يحتل الحديث عن «طريق الحرير» اليوم حيزاً واسعاً من التقارير والريبورتاجات المتعلقة بالصين. نسمع بطريق الحرير «البري» و«البحري» و«المعولم» إلخ… والواقع أن هذا التطور في التسمية يعبّر نوعاً ما عن «أهداف» طريق الحرير بحسب ما تراها الصين: الخروج من العزلة الجغرافية التي يفرضها موقعها الجغرافي.
ولكن قبل الدخول في تفاصيل ما يقف وراء إطلاق مشروع طريق الحرير، لنرَ مصدر هذه التسمية التي تشير إلى «طريق التجارة بين الصين وبين الجنوب غرب آسيا الوسطى»، وقد اطلق هذه التسمية عام 1877 الجغرافي الألماني فرديناند فون ريتشهوفن.
هي أصلاً مجموعة طرق تنطلق من عواصم الامبرطورية الصينية، وابتدأ استعمالها منذ القرن الثاني قبل الميلاد، حيث كانت تسلكها قوافل البضائع المتوجهة إلى الشرق الأوسط، لتعود وينقلها تجار المتوسط إلى أوروبا. وبالطبع كان الحرير من أشهر المصنوعات الآتية من الصين والتي يرغبها التجار، ولا يعني هذا أن التوابل والمصوغات والمفروشات المصقولة (لاكيه أو برنيق) لم تكن تنقل عبر هذه الطرق.
كما أشرنا أعلاه فإن الصين محاصرة جغرافياً. ورغم أنها ليست في نزاع مع أي دولة «في الوقت الحالي» إلا أنها كدولة كبرى لا تستطيع ألّا تأخذ في الاعتبار هذا العامل الجيواستراتيجي، أكان ذلك من ناحية عسكرية أم من ناحية تجارية.
لكننا ذكرنا في الحلقة السابقة المأزق الجغرافي العسكري الذي تسببه سلسلة الجزر التي تمتد من جنوب اليابان إلى شمال تايوان أضف إلى ذلك أن هذه الجزر يمكن أن تشكل عائقاً أما تجارة بكين مع استراليا وتقطع «الوصل مع الجاليات الصينية التي يتزايد عددها في القارة الاسترالية (نشير هنا إلى أن كانبيرا قررت الحد من الهجرة الصينية إلى أراضيها).
كما ذكرنا أيضاً أهمية مضيقة «ملقة» للتجارة الصينية. الضرورة التجارية-الاقتصادية تحتم على الصين إبقاء طرق مواصلاتها مع أوروبا أكبر سوق عالمية مفتوحة، وبالتالي عليها أن تمر عبر قناة السويس أو «رأس الرجاء الصالح» في أفريقيا الجنوبية، والوصول إليها لا يمكن إلا عبر مضيق ملقة.
حتى وإن «فرضت» الصين عبور سفنها في هذا المضيق الذي يرى 60 في المئة من السفن التجارية تعبره (بما فيها ناقلات النفط هذه المادة الحيوية جدا للمصانع الصينية)، فهي ستمخر بعد ذلك بموازاة الشواطئ الهندية الغريم والمنافس التجاري المقبل.
من هنا انطلقت أولى بنات أفكار المسؤولين عن إيجاد حلول استراتيجية لهذه المعضلة، وتذكروا طريق «كراكوروم» وهو طريق استراتيجي عسكري تم انشاؤه ما بين عامي 1966 و1978، ويربط كسينغ جيانغ (تركستان الشرقية الصينية حيث الغالبية من المسلمين) بباكستان، وهو يعبر جبال الهملايا على ارتفاع 4635 متراً عن سطح الأرض.
وكان هذا الطريق مقفلاً بسبب انهيار ممر على قمة «جيلجت». من هنا بدأت المحادثات بين الحكومتين لإعادة إحياء هذه الطريق، واطلقت الأشغال عام 2015 تحت شعار «الممر الاقتصادي بين باكستان والصين» (China Pakistan Economic Corridor)، والذي يشمل إضافة إلى إعادة تأهيل طريق كراكوروم، إطلاق مجموعة مشاريع صناعية على طول الخط من مدينة «كشغار» إلى مرفأ «غوادر» على بحر العرب. وتشمل المشاريع إيصال خط حديدي ينطلق من إسلام آباد إلى كراتشي. وقدرت التكاليف بـ 62 مليار دولار. وهذه المشاريع ما زالت قيد الإنشاء، وتسلك الطريق شاحنات تنطلق من الصين ليتم إفراغ حمولتها في المرفأ الباكستاني ليعاد شحنها إلى الشرق الأوسط وأوروبا.
هكذا بات للصين موطئ انطلاق في بحر العرب في مرفأ غوادر وميناء في المياه العميقة حيث تنتشر رافعات على رصيف طوله 600 متر، وتنقل البضائع إلى بواخر تبحر نحو أفريقيا وتعبر قناة السويس إلى المتوسط.
بموازاة العمل على دعم علاقاتها مع باكستان، كانت الصين تعتمد أيضاً على « منظمة شانغهاي للتعاون» التي تضم ست دول آسوية: الصين، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وروسيا، وطاجيكستان، وأوزبكستان. وكان طريق الحرير التاريخي يعبر تلك الدول، التي تحتاج إلى استثمارات كبيرة في المنشآت وهيكليتها والبنى التحتية، رغم كونها مصدّرة للطاقة، وهو ما يمكن أن يسد الطلب الصيني على النفط والغاز.
وأطلقت الصين مبادرة عبر هذه المنظمة للدفع بمشروعها الكبير للبنى التحتية تحت تسمية «الحزام والطريق» والمشكّل من مجموعة طرق تعبر كل هذه البلدان لتصل إلى أوروبا.
وتستثمر بكين مليارات الدولارات في البنى التحتية على طول «طريق الحرير الجديد» الذي يربطها مع أسيا الوسطى وأوروبا، ويشمل بناء مرافئ وطرقات وسكك حديد ومناطق صناعية.
وبحسب الإعلانات والبيانات والاتفاقيات التي يوقعها الرئيس جين بين تشي، فهذا المشروع الضخم يطال 68 دولة بتكلفة تتجاوز التريليون دولار. وقد تجاوز المشروع حدود أوراسيا ليضم بحسب الخطوط البحرية أفريقيا، وأميركا اللاتينية، ومنطقة الكاريبي، ومنطقة جنوب الباسيفيك، إذ أن المشروع بات يتضمن فرعين رئيسيين وهما «حزام طريق الحرير الاقتصادي البري» و«طريق الحرير البحري».
هذه المشاريع الضخمة جداً تُموَّل بواسطة استثمارات وقروض من الحكومة الصينية التي تقدمها للشركات الصينية العاملة على مد شبكات الطرق وخطوط السكك الحديد.
ولكن لهذا المشروع منتقديه من الدول الكبرى المنافسة للصين، كالولايات المتحدة والهند واليابان إلى جانب قسم من أوروبا (إيطاليا واليونان انضمتا إلى المبادرة ووضعتا تحت تصرف طريق الحرير البحري مرفأين)، وهي تأخذ على هذه المشاريع المدعومة أنها مخصصة للشركات الصينية (عمال ومواد أولية ومعدات) ولا يتردد البعض في الإشارة إلى أنها تشكل «فخ ديون» للدول المستفيدة منها ناهيك عن إضرارها بالبيئة.
علاوة على ذلك، فإنّ الشفافية غائبة بشأن كافة هذه المشاريع إذ أن كافة المتنفذين والمتعهدين هم شركات صينية، والتمويل يأتي من مصارف صينية، في وقت يتخوف البنك الدولي من أن تقع الدول الإفريقية الفقيرة فريسة للديون المتراكمة لصالح الصين بسبب تعهداتها.
كما يثير المشروع حفيظة المعارضين في بعض الدول التي ترى أن اقتصاد دولها بيد مجموعة شركات صينية هي في الواقع ممثلة للحكومة الصينية.
على سبيل المثال فإن باكستان تسد ديونها عبر تصدير القطن الذي يذهب إلى المعامل الصينية ليعود ويصدر إلى أوروبا وأميركا… لينافس المنسوجات الباكستانية.
ويرى المراقبون أن معظم الموظفين العاملين في مواقع محطات الطاقة في هذه المشاريع هم صينيون وحتى المواد تأتي من الصين، دون أن تستفيد الصناعات المحلية.
وكذلك الأمر في أفريقيا التي يعبرها طريق الحرير البحري بعد أن يمر إما في بحر العرب كما رأينا أعلاه أو عبر فيتنام في حال عبر مضيق ملقة أو إندونيسيا جنوباً وهي من أسباب هجمة الصين على بحر الصين الجنوبي، ومن ثم نحو جزر المالديف وبعدها شمالاً نحو شرق أفريقيا على طول الساحل الأفريقي، متجهاً إلى البحر الأحمر، ماراً عبر قناة السويس إلى البحر الأبيض المتوسط.
في النهاية يتبين أن طريق الحرير الذي بدأ كمحاولة نفاذ من الحصار الجغرافي الذي تقع فيه الصين، بات مشروع «هيمنة اقتصادية» على الدول الصغيرة التي تعبره، ولا يتردد البعض في القول إن القلق المتزايد من تداخل الاستثمارات الصينية في المنشآت ووسائل المواصلات الكبرى، قد يشكل خطراً على اقتصاديات تلك الدول، وفي حال توقف البنك الدولي عن دعم هذه الدول فإن الصين يمكن أن تخسر قسمآً كبيراً من استثماراتها هذه.
هذا القلق يجترح أيضاً قسماً من الفريق الحاكم إلى جانب تشي، وقد بدأت بوادر نوع من التململ من هذا الاندفاع الضخم خارج البلاد، في حين أن الداخل يحتاج إلى هذه الاستثمارات.
* كاتب وباحث متخصص بالشؤون الآسيوية في معهد الدرسات والثقافات الشرقية (Inalco–Paris)
إقرأ أيضاً:
– اقتصاد الصين نقاط الضعف والقوة
– الجيوستراتيجيا في محيط الصين
يتبع
– تشي وميزان القوى داخل حلقة القيادة