ليس تفصيلاً اغتيال الجنرال قاسم سليماني. الرجل بكل ما يمثله من موقع ودور، كان يقبض على خارطة المنطقة من بحر قزوين في وسط أسيا شرقاً.. حتى شواطئ البحر الأبيض المتوسط غرباً. وليس تفصيلاً أن تقصف طهران أيضاً قواعد أمريكية في العراق كرد فعل على هذا الاغتيال.
لطالما عرفت طهران وواشنطن حدود القدرة وحدود القوة وموازينها في لعبة دقيقة مارسها بإتقان على مدار 17 سنة منذ الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003م. وهو تاريخ ميلاد الفراغ الاستراتيجي في المنطقة، يوم أسقط النظام الإقليمي في ثقب أسود مظلم.
طلاسم إيران أكثر وضوحاً اليوم. رفع العقوبات الاقتصادية عنها وخروج الجيش الأمريكي من المنطقة. هدفان جاءا على لسان رأس السلطة في طهران: علي خامنئي. غير أن ألغاز أمريكا الدولة لا تزال صعبة الحل.
المحير هو موقف المؤسسة الأمريكية العميقة التي تعرف حق المعرفة دور سليماني وموقعه في محوره الممتد من غزة إلى طهران. فإذا كنا نتكلم عن النفوذ الإيراني في المنطقة العربية وبأن يد طهران تصل بيروت ودمشق وبغداد، فنحن نتكلم عن يد قاسم سليماني تحديدا أو ما يسمونه “أيقونة الحرس الثوري” أو “رمز تصدير الثورة”، بحسب موقع القارئ العربي من الرجل.
لذلك، تكثر الأسئلة حول آلية صناعة القرار الأمريكي عند محاولة الاقتراب من الأهداف الاستراتيجية. يكفي متابعة الإعلام الأمريكي وتصريحات بعض المسؤولين لنجد أن الإجماع حول عملية الاغتيال غير متوفر. ناهيك عن المكاسب السياسية المتوخاة لهذه العملية كما صرحت نانسي بيلوسي زعيمة الأغلبية الديمقراطية في الكونغرس.
طبيعة الخطاب الأمريكي تشي بأن استراتيجيتها تجاه طهران، إن وجدت، تدحرجت من تغيير النظام الى تغيير قواعد الاشتباك. قبول الإدارة الأمريكية بضرب قواعد عسكرية أمريكية، بقرار علني، للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، يعني الكثير
يكمن اللغز الأول والأهم عند الرئيس الأمريكي دونالد ترمب. صاحب شعار “أمريكا أولا” يغوص في النزاعات الشرق أوسطية من بوابة الاغتيال السياسي. وليس من بوابة الحرب أو الحوار كما عودتنا الإدارات الأمريكية السابقة (الاغتيالات السياسية يقوم بها الذراع المكلف، جهاز المخابرات الأمريكية بعد أخذ موافقة الرئيس سراً).
أما اللغز الثاني عند واشنطن، فيتجسد في الرد على الرد العسكري الإيراني. طبيعة الخطاب الأمريكي تشي بأن استراتيجيتها تجاه طهران، إن وجدت، تدحرجت من تغيير النظام الى تغيير قواعد الاشتباك. قبول الإدارة الأمريكية بضرب قواعد عسكرية أمريكية، بقرار علني، للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، يعني الكثير. والأكيد أن لا تغيير جوهرياً في موازين القوى بعد الاغتيال. التبديل هو في قواعد الاشتباك. هذه هي الخلاصة الوحيدة الممكن تثبيتها.
أما اللغز الثالث، فيكمن في العلاقة بين ترمب وأعضاء إدارته وتحديدا نائبه مايك بنس. فبحسب ما ذكرته صحيفة “واشنطن بوست”، أن الرئيس ترامب تعرض الى ضغط شديد من نائبه ووزير الخارجية مايك بومبيو. في إشارة الى أن الحلقة حول الرئيس أصبحت شديدة الضيق. وأن قرار الاغتيال “جاء في بيئة ساخنة وعقول حامية”، على حد وصف الصحيفة الأمريكية.
تنقلنا الأجواء في البيت الأبيض الى اللغز الرابع والأكثر خطورة. غياب التوافق على استراتيجية أمريكية تجاه الشرق الأوسط بين مؤسسات الدولة العميقة. بل يكاد ينحصر الاتفاق على أن الفراغ في المنطقة يصرف طاقات أمريكا المالية والعسكرية من دون مردود، ما يؤشر الى أن أمريكا تنزف استراتيجياً بسبب اللعبة واللاعبين أنفسهم في الملعب ذاته، أي العراق.
هذه الجولة المخيفة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران إنتهت بتعادل صفري في ميزان السياسة حتى الآن. أما في الإستراتيجيا، فمعادلة توازن الرعب الحالية لا يمكن ان تشكل نظاماً إقليمياً ثابتاً
صحيح أن هذه الجولة المخيفة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران إنتهت بتعادل صفري في ميزان السياسة حتى الآن. أما في الإستراتيجيا، فمعادلة توازن الرعب الحالية لا يمكن ان تشكل نظاماً إقليمياً ثابتاً. هي ببساطة إرهاصات النظام القادم والمجهول المعالم. عندها تجب الخشية من المبادرات الآتية بلا محالة.
في خضم فراغ استراتيجي يأكل المنطقة العربية حالياً، يصبح التكهن بالمستقبل أكثر واقعية بالرجوع الى الأساسيات. اللجوء الى ما نعرفه. فالدول تتكلم بلغة المصالح. وموازين القوى تحددها القدرات لا الرغبات. هناك مثل يستعيده الأمريكيون في أوقات الفوضى أو الغفلة: (Get Back to Basics) أي الرجوع الى الأساسيات. والمقصود بالأساسيات هي مجموعة الأركان المعرفية والمفاهيم العلمية. الأساس كنقطة الانطلاق بالتحليل والاستنتاج في رحلة البحث عن التوازن الإقليمي وسط الفراغ.
يتفق العرب مجتمعين، مراقبين ومحللين، ممانعين ومعتدلين، أن ما تشكو منه منطقة الشرق الأوسط اليوم هو غياب نظام إقليمي جامع مانع للتدخلات الخارجية. وأن هذا الفراغ يستجلب العنف والتطرف والتدهور الاقتصادي والإجتماعي، ناهيك عن طمر القضية الفلسطينية تحت أكوام من الصراعات القطرية.
ويعرف العرب أن السلاح أصبح يدير السياسة بحجة الهواجس الأمنية لا المصالح. لتبرز المحاور السياسية بدلا من الحوار السياسي. فالدول العربية لا تتحدث مع شقيقاتها. فقط رجال أمن يتبادلون التقارير.
ويتفق بعض العرب أيضا، على أن الصراع الأمريكي الإيراني، قبيل إغتيال سليماني، أخذ شباب العالم العربي رهائن خلف قضبان محاورهم السياسية. صارت المنطقة رهينة تنافس بين قوتين لن تلغي الواحدة منهما الأخرى، فإختارتا الحروب بالوكالة، وإستدعيت كل الخطابات الدينية وأخواتها دعما للسلاح لا السلام أو الحوار.
ويعرف القلة من العرب أن تاريخهم المخضب بدماء اجدادهم تحكمه قواعد الجغرافيا وحقائق التاريخ. تماما كما قال الشاعر الإنجليزي روديارد كيبلنج “الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا”. هم يعرفون أن إيران فارسية وأمريكا أطلسية بغض النظر عن مذهبها أو دينها. ثمة قوة أكبر من التمنيات اسمها المصالح.
وبدلا من التبصير والاستنتاج ومحاولات فك ألغاز واشنطن وطلاسم طهران، على العرب التحدث مع بعضهم البعض، قبل موسم التسويات الكبرى.
(*) كاتب سعودي