – 2019 ما يزال ممكناً. أما الولايات المتحدة، فتعتقد أن ما يحصل يشكّل “فرصة أفضل” للإطاحة بإيران في العراق، وأن أي تقليص للنفوذ الإيراني يقود تلقائياً إلى المزيد من ممارسة النفوذ المضاد.
حتى الآن، يرفض السيد علي السيستاني أي خيارٍ لـ”تدويل” الأزمة العراقية، أو أن يكون العراق مسرحاً لتصفية الحسابات الأميركية ـ الإيرانية، ويتمسّك بأن يكون الحل عراقيّاً جدّياً.
كل الإشارات توحي أن المرجعية منحازةً بشكلٍ كامل إلى التظاهرات السلمية ومطالبها المحقّة. فالحل، يبدو في ظل عجز طهران عن ضبط البيت الشيعي، ومحاولة واشنطن استغلال الموجة، هو حل عراقي، وبأدوات عراقية بإمتياز. ما عداه، سيكون المزيد “من نشر الفوضى والخراب والانجرار الى الاقتتال الداخلي ومن ثَمّ إعادة البلد الى عصر الدكتاتورية المقيتة”، على حد تعبير السيد السيستاني.