لم يخطئ تقديري، لكن صراحة وجرأة ما قاله في كتابه، تخطّت توقعاتي من رجل لا يزال يُمارس السياسة كأنه مقبلٌ عليها للتوّ. فبعد أن طَوَيتُ آخر صفحة من هذا الكتاب الممتد في أكثر من ٦٠٠ صفحة، انتابني شعوران، أولهما، متعةُ قراءة أحداث لبنان بلغة جميلة ومعلومات متدفّقة وأسرار كثيرة، وثانيهما، الخجلُ من طبقة سياسية لبنانية حكمت هذا البلد الصغير، وكان معظمها مجرد بيادق صغيرة، تُحرّكها أياد خارجية. وهنا تكمن بالضبط جرأة الفرزلي كونه لا يقدّم نفسه بطلا على مسرح العلاقات اللبنانية السورية، وانما يترك لنا حرية ادانته هو أيضا لقبوله لعب دور الناصح المسموع جدا عند القيادة السورية والشريك والمنفذ الأمين لقراراتها، حين كانت تُعيّن هذا وتخلع ذاك، وفقا لمصالح استراتيجية دقيقة.
وصلت جرأته في الاعترافات الى حد القول: “يوم 19 تشرين الأول/أكتوبر من العام 1995، تم كل شيء، وكما طلب غازي كنعان، رفعنا أصابعنا، مدّدنا ولاية الياس هراوي ثلاث سنوات بمفعل رجعي..”. كان غازي كنعان يطلب والجميع ينفّذ.
لعلّ الفرزلي الذي ترعّرع في كنف عائلة سياسية عروبية بقاعية عريقة يمتد تاريخها في العمل الوطني الاستقلالي الى ما بعد الحرب العالمية الاولى حين لمع نجمُ جدّه الوطني الدكتور ملحم إبراهيم يعقوب الفرزلي (السكرتير الأول لمؤتمر الوحدة السورية)، والذي تشابه الى حد بعيد مع مع عمّه النائب أديب الفرزلي الذي اتقن ايضا فن الخطابة، والذي ورث عن والده وعمّه فقه الحقوق وحبّها، لعلّه اقنع نفسه ثم حاول اقناع الجميع بوجهة نظر تقول بأن دخول سوريا الى لبنان كان لمصلحة البلدين.
اغتيل معوّض بعد فترة قصيرة على انتخابه، فذهب الفرزلي لعند خصمه في البقاع الياس هراوي وطرح عليه السؤال التالي:”ماذا تستطيع أن تفعل لميشال عون” (الذي تمرّد آنذاك على سوريا) فأجاب هراوي:”أنزل الى البُنكر وأمطره بالمدافع”
لكن دعونا لا نغرق بالتحليل قبل المعلومات المهمة في هذا الكتاب الذي يستحق لقب “كتاب العصر” اللبناني، ليقيني أنه ندر من يمتلك كل هذه الأسرار، وندر من يمتلك جرأة الكتابة عنها.
هذه بعض الأمثلة:
في روايته لما جرى بعد تكليف الرئيس أمين الجميل، قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون رئاسة الحكومة العسكرية، يقول الفرزلي:”سألني غازي كنعان عن رأيي في المرشّح الملائم لرئاسة الجمهورية وقتذاك، فقدّمت له مطالعة خطية معلّلة تعليلا واقعيا، شرحت فيها دوافع تأييد ترشيح النائب مخايل الضاهر”.
يضيف:”في 18 أيلول/سبتمبر 1988، قبل أيام من انتهاء ولاية أمين الجميل، حضر الموفد الأميركي الخاص ريتشارد مورفي الى سوريا للتفاهم مع دمشق على تسريع الانتخابات الرئاسية (اللبنانية) …. كلّفنا السوريون، خليل الهراوي وأنا إبلاغ الضاهر أن الاتفاق السوري – الأميركي قد رسا عليه”.
نلاحظ هنا إذا وبوضوح ان اختيار الرئيس اللبناني كان يتم في دمشق، وغالبا بتفاهم سوري ـ أميركي.
هذه الواقعة ليست الحادثة اليتيمة. فهاكُم رواية ثانية:
يقول الفرزلي ان دمشق كانت ترى في الياس هراوي “انحيازا الى بشير الجميل” لكن عند اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 1988، بدأ يحاول التقرّب مجددا من السوريين، فحل ضيفا على برنامج تلفزيوني، تحدث فيه بإطراء كبير عن سوريا وبالغ مبالغة متمادية في تقدير وتبجيل دورها في لبنان” وحمّله المقابلة ليعطيها الى غازي كنعان. وحينها قدّم ايضا الفرزلي مطالعة للسوريين حول سبب عدم حماسته لانتخاب رنيه معوض رئيسا. لكن دمشق قبلت بمعوض الذي أعطاها “وعودا والتزامات بتمسكه بوحدة لبنان وبالعلاقات اللبنانية السورية وربما تطمينات أميركية وخليجية”.
عبيد سقط وهراوي نجح في الإمتحان السوري
يقول الفرزلي:”كان من عادة غازي كنعان استمزاج رأيي في المتفرقات والاستحقاقات الرئاسية الحاسمة فاقدّم له في كل مرّة، مطالعة مكتوبة تتضمن تحليلا وافيا للظروف والنتائج، ولم تكن مطالعتي عن الياس هراوي هي الأولى من نوعها في هذا السياق، فقد سبق أن شرحت أيضا، في مطالعة مماثلة، تعذّر انتخاب الرئيس السابق سليمان فرنجية”.
اغتيل معوّض بعد فترة قصيرة على انتخابه، فذهب الفرزلي لعند خصمه في البقاع الياس هراوي وطرح عليه السؤال التالي:”ماذا تستطيع أن تفعل لميشال عون” (الذي تمرّد آنذاك على سوريا) فأجاب هراوي:”أنزل الى البُنكر وأمطره بالمدافع”. كانت هذه العبارة كافية ليعود الفرزلي مرة ثانية الى هراوي ويبلّغه بأنه نجح في الامتحان.
أما فشل المرشح جان عبيد في الرئاسة بدلا من هراوي، فيبدو أنه مرتبط بالشكوك في أنه سيكون ثمرة حراك الرئيس رفيق الحريري في باريس لدعمه، ومرتبط أيضا بحوار جرى بين عبيد والقيادة السورية في دمشق حيث سألوه:”ماذا ستفعل في حال انتخابك رئيسا”؟ أجاب:”سأجري حوارا مع ميشال عون بغية جمع الجيش اللبناني وإعادة توحيده”، فقال له عبد الحليم خدّام (نائب الرئيس السوري آنذاك):”تريد ان تحاور عميلا للفاتيكان وفرنسا؟” فردّ جان عبيد: “أنتم حاورتم من كان عميلا لإسرائيل” (في إشارة الى الياس حبيقة)، فسقط في الامتحان.
ينقل الفرزلي عن غازي كنعان أن جعجع عرض عليه تسليمه رؤوس “من يتعاملون مع العراق واستخباراته” في المنطقة التي يسيطر عليها، فردّ عليه كنعان قائلا:”إني احدثك في السياسة وليس في الأمن”
حين أيدت دمشق كلا من عون وجعجع
يكشف الفرزلي في كتابه ان القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع تحاورت مرارا مع القيادة السورية ويقول:”كان محسن دلول (وزير الدفاع السابق) في ذلك الوقت يتولى ترتيب لقاءات في البقاع مع غازي كنعان، لموفدين من قبل القوات اللبنانية، وكان أكثرهم ترددا على البقاع لهذه الغاية، نادر سكر وجورج كسّاب”.
ويضيف أنه بعد اطاحة ميشال عون، عشية استقالة حكومة سليم الحص في 19 كانون الأول/ديسمبر 1990 اجتمع غازي كنعان بسمير جعجع في مقرّ الأخير بحضور ضابطين لبناني هو العقيد ميشال رحباني، وسوري هو اللواء عزّت زيدان، ويبدو وفق ما ينقل الفرزلي عن كنعان أن جعجع عرض عليه تسليمه رؤوس “من يتعاملون مع العراق واستخباراته” في المنطقة التي يسيطر عليها، فردّ عليه كنعان قائلا:”إني احدثك في السياسة وليس في الأمن”.
وفق رواية الفرزلي فان دمشق كانت ترغب فعلا بالتفاهم مع جعجع وترى فيه مساهما أساسيا في اسقاط عون ومؤهلا للمشاركة في النظام السياسي الجديد بعد الطائف الذي سلّم به سلفا.
في الحديث أيضا عن قائد القوات اللبنانية، يكشف الفرزلي وقائع اللقاء الأول الذي جمعه بجعجع :”شاء أن يكشف لي انه كان وراء محاولة اغتيال الياس حبيقة في انفجار كنيسة سيدة النجاة في زحلة مساء 15 أيلول/سبتمبر 1987، مؤكدا لي انه لم يتعمّد استهدافي، فاكتفيت بعبارة واحدة جوابا عن ذلك: عفا الله عمّا مضى” (وهو التفجير الذي أصيب فيه الفرزلي وفقد احدى عينيه).
ثم يشرح كيف استنجد به جعجع حين تم تطويق مقره في العام 1994 واعتقاله قائلا له:”انا محاصر، وإذا كانوا سيدخلون الى غدراس (مقره) فعلى الأقل لا يسيئوا الينا ويهينونا”.
لكن اللافت للإنتباه أكثر من قصة جعجع، هو أن دمشق لم تأخذ موقفا سلبيا من العماد عون بعيد تكليفه برئاسة الحكومة العسكرية في العام 1988، ويقول الفرزلي:”في لقائي الثاني مع غازي كنعان، وجدته في حالة من الفرح والانشراح، وراح يكيل المديح لميشال عون ويثني على أفكاره وتصوراته، وأسمعني تسجيلا صوتيا لما قاله العماد امام الضباط حول الإصلاح، وبناء الدولة، وتوحيد الجيش، وإدانة الطبقة السياسية البالية، مؤكدا لي تأييده ما سمع منه قائلا: هكذا يكون الضبّاط وبمثل هؤلاء تُبنى الأوطان”.
لحود الخصم والحريري الصديق
لا حاجة للتعمّق كثيرا في فهم علاقة الفرزلي بالرئيس السابق اميل لحود الذي يروي الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك كيف اتفق هو والرئيس السوري الراحل حافظ الأسد على اختياره رئيسا للجمهورية. منذ الجملة الأولى في الفصل المخصص للحود، يقول الفرزلي:”خدعنا اميل لحود. أوصلناه الى الرئاسة فخلا بنا من أول الطريق… وفشل فشلا ذريعا في ما كنّا نعول عليه به. ألحق المحيطون به من آل المر والضباط في القصر الجمهوري وفي مديرية الاستخبارات أفدح الضرر… ومنذ عام 1998، لم يكن اميل لحود يرى امامه هدفا سوى القضاء على رفيق الحريري”، وهو الذي أقنع حافظ الأسد بعدم جواز وجود غازي كنعان في لبنان لأن البلد “لا يتحمّل رئيسين”. وأما العقل المدبّر للرئيس لحود أي اللواء السابق والنائب الحالي جميل السيد فهو الذي أوحى له بالوشاية بغازي كنعان وهو الذي أقام “جمهورية التنصّت”.
ما كدتُ انهي ما كلفني غازي كنعان بقوله، حتى تغيّرت ملامح وجه رفيق الحريري، فأمسك سبّحته بغضب وانفعال، وضرب بها بقوة على الأرض، فتناثرت حبّاتها على السجادة في كل اتجاه
في حديثه عن رفيق الحريري الذي وصفه بـ”طائر الرخّ الأسطوري”، يوازي الفرزلي بين المحبة الشخصية وبين الخصومة السياسية مع رجل نفهم انه اشترى معظم الطبقة السياسية والنوّاب وأغراه هو شخصيا بشراء أسهم في شركة سوليدير وسعى لتكريس أحادية الاعلام والسيطرة عليه وكان لديه مشروع اقتصادي “لم أفهمه”. لكن هنا أيضا نفهم ضيق افق الحريري أمام الأوامر السورية.
يروي الفرزلي كيف ان غازي كنعان طلب منه بعد اعتكاف الحريري الآتي:”اذهب وأبلغ الحريري أن عليه فتح باب البيت من جديد والتراجع عن الاعتكاف، لقد بدأت التصرفات السلبية تأخذ منحى لا نريده ولا نوافق عليه، وما كدتُ انهي ما كلفني غازي كنعان بقوله، حتى تغيّرت ملامح وجه رفيق الحريري، فأمسك سبّحته بغضب وانفعال، وضرب بها بقوة على الأرض، فتناثرت حبّاتها على السجادة في كل اتجاه. سكت لبرهة ثم قال: “افتحوا الأبواب” وقرر إنهاء اعتكافه.
حسنا فعل إيلي الفرزلي ببوحه هذا، فإلى هذه الروايات والاسرار، يتضمن الكتاب شرحا استراتيجيا مفصّلا للأدوار الإقليمية والدولية والمسيحية والإسلامية في لبنان وحوله، وفيه استشراف للمستقبل، وفيه قراءة سياسية معمّقة، لكن الأكيد، وعلى أهمية كل ما نقرأه فيه، هو أن الفرزلي لم يقل كل ما عنده، ليس خشية من أحد أو أمر ما، وانما على الأرجح لعدم احراج طبقة سياسية مارست كل فنون الذلّ أمام الخارج حتى صار ديدنها.
كان الفرزلي وما زال علامة فارقة في السياسة اللبنانية، ويقيني أن كتابه سيصبح علامة فارقة في الكتب – المراجع لشرح علاقات لبنان الداخلية والخارجية، وأسباب تقهقر البلد ووصوله الى ما نحن فيه.