ليس خافياً أن الحراك الشعبي منذ السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر، كان خجولاً بأبعاده الإسلامية، خصوصا بعد إنكفاء حزب الله شيعياً وتحييد جمهوره، وإستقالة سعد الحريري وصداها الإيجابي عند جمهوره السني أيضاً، وإنحصار المشاركة الدرزية بمجموعات مدنية قيد التشكل. أما مسيحياً، فقد نطقت الساحات من بيروت إلى رحبة، مرورا بجل الديب والزوق والمتن. ساحات غصّت بجمهور كبير ينتمي بمعظمه إلى الطبقة الوسطى المسيحيةً. ضاق هذا الجمهور ذرعاً بحقبة الثلاث سنوات، وما تخللها من ممارسات إقصائية وخطابات إستقوائية وإغراءات لذاكرة كانوا قد قرروا أن يغادروها، سواء أكانت “بشيرية” أو من صنف التذكير بخطاب الحرب الأهلية المنبوذة. زاد الطين بلة، أن هذا الجمهور، ومعظمه كان في الأمس القريب، إما عونياً أو قريباً جداً من الحالة المسماة “برتقالية”، وجد نفسه متدثراً بالرداء العسكري المرقط. رداء تعرفوا من خلاله على ميشال عون جنرالاً قبل أن يكون رئيساً أو نائباً أو رئيس أكبر تكتل نيابي، لكن سبحان من يغير الأحوال. رئاسة الجمهورية والتيار الوطني الحر يصوّبان سهامهما على المؤسسة العسكرية، ولماذا؟ لأنها لم تقمع الحراك. لو كان بمقدور جبران باسيل أن يجمع مجلس وزراء حكومة تصريف الأعمال في اليوم التالي لتاريخ 17 ت1/أكتوبر، لكان قد أقال جوزف عون من قيادة الجيش، وهو لن يتوانى عن ذلك، إذا توفر الظرف والتوقيت في المرحلة المقبلة.
هذه الملاحظات وغيرها، لا تحجب حقيقة راسخة. أثبت ميشال عون، أنه ظاهرة سياسية غير مسبوقة في الوجدان المسيحي اللبناني. من البدلة المرقطة إلى الوقوف إلى جانب المقاومة. القناعة الراسخة بالعلاقة مع سوريا. الانفتاح على إيران.
عون خرق إستراتيجي
هذا الواقع إن دلّ على شيء، إنما على أن الظاهرة العونية إستطاعت دغدغة الوجدان المسيحي. الطبقة الوسطى المسيحية منحازة تلقائياً إلى الدولة ومؤسساتها وفي طليعتها المؤسسة العسكرية. هذا هو الأصل. الباقي تفاصيل والأمثلة كثيرة. عندما قرر ميشال عون الخروج من مربع تحالف الأقليات بتفاهمه الرئاسي مع تيار المستقبل، بدا أن براغماتيته تتيح له فرصة إفتتاح سوبر ماركت مشترك في السياسة مع الرياض، كما فعل قبلها مع طهران، والناس لن تلومه أبداً على خياراته، طالما أنه يضعها في سياق عنوان كبير: حماية الوجود المسيحي.
رُبّ قائلٍ أنه بعد رحيل فؤاد شهاب، إفتقد المسيحيون لزعيم مسيحي بالمواصفات الشهابية. خاضوا مع ميشال عون غمار تجارب وحروب عديدة، وما بدلوا موقفهم. تماهوا معه حتى بموقفه الاستراتيجي المدافع عن المقاومة. عن موقع لبنان الإقليمي، كجزء من الصراع مع عدو لا يقيم وزناً لحياد أحد… لذلك، فان ما قام به ميشال عون، هو خرق استراتيجي لكل البنية التاريخية المسيحية منذ عقود من الزمن. لعل الأقرب إليه هو فؤاد شهاب. إستقوى الأخير بالعربي الأول جمال عبد الناصر، في زمن الوحدة بين مصر وسوريا، لترسيخ الحكم وتقوية موقع الحاكم في لبنان. بهذا المعنى، يمكن القول إن فؤاد شهاب هو الرئيس الماروني الأول الذي حاول تحييد لبنان إيجاباً عن صراعات المنطقة، وفي الوقت نفسه، أرسى دعائم الدولة. دعائم اجتماعية وانمائية وادارية وقضائية، ما زلنا ننعم ببعضها إلى يومنا هذا.
يحيلنا ذلك مجدداً إلى عون الإستراتيجي. جرت محاولة لبناء مؤسسة حزبية عونية، لكنها إصطدمت في السنوات الخمس الأخيرة بعقلية فردية. بدا جبران باسيل محتاراً بين تنظيم بيار الجميل المؤسس وزعامة كميل شمعون المارونية.. جاءت لحظة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، لتطرح أسئلة الزعامة والتنظيم. المفاضلة بين الحالة العونية والمؤسسة العسكرية وقائدها. المفاضلة بين حاكم البلد.. وحاكم الجيش. المفاضلة بين المؤسسة الحزبية وماكينة “التفقيس” الإنتخابية. المفاضلة بين التثقيف السياسي وعوالم السوشيل ميديا.
عندما قرر ميشال عون الخروج من مربع تحالف الأقليات بتفاهمه الرئاسي مع تيار المستقبل، بدا أن براغماتيته تتيح له فرصة إفتتاح سوبر ماركت مشترك في السياسة مع الرياض، كما فعل قبلها مع طهران، والناس لن تلومه أبداً على خياراته، طالما أنه يضعها في سياق عنوان كبير: حماية الوجود المسيحي
الرئاسة قبل أوانها
في العام 2005، تصرف ميشال سليمان عندما كان قائدا للجيش، كما كان يليق بأي ضابط يحتل الموقع نفسه. عندما راجع قادة قوى 8 آذار/مارس، جاءه الجواب بأن دور الجيش أن يحمي المتظاهرين. في عز الفراغ الرئاسي في صيف العام 2015، وعندما قرر العونيون التظاهر، قال ميشال عون لقائد الجيش السابق جان قهوجي إن وظيفتك أن تحمي المتظاهرين لا أن تضع المؤسسة العسكرية في مواجهة الناس. في العام 2019، إنقلبت الآية. صار جوزف عون خائناً، فقط لأنه تمرد على أوامر “القصر”. هذا خطأ إستراتيجي كبير. دلالته، كما “الفيتوات” على بعض المرشحين الموارنة للوزارات المتعاقبة، أننا في خضم معركة رئاسية مفتوحة قبل ثلاث سنوات من موعدها الفعلي. كل مندرجات ما بعد الحراك وإستقالة الحريري لم تعدل الحسابات الرئاسية.
في المقلب الآخر، ثمة نقاش عند حزب الله. التحالف مع “التيار الحر” منذ العام 2006 وظيفته سياسية. جلب هذا التفاهم منافع متبادلة للإثنين. تتويج عون رئيساً هو الذروة. لا فواتير للتسديد أغلى من فاتورة الرئاسة العونية. في لحظة الحراك، بدا حزب الله مرتبكاً ومستسهلاً في مواجهة حراك شعبي هجين سياسياً. أن يدافع حزب الله عن العهد، هذا بديهي، وأن تحتاج المقاومة إلى رافعة مسيحية، هذا بديهي أيضاً، خصوصاً في ظل الإفتقاد إلى منظومة حماية طائفية أخرى، لكن عندما تؤدي حماية هذه الرافعة المسيحية إلى تدفيع حزب الله كلفة إستراتيجية مسيحياً، عبر إستعداء جمهور مسيحي كبير، معظمه من الطبقة الوسطى ومن فئة الشباب (كثرة منهم ينتمون إلى عائلات عونية)، ألا يؤدي ذلك إلى خسارة إستراتيجية مقابل مردود صفري، أولاً بالرهان على قوة لا تملك إستراتيجية جدية في الشارع المسيحي، وثانياً، برمي جزء من هذا الجمهور المسيحي المعترض في خانة حزب مسيحي، لا يريد أخذ الحراك إلا إلى حيث لا تغادر تلك الفكرة مخيلته: جدار نفق نهر الكلب. فعلٌ يساوي بنتيجته كل أخطاء التيار الوطني الحر ورئيسه جبران باسيل. لكأن هناك من يصر على التمسك بمعادلة “المجتمع المسيحي من كفرشيما إلى المدفون”، ولو أن الزمن هو 2020.
هذه هي القوات اللبنانية
ليس خافياً على أحد أن القوات اللبنانية تراهن في المستقبل على مراجعة لا بد وأن يقوم بها حزب الله في ضوء الحراك الشعبي. الأرقام تشي بضرورة ذلك. في العام 2018، أظهر إستطلاع أن حزب الله يستطيع أن يحصد شعبية تلامس عتبة السبعين بالمئة مسيحياً. الأرقام تدهورت في الأشهر الأخيرة. لقد نجح 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 في تحقيق إصابة عميقة جداً سياسياً في مرمى جميع القوى السياسية ولا سيما التيار الوطني الحر: في العمق السياسي، القضاء على فرصة تمديد ولاية ميشال عون عبر الإتيان بجبران باسيل رئيسا للجمهورية في العام 2022. هل في هكذا إستنتاج مجازفة؟ نعم. لا ينفي ذلك أن حزب الله المسيحي (القوات) وحزب الله الشيعي براغماتيان.. ولو قالا عكس ذلك الآن.
الطموح الاستراتيجي المستحيل لـ”القوات”، أن تُمسك بالقرار المسيحي. أن توصل مرشحها إلى رئاسة الجمهورية. أن تتحول إلى قوة قادرة على مجاراة “حزب الله” مستقبلاً، بعد أن تكون قد أنهكته الحرب الحتمية المقبلة مع إسرائيل والإشتباك السني ـ الشيعي المفتوح على كل الإحتمالات. عندها، إما التسوية أو المواجهة، أو “التوافق حبياً” على الفدرالية.
يزيد من صعوبة الوضع المسيحي، الافتقاد إلى المرجعية الجامعة. شكّلت بكركي مرجعية جامعة لـ”المجدين الديني والسياسي”، في زمن “النفي الباريسي” و”سجن اليرزة”، لكن بعد عودة “الجنرال” وإطلاق سراح “الحكيم”، تعطل دور “المكتب السياسي” برئاسة بكركي في حقبة البطريرك الراحل نصرالله صفير. مع بشارة الراعي، كانت البداية صادمة بالمعنى الايجابي، وهذا في صلب تزكيته فاتيكانياً، أي جعله عنوانا لاجتماع المسيحيين بعد طول فراق، لكن مع الإنزلاق الواعي إلى معادلة “الثنائي الماروني”، تراجع دور زعامات الأطراف (نموذج سليمان فرنجية) أو الشخصيات المستقلة (نموذج إيلي الفرزلي). من الواضح أن إنتخابات رئاسة الجمهورية تخاض منذ اليوم الأول لإنتخاب ميشال عون. رصيد الرجل يتآكل. حتى الصورة نفسها تبهت. من كان يتصور أن “الأيقونة” المسيحية ستصبح محور إحتجاج عند أجيال لم تعرفها أبداً. الأفدح، أن “الظاهرة” لم تعد قادرة على الإجتذاب، والورثة كادوا أن يبددوا كل الرصيد. هل القوات مؤهلة للوراثة؟ الجواب بسيط. هذه هي القوات، بالأمس، اليوم، وغداً. ألا توجد خشية من تحول الانقسام المسيحي إلى مشروع “حرب إلغاء” جديدة؟
الفاتيكان يلوم.. وينصح
هناك لوم فاتيكاني كبير على الزعماء الموارنة لجهة عدم تركيزهم “على استعادة الدور المسيحي”، الحضور المسيحي يتجاوز جبل لبنان. لا بد من تشجيع الشباب المسيحي على الانخراط في الجيش وباقي الإدارات والمؤسسات الرسمية، وصولا إلى مصالحة المسيحي مع الدولة ومؤسساتها. وهذا أبرز إستثمار وحائل دون الهجرة.
هنا، تتجدد النصيحة الفاتيكانية إلى قادة المسيحيين في لبنان بأن لا يجعلوا أنفسهم أسرى أوهام الماضي أو رهانات الغد وهل تربح إيران أو السعودية وكيف يتصرف هذا أو ذاك مستقبلاً، في ضوء هذا الإحتمال أو ذاك. “هذه غميضة. عليهم أن يلتفتوا إلى بيتهم (المسيحي) وبلدهم، بدل الرهان على عناصر خارجية يمكن أن تأتي لمصلحتهم أو ربما العكس.. ولكنها، بكل الأحوال، لن تحميهم، لأن الحماية كانت وستبقى لبنانية بالدرجة الأولى، وخير دليل المصير الذي يواجهه المسيحيون في فلسطين وسوريا والعراق ومصر”.
“استقرار لبنان هو الأولوية” بالنسبة للكرسي الرسولي “وأية محاولة للمس بسوريا ستؤذي المسيحيين لأن مسيحيي سوريا لطالما كانوا يعيشون “العصر الذهبي” في ظل نظام البعث العلماني، وكانوا أكثر استقرارا من مسيحيي لبنان وسائر دول المشرق”.
لغة فاتيكانية هادئة إزاء سوريا ومعها “تشجيع المسيحيين على الاندماج في بيئتهم اللبنانية ومع محيطهم العربي”. تشديد على قيام دولة مدنية في لبنان. من هذا المنطلق، يشجع الكرسي الرسولي المسيحيين على بناء جسور تواصل وإنفتاح وأن يكون الحوار سمة أساسية تطبع العلاقات الداخلية بدل توسل وسائل أخرى جربها اللبنانيون وارتدت سلباً عليهم وكان المسيحيون أول ضحاياها. قد تتبرع هذه الدولة الكبرى أو تلك بأن تكون هي الضامن لهم ولغيرهم من الأقليات، لكن، مجدداً، يتأكد للمسيحيين أن وجودهم في الشرق مرهون بدورهم الوطني في مجتمعاتهم. إذا حرموا من الدور، حتماً، سيصبح وجودهم مهدداً، ولن تكون بعض الأوطان، مثل لبنان، إلا ملاذاً للراغبين بالعيش في القن الطائفي والمذهبي.. غيرهم، لهم الله وبلاده الواسعة.
الجزء الأول بعنوان: “عندما ينفجر الحريري ويضيع باسيل الفرصة ويبتهل جعجع للتفاهم”، https://180post.com/archives/8345