أولاً؛ أن تكون العملية الإسرائيلية بمثابة اختبار لمسرح العمليات واستطلاعا بالنار لاختبار مكامن القوة والضعف في منظومات الدفاع الإيرانية؛ خصوصاً الجوية منها؛ علاوة على انجاز تمهيد عملياتي متدرج استباقاً لاستهدافات استراتيجية عنيفة مستقبلاً، أي تكرار سيناريو الجبهة الشمالية مع لبنان؛ عندما عمد الجيش الإسرائيلي إلى استنزاف متدرج للقدرات الدفاعية والهجومية للمقاومة في لبنان على مدى سنة كاملة من “جبهة الإسناد”، بعد عملية “طوفان الاقصى”، ومن ثم الانتقال إلى مرحلة الحرب الفعلية بغية تحقيق أهداف إستراتيجية أبرزها منع “7 أكتوبر” اللبناني بعنوان (إعادة مستوطني الشمال)، بالتوازي مع أداء دبلوماسي خادع ومضلل، أميركي وإسرائيلي؛ وحملات إعلامية ترمي إلى التشتيت وخلط الأوراق بما يجعل صانع القرار في الجبهة المقابلة فاقداً للتركيز أو القدرة على الحسم؛ فالخطاب السياسي الأميركي الذي تهيمن عليه مفردات التهدئة والحلول الدبلوماسية وخفض التصعيد يتناقض تماما مع انفلات الالة العسكرية الإسرائيلية المدعومة أميركيا؛ والتوسع في مسارات النار في غير جبهة على مستوى الشرق الأوسط، ما يعني أن ابقاء دينامية المفاوضات مستمرة صار جزءاً لا يتجزأ من الحملة الانتخابية للمرشحة الديموقراطية كامالا هاريس.
دخول إسرائيل الحرب ضد غزة ولاحقاً لبنان، أتاح لإيران الفرصة والمساحة الزمنية على مدى سنة لدراسة الاستراتيجات الإسرائيلية المطبقة على المستويين العسكري والأمني، واستجلاء العبر والدروس، ليصار إلى تكييف الاستراتيجيات الإيرانية مع التطورات والمستجدات، تمهيداً لمواجهة الأخطار الإسرائيلية المحدقة والداهمة
ثانياً؛ تأتي الضربة الإسرائيلية قبيل أيام من موعد الانتخابات في واشنطن (اليوم)؛ ومن المحتمل ان نتنياهو الذي يجيد اللعب على التناقضات الأميركية أراد توجيه ضربة متأرجحة لإيران؛ بمعنى أنها ضربة ترضي في هذه اللحظة السياسية طرفي اللعبة السياسية الأميركية؛ وتحقق معادلة الردع بحدودها الدنيا إسرائيلياً. استبق نتنياهو نتائج الانتخابات بفعل عسكري نشط لا يفضي إلى اندلاع حرب إقليمية كبرى؛ فالادارة الأميركية لن تكون جاهزة في هكذا لحظة للولوج في أي حرب ولا سيما مع إيران؛ فضلاً عن إدراك الرجل لخارطة الأولويات الإستراتيجية لكلا الحزبين في واشنطن. فعمد إلى ضربة عسكرية لطهران؛ لا تتنافى نتائجها مع اتجاهات ستسلكها الإدارة الأميريكية الجديدة؛ أياً كانت أولوياتها الإستراتيجية.
تجدر الاشارة هنا إلى أن الحزب الديموقراطي يرى في الحرب الروسية الاوكرانية أولوية تفرض نفسها في الساحة الدولية؛ فاذا ما نجح هذا الصراع في استنزاف روسيا وعزلها؛ ستتعزز الفرص لاحتواء الصين بعد أن خسرت حليفتها موسكو؛ وفي آخر السلم تأتي إيران التي يريد الديموقراطيون إحتواءها بغير الحرب، إلا أن ذلك لا يعني انعدام فرص إعادة ترتيب الأولويات الديموقراطية بعد الانتخابات.
أما الجمهوريون فبعد أن كانت أولويتهم المتصدرة تتمثل في مواجهة التحدي الصيني؛ بات الشرق الأوسط لا يقل أهمية؛ خصوصاً بعد “طوفان الأقصى” وما شكّله من تهديد وجودي لإسرائيل؛ ومن انقلاب في مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي ومن وراءه الأميركي، وتأتي قضية احتواء موسكو في موقع يلي قضيتي تايوان والشرق الأوسط في سلم الاهتمامات الدولية الكبرى بالنسبة إليهم.
بناء عليه؛ لن تغضب الاستهدافات الإسرائيلية المحدودة لإيران لا الحزب الديمقراطي، طالما أنها انضبطت تحت سقف عدم استهداف المنشآت النووية والنفطية؛ وبالتالي لن يكون لها تأثيرات بارزة على الانتخابات الأميركية؛ فلا ارتفاع في أسعار الطاقة؛ ولا استدراج نحو حرب كبرى في لحظة فارقة انتخابياً، وفي حال فاز الديمقراطيون؛ وكان تموضعهم الإستراتيجي يقضي بإنهاء التوتر في الشرق الأوسط؛ فإن نتنياهو نفذ ضربته لإيران وحافظ على موازين الردع، وفق حساباته ويبقى الرد الإيراني المؤجل إلى ما بعد الانتخابات وله حساباته.
أما إذا وصل الجمهوريون إلى سدة البيت الأبيض؛ فإن احتمالات المضي في الحرب وتوسعتها؛ ستغدو أكبر؛ وهنا تتحول الضربة الإسرائيلية إلى ضربة تمهيدية واستعلامية. البنية العميقة في واشنطن قد ترى بأن اللحظة الإستراتيجية سانحة لتحقيق تفوق ردعي إسرائيلي في المنطقة؛ ومن ثم اعادة بناء ديناميات النفوذ والهيمنة الأميركية المحكمة على امتداد منطقة غرب آسيا؛ وهو ما عناه نتنياهو وبعض المتماهين معه أميركياً؛ عندما تكلموا عن “الشرق الأوسط الجديد”، مما يرفع احتمالات إعادة الكرة في توجيه ضربات عنيفة لطهران، ولا سيما أن احتمالات التدحرج متوفرة طالما أن طهران قرّرت الرد على الضربة الإسرائيلية.
أوراق إيران
ازاء التهديدات الإسرائيلية الوشيكة والجدية لاستهداف إيران واستنزافها، تملك طهران مجموعة من أوراق القوة، فعلاوة على هياكل القوة التقليدية وغير التقليدية التي تتمتع بها، ثمة عناصر أساسية ينبغي الإشارة إليها لما تمثله من مؤشرات هامة في قراءة توازنات القوة ومالآت الصراع:
أولاً؛ تشي القراءة التاريخية للشخصية الإيرانية، بأنها تتسم بالتركيب والصلابة؛ فقد تضافرت عوامل تاريخية وحضارية متراكمة لبلورة خصائصها وانضاج معالمها، وهي تقوم على ثلاثية: الإنسان والبيئة والعقيدة. تعتز الشخصية الإيرانية بإرثها التاريخي؛ المشحون بدوافع محفزة لصنع الأمجاد؛ والالتفاف حول الهوية الحضارية التي تُعبر عن بصمة يتداخل فيها القومي بالديني؛ لتتشكل خلطة سحرية عصية على الرضوخ للتهديدات الخارجية؛ يُعزّز ذلك أيضاً البعد العاطفي العقائدي مما يضفي صلابة أكبر في مواجهة محاولات التهديد والاحتواء.
تشير بعض الدراسات الأميركية إلى أن اغلاق مضيقي المندب وهرمز قد يكون بمثابة استخدام للسلاح النووي على مستوى النتائج خصوصاً على الاقتصاد العالمي؛ إذ أن ثلثي التجارة الدولية وصادرات الطاقة العالمية تمر عبر هذين المضيقين
لقد حاولت الولايات المتحدة جاهدة ولسنوات عبر قواها الناعمة توسيع الفجوة بين أجيال الثورة؛ وإحداث تباعد بين تطلعات الجيل الشاب والأهداف التي قامت على أساسها الجمهورية الإسلامية؛ قد تكون نجحت هذه المساعي نسبياً؛ إلا أنها اصطدمت عند كل استحقاق يتعلق بالأمن القومي الإيراني أو المصالح الكبرى بإلتفاف القاعدة الشعبية حول النظام ومبررات وجوده، فثنائية القومي والعقائدي تعود لتنتج حالة من الوحدة الصلبة والمتماسكة عند كل تحد يرمي للإطاحة بالجماعة التي تنظر إلى نفسها من منظور حضاري مشبع بالبعدين الديني والقيمي المحرض على مواجهة التهديد الخارجي، لذا فإن الرهان على اطاحة النظام من الداخل بالتزامن مع ضربات قاسية تقوم بها إسرائيل ليس مجدياً؛ بل إن التجربة التاريخية تشير إلى عكس ذلك.
ثانياً؛ تسيطر إيران على مضيق هرمز تبعا لموقعها الجغرافي الذي يحظى بالأهمية والتمايز على خليج فارس وبحر العرب؛ كما أن لطهران تأثيرها الوازن في مسارات القرار السياسي المسيطر على مضيق باب المندب نظراً لتحالفها الإستراتيجي مع الحوثيين في اليمن. لم يتسن لأي إمبراطورية أو قوة إقليمية في التاريخ أن تحكم السيطرة على كلا المضيقين في آن معا؛ باستثناء البرتغال التي أتيح لها ذلك لفترة وجيزة.
وتشير بعض الدراسات الأميركية إلى أن اغلاق مضيقي المندب وهرمز قد يكون بمثابة استخدام للسلاح النووي على مستوى النتائج خصوصاً على الاقتصاد العالمي؛ إذ أن ثلثي التجارة الدولية وصادرات الطاقة العالمية تمر عبر هذين المضيقين. لن يكون من السهل على إيران أن تتخذ قراراً بإغلاق المضيقين كلياً بالتعاون مع حليفها اليمني؛ بيد أنها قد تلجأ لهكذا خطوة إذا وجدت نفسها في موقع من لا يملك ترف الخيارات.
تعتز الشخصية الإيرانية بإرثها التاريخي؛ المشحون بدوافع محفزة لصنع الأمجاد؛ والالتفاف حول الهوية الحضارية التي تُعبر عن بصمة يتداخل فيها القومي بالديني؛ لتتشكل خلطة سحرية عصية على الرضوخ للتهديدات الخارجية
ثالثاً؛ إن دخول إسرائيل الحرب ضد غزة ولاحقاً لبنان، أتاح لإيران الفرصة والمساحة الزمنية على مدى سنة لدراسة الاستراتيجات الإسرائيلية المطبقة على المستويين العسكري والأمني، واستجلاء العبر والدروس، ليصار إلى تكييف الاستراتيجيات الإيرانية مع التطورات والمستجدات، تمهيداً لمواجهة الأخطار الإسرائيلية المحدقة والداهمة. مما سيمكن طهران من امتلاك قدرة تكيفية مرنة تخولها امتصاص أي ضربات قد تطال الهيكل القيادي، وتمتين بنية الضبط والتوازن (check and balance)، عبر آليات استدامة مرنة للحفاظ على استقرار النظام تحت وطأة الضغط العسكري المحتمل، والاستنزاف الشديد لأصوله وقدراته.
في الختام يُمكن القول إن إيران تمتلك رؤية استراتيجية، مكّنتها من تحقيق مكانة الدولة المركز في فضاءها الإقليمي المتعدد، وجعلتها تحبط جهوداً أميركية امتدت لعقود من الزمن في سبيل عزلها وتهميشها، فتحولت طهران إلى مركز جذب جيوستراتيجي في المنطقة، ومن ثم يمكن القول إنه ليس من السهل الاطاحة برأسها عبر مجموعة من الضربات العسكرية الجوية مهما كانت ساحقة، نعم قد يصيب بنيانها التضعضع، إلا أن ذلك يعني أن فراغاً مركزياً سوف يبدأ بالتبلور، ونتيجته الحتمية نشوب دوامات عنف وفوضى بحلتهما الممنهجة وغير الممنهجة، فإذا كانت واشنطن قد خرجت من الشرق الأوسط بعد عشرين عاماً من غزو أفغانستان والعراق، بدون أن تحقق أياً من أهدافها الكبرى، وبعد أن تكبدت كلفة بشرية واقتصادية عالية، فهل سيقوى المشروع الأميركي-الإسرائيلي على الولوج مجدداً إلى دوائر الحرب بكافة أشكالها التقليدية وغير التقليدية في ظل سيولة الفراغ واللانظام؟