لطالما شكّل جثمان لينين مادة دسمة في الحياة السياسية في روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، في مختلف محطاتها، ولا سيما في المعارك الأكثر حدّة التي شهدتها سنوات التسعينيات الصعبة.
قبل عشرين عاماً، كان الجثمان في قلب العاصفة السياسية خلال المرحلة الانتقالية التي أفضت إلى انتقال السلطة في روسيا الاتحادية من بوريس يلتسين إلى فلاديمير بوتين ليلة رأس السنة 1999-2000.
في محاولة لتوجيه ضربة معنوية كبرى للشيوعيين، الذين تزايدت شعبيتهم بشكل غير مسبوق منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وُضعت خطة دقيقة في الكرملين لدفن لينين، كان يفترض، بموجبها، أن ينقل جثمانه من الساحة الحمراء تحت جنح الظلام إلى مقبرة فولكوفسكوي في سانت بطرسبورغ.
كانت الخطة تشبه، إلى حد كبير، خطة اعتُمدت قبل أربعة عقود، لنقل جثمان جوزيف ستالين من الضريح ودفنه عند جدار الكرملين، إن في طابعها السرّي والمفاجئ، أو في توظيفها السياسي، فكما أن نيكيتا خروتشوف أراد تكريس الانقلاب على الزعيم السوفياتي بدفن جثمانه، سعى بوريس يلتسين للقيام بالأمر ذاته مع قائد الثورة البروليتارية، أو بالأصح مع ورثته الذين راحوا يشكلون خطراً على حكمه، بتنامي حضورهم السياسي، إن في الدوما أو في حكومة يفغيني بريماكوف، لا بل عليه مستقبله الشخصي، بعد فتحهم معركة توجيه الاتهامات بحقه في البرلمان.
في الواقع، لم تكن هذه المحاولة الأولى لنقل جثمان لينين من الساحة الحمراء، فأول من اقترح ذلك، في العام 1991، كان أناتولي سابتشاك، العمدة الأول لمدينة سانت بطرسبورغ، الذي يُنظر إليه باعتباره العرّاب السياسي لفلاديمير بوتين في بداية التسعينيات، ومع ذلك لم يكن أحدٌ ليجرؤ على على التنفيذ، خشية المواجهة الحادة مع الشيوعيين.
في نهاية المطاف فشلت خطة التخلص من الجثمان، نتيجة تعقيدات قانونية وسياسية في آنٍ معاً، ذلك أن التشريع القانوني كان يفرض شرطاً من ثلاثة، كان من الممكن أن يؤدي خرقها إلى توجيه تهمة جنائية إلى متخذي القرار، وعلى رأسهم بوريس يلتسين: الحصول على موافقة ورثة لينين الذين رفضوا بشكل قاطع دفن الجثمان؛ أن يعيق الجثمان سير المواصلات العامة وهو ما لا ينطبق على الضريح الواقع في الساحة الحمراء؛ أو أن يصدر قرار من السلطات المحلية بالنقل، لاعتبارات صحّية أو بيئية، وهو خيار لم يكن واقعياً في تلك الفترة، خصوصاً أن رئيس بلدية موسكو يوري لوجكوف، الذي رحل قبل أيام، كان قد دخل في معركة سياسية حادة ضد يلتسين وحاشيته على وراثة “الرئيس الضعيف”.
منذ ذلك الحين، تلاشي الخطر، نسبياً، عن جثمان لينين، بعدما حوّلت حاشية يلتسين المعركة ضد يفغيني بريماكوف، حليف الشيوعيين، ولكن الجدل ظل قائماً على مستوى النخبة السياسية والأكاديمية والإعلامية، تحت عناوين تفاوتت بين الايديولوجيا، والتاريخ، والسياسة… والمال! (الكلفة الباهظة للعمليات الدورية الضرورية للحفاظ على الجثمان وحمايته من التحلل).
بالأمس، تناول بوتين مجدداً مسألة الجثمان، حين رد على سؤال وُجّه إليه حول موقفه من لينين، خلال المؤتمر الصحافي السنوي الكبير: “في رأيي، لا حاجة إلى المسّ به، ما دام هناك الكثير من الأشخاص الذين يربطون حياتهم الخاصة، ومصيرهم، وبعض إنجازات السنوات السوفياتية السابقة به. والاتحاد السوفياتي، بشكل أو بآخر، مرتبط بالتأكيد بزعيم البروليتاريا العالمية، فلاديمير إيليتش لينين. لذلك، ما الحاجة إلى إثارة هذه المسألة؟ ثمة حاجة إلى المضي قدماً، وبنشاط، نحو التطوير”.
بوتين حول المطالبات بإزالة ضريح لينين: “في رأيي، لا حاجة إلى المسّ به”
بذلك، بدا بوتين أقرب إلى براغماتية الكسندر فولوشين، رئيس ادارة الكرملين في عهد بوريس يلتسين، حين بسّط موقفه من الجدل حول جثمان لينين في نهاية التسعينيات بالقول: “لا يبعد الجثمان عني أكثر من 15 متراً كخط مستقيم. هو يرقد هناك وأنا أعمل هنا. ولا يزعج أحدنا الآخر”.
لكنّ موقف بوتين من لينين يتجاوز بكثير قضية الضريح، بكل ما تحمله من رمزية، فجوهرها هو نقد التجربة اللينينية، ولا سيما أن بعضاً من فصولها لا تزال روسيا تحمل إزره حتى اليوم.
العنوان المركزي في النقد البوتيني، يتصل بـ”الصيغة اللينينية” التي حددت في نهاية المطاف نظام الحكم في الاتحاد السوفياتي، وتُعتبر بنظر كثيرين من مسببات الانهيارات التي شهدتها روسيا في الأزمنة الصعبة أعقبت “زلزال العصر” في مطلع التسعينيات.
هذا ما شرحه بوتين بإسهاب، يوم أمس، حين سئل عن موقفه من قائد الثورة البرولتيارية: “عندما نتحدث عن تاريخ دولتنا، الذي دام ألف عام، تعلمون أنها كانت دولة وحدوية مركزية. ماذا اقترح فلاديمير ايليتش لينين؟ لقد اقترح في الواقع ليس فدرالية بل كونفدرالية. وبقراره هذا، تم ربط المجموعات العرقية بأقاليم محددة، حصلت على الحق في الانفصال عن الاتحاد السوفياتي”.
وأضاف “انظروا إلى ما حدث، دولة مركزية بشكل صارم تتحول إلى كونفدرالية في الواقع، مع إقرار حق الخروج، وربط المجموعات العربية بالإقليم… حتى المناطق كانت مقسمة بطريقة لم تتوافق دائماً مع أماكن الإقامة التقليدية لشعوب مختلفة. لذلك، نشأت على الفور نقاط الألم، وهي لا تزال موجودة، سواء بين الجمهوريات السابقة في الاتحاد السوفياتي أو حتى داخل روسيا الاتحادية”.
وذكّر بوتين بأن “ستالين، بالمناسبة، كان ضد مثل هذه المنظومة، حتى أنه كتب مقالا عن الحكم الذاتي، ولكن في النهاية، تم تبني الصيغة اللينينية. وماذا حدث؟ الآن، أتحدث أنا وزميل من أوكرانيا عن العلاقات الثنائية، ولكن حين أنشئ الاتحاد السوفياتي، تم نقل الأراضي الروسية الأصلية، التي لم تكن لها أية علاقة بأوكرانيا على الإطلاق (منطقة البحر الأسود بأكملها والأراضي الغربية لروسيا) بتركيبة غريبة (لزيادة نسبة البروليتاريا في أوكرانيا)، لأن أوكرانيا كانت حينها منطقة ريفية، وكان يُعتقد أنها تضم ممثلي البرجوازية الصغيرة للفلاحين، وقد تم تجريدهم من الممتلكات في جميع أنحاء البلاد. هذا قرار غريب إلى حد ما. ومع ذلك ، فقد حدث. هذا هو كل ما تركه بناء الدولة لفلاديمير إيليتش لينين، والآن نحن مضطرون للتعامل مع كل ذلك”.
العنوان الثاني لنقد اللينينية، هو اعتماد مبدأ “الحزب الواحد”، فالبلاشفة، برأي بوتين، “ربطوا مستقبل البلد بحزبهم، وبمجرد أن تصدع الحزب، بدأ البلد في الانهيار”.
علاوة على ذلك، يضيف بوتين: “كما تعلمون، لقد عملتُ لفترة طويلة في مجال الاستخبارات، وكنتُ جزءاً لا يتجزأ من منظومة مسيسة للغاية في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتي – الكي جي بي… يمكنني أن أقول اليوم، انطلاقاً من تجربتي، أنه، بالإضافة إلى المكون الإيديولوجي، كانت هناك مكوّنات جيوسياسية لم تؤخذ في الاعتبار عند إنشاء الاتحاد السوفياتي. كل ما حدث كان مسيساً للغاية في ذلك الوقت. بدأ الحزب في الانهيار وسقطت البلاد وراءه. لقد كان ذلك خطأً أساسياً ومطلقاً في بناء الدولة”.
ربط السوفيات مستقبل روسيا بحزبهم، وبمجرد أن تصدع الحزب، بدأ البلد في الانهيار
برغم ذلك، لا يسعى بوتين إلى القطيعة مع الحقبة السوفياتية، لا بل انه “يأسف لأنه لم يعد يوجد اتحاد سوفياتي”، وهو ما كرره بالامس.
يقرّ بوتين بحقيقة أنه “خلال الحقبة السوفياتية تم إنجاز الكثير مما يمكننا أن نفخر به وما زلنا فخورين به: النصر في الحرب الوطنية العظمى، والتقدم نحو الفضاء، وما إلى ذلك من إنجازات”، مشدداً على أنه “ينبغي أن نكون ممتنين لأسلافنا وآبائنا وأجدادنا الذين خلقوا خلال هذه الحقبة السوفيتية قوة هائلة وقوية”.
هذا ما يدفعه على سبيل المثال إلى اعتبار أن “وضع الاتحاد السوفيتي وألمانيا النازية على مستوى واحد”، كما فعل البرلمان الأوروبي، هو “ذروة السخرية”، فهو يعكس أن “ثمة أناس لا يعرفون التاريخ، ولا يمكنهم القراءة والكتابة”، مسطرداً “دعهم يقرؤوا وثائق ذلك الوقت، ودعهم يرون كيف تم توقيع ما يسمى باتفاق ميونيخ في عام 1938 ، عندما عقد قادة الدول الرائدة – فرنسا وبريطانيا العظمى – اتفاقية مع هتلر بشأن تقسيم تشيكوسلوفاكيا”.
بذلك، يكرّس بوتين تموضعاً تاريخياً ينطلق من فهم خاص للتاريخ، يجعل من الحقبة السوفياتي مرحلة انتقالية غير قاطعة بين الحقبة القيصرية، وبين حقبة معاصرة، افتتحت بوصوله إلى الحكم قبل عشرين عاماً، ويصطلح البعض على تسميتها بحقبة “المشروع الأوراسي”، والتي تزاوج بين إرث الدولة الروسية القيصرية، وبين إرث الدولة السوفياتية الاشتراكية، وتتماهى مع المتغيرات في المشهد الجيوسياسي العالمي، لجهة زوال الهيمنة الأحادية العالمية، أو الأحادية القطبية، والتي أكد بوتين بالأمس أنها “انتهت بالفعل”.