يصر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تنقية العلاقات بين العاصمتين التركية والسورية، ويعتبر أن لقاء قمة يجمع الرئيسين السوري بشار الأسد والتركي رجب طيب أردوغان كفيل بانتاج حل نهائي لمعضلة الشمال السوري، وبالتالي طي آخر صفحات الأزمة السورية.
الجانب الروسي، الذي حاول مرات عدة خلال الاشهر الماضية تسويق فكرة انعقاد القمة بين الأسد وأردوغان “كنقطة انطلاق للحل”، يعتبر أن ما جرى في موسكو بين اللواء علي مملوك والجنرال حقان فيدان، وخصوصا مع مسارعة دمشق للاعلان عن اللقاء “يشكل تقدماً مهماً يعول عليه لاستكمال تحضيرات التطبيع”.
وتفيد المعلومات الخاصة بموقع 180 ان اعلان دمشق عن اللقاء يعني أن النقاش بين الطرفين بلغ مراحل متقدمة وأن شبه تفاهمات حصلت في موسكو تنتظر حسما نهائيا حتى تدخل حيز التطبيق، وأن هذه التفاهمات تأتي بالتوازي مع مسار من التنسيق الأمني – الميداني بدأ منذ عدة أشهر بين الطرفين السوري والتركي في مناطق الشمال الواقعة في اطار عملية “نبع السلام” التركية، أو في محيط ادلب.
وتشير المعلومات الى أن النقاش خرج من دائرة العموميات ومجرد طرح المطالب والمطالب المضادة، الى مناقشة تفاصيل ميدانية من ضمن خطة روسية لبناء الثقة بين الطرفين، وأولى الخطوات تطبيق ما تم التفاهم عليه سابقا بين الرئيسين الروسي والتركي في قمة سوتشي في ايلول/سبتمبر 2018، أي تأمين طريقي M4 (حلب ـ اللاذقية) وM5 (حلب ـ حماة) والتي كان من المفترض ان تؤمنا نهاية العام 2018، بالاضافة الى حسم عقدة أدلب وايجاد الحلول للمجموعات المسلحة هناك تمهيدا لبسط السيادة السورية على هذه المنطقة.
يصر بوتين على تنقية العلاقات بين العاصمتين التركية والسورية، ويعتبر أن لقاء قمة يجمع الرئيسين السوري والتركي كفيل بانتاج حل نهائي لمعضلة الشمال السوري
وتضيف المعلومات، في الجزئية المتعلقة بمجموعات أدلب المسلحة، أن الروس يريدون التخلص من هذه المجموعات الإرهابية “مهما كلف الأمر وبأي حل يراه الأتراك مناسبا”، ولا سيما الأجانب منهم، حتى ولو تم “ارسالهم جميعا الى ليبيا”، أما بالنسبة للمسلحين السوريين، فإن المخرج شبه الوحيد لهم هو اجراء “مصالحة” مع الحكومة السورية، أسوة بمصالحات جرت في مناطق أخرى، فيما لا تعارض دمشق تجميع المسلحين السوريين الرافضين لمبدأ المصالحة في شريط حدودي شمالا يخضع لسيطرة الشرطة العسكرية الروسية.
العودة إلى تفاهمات أضنة
وتبدو دمشق، التي تستعجل التفاهمات مع تركيا، قد حسمت أمرها لانخراط كامل في مسار المصالحة “الذي يعيد الأمور الى تفاهمات أضنة للعام 1989 المنظمة للعلاقات بين الطرفين”، وتنتظر حالياً مبادرة ايجابية من أنقرة بشأن تفاهمات موسكو حول أدلب وطريقي M4 و 5M للانتقال الى تفاهمات أوسع تشمل المناطق التي لا يزال الأكراد يسيطرون عليها.
ويعتبر السوريون ان التفاهمات حول مناطق الأكراد ومصير قوات سوريا الديمقراطية (“قسد”) هي الأسهل بين الطرفين، اذ لا خلافات كبيرة بهذا الخصوص، والطرفان متفقان تماما على انهاء الوجود العسكري لقوات “قسد” وعلى عدم تكرار تجربة “كردستان العراق” في سوريا، مع بعض التباين في وجهات النظر، كمطلب تركيا حل “قسد” نهائيا وعدم دمج مجموعات كبيرة منها في الجيش السوري، والاستعاضة عن ذلك بتجنيدٍ فردي، وابعاد السكان الأكراد من المناطق المحاذية للحدود التركية واستبدالهم بأعداد من اللاجئين السوريين الموجودين في تركيا، ويبقى الخلاف الأكبر هنا، هو مصير ما تسمى بـ”المنطقة الآمنة”، إذ تصر تركيا على ربطها اقتصادياً عبر تشبيك بنيتها التحتية بتركيا، فيما ترفض دمشق هذا الأمر رفضاً قاطعاً.
ويعول الطرفان على دور روسي في الضغط على قيادات “قسد” للانخراط في التسوية النهائية مع الحكومة السورية. ويسجل الروس هنا معضلة تبقى حتى الآن عصية على الحل، تتمثل في موقف الولايات المتحدة من “قسد” ودعمهم المستمر لها، علما أن ما تسرب من لقاء موسكو الأمني الثلاثي يشير إلى أن الروس أبلغوا الطرفين الكردي والسوري بأن عليهما العمل انطلاقا من مسلمة مفادها أن الوجود الأميركي لن يطول في سوريا، وأن “قسد” ستضطر في نهاية المطاف لعقد تفاهمات مع دمشق.
الثمن التركي في ليبيا
يبرز المشهد الليبي كعامل مهم في مسار التفاهمات بين موسكو وأنقرة حول سوريا، وشكّل ارسال تركيا لأكثر من ألف مقاتل من المجموعات المسلحة السورية الى ليبيا مخرجا “مثالياً” لتركيا ومسؤوليتها عن هذه المجموعات التي قدم الأتراك لها الدعم طيلة سنوات الأزمة السورية والتي يطالب الروس أنقرة بالتخلص منها.
لكن التفاهمات التركية – الروسية تذهب أبعد بكثير من أزمة المجموعات المسلحة، فتركيا تبحث عن موطئ قدم لها في منطقة شمال أفريقيا، حيث ينمو نشاط الأخوان المسلمين بشكل مضطرد، ان في ليبيا أو في تونس واستطرادا في الجزائر، والتواجد التركي في هذه المنطقة سيمنح تركيا هامشاً واسعاً من التأثير “الأخواني” يمتد من الشرق الأوسط الى شمال افريقيا، ما يهدد مباشرة مصالح ونفوذ الحلف المناهض لتركيا الذي يضم مصر والسعودية والامارات العربية المتحدة.
بالمقابل، دخل الروس على خط الأزمة الليبية بقوة، فهم يقدمون خدمات استشارية عسكرية لقوات اللواء خليفة حفتر في الشرق، علما أن موسكو تنفي رعايتها لعدد كبير من الخبراء العسكريين الروس المتواجدين هناك، وفي الوقت ذاته، تمكنوا من نسج علاقات وطيدة مع حكومة فايز السراج في الغرب، وكما تعاطى الروس مع تدخلات تركيا في الأزمة السورية، غضوا الطرف عن التدخل العسكري المباشر لتركيا ودعمها لحكومة السراج بالاضافة الى ارسالها المسلحين السوريين الى هناك، وازاء هذه التسهيلات يرى الروس أن من الطبيعي أن يقدم الأتراك تنازلات كبيرة ومهمة في سوريا.