برغم أن نتائج الانتخابات المعادة الماضية، دللت على بدء تراجع التأييد لنتنياهو خصوصا بعدما قدمت ضده ثلاث لوائح اتهام في قضايا فساد، فإن الحملة الانتخابية التي قادها زعيم الليكود أظهرت قدرته السحرية على اجتذاب للناخبين. وكان جليا للجميع أن ناخبيه عموما كانوا يتحدون بذلك الاتهامات له بالفساد التي تقف وراءها النخبة القانونية والإدارية. وليس صدفة أن أول هتاف في مقر الليكود بعد اعلان نتائج عينات التصويت كان ضد المستشار القضائي للحكومة أفيحاي مندلبليت. كما أن أكثر ترحيب في مقر الليكود كان لوزير العدل المطلوب منه تسويغ إجراءات منح الحصانة لنتنياهو ضد الجهاز القضائي.
وليست صدفة أن نتائج الانتخابات التي أظهرت أن نتنياهو حقق فوزا ساحقا في ما يعرف بالضواحي والبلدات الحدودية، توفر معطيات مؤكدة عن جمهوره. فمعظم سكان الضواحي والبلدات الحدودية هم من الشرقيين الذين تقودهم انفعالاتهم ولا يعتبرون من الشرائح العليا في المجتمع الصهيوني، لا من ناحية الثقافة، ولا من ناحية الاقتصاد. وعلى العكس، بين سكان المدن الكبرى وخصوصا متروبوليتان تل أبيب، أو ما يعرف بـ”مركز البلاد”، فإن حزب أزرق أبيض حقق نجاحا أكبر. وقد تكون لهذه النتيجة أثر كبير على مستقبل العلاقات داخل المجتمع الصهيوني الذي يزداد استقطابا بين شريحتيه الأساسيتين، اليمين والوسط.
وواضح أن الانتخابات بينت انهيار وانتهاء ما يعرف بـ”اليسار الصهيوني”، فتحالف حزب العمل – ميرتس – غيشر لم ينل إلا سبعة مقاعد في أحسن تقدير. وهذا يعني جوهريا انتهاء “إسرائيل الأولى”، إذ أن حزب العمل وميرتس هما بقايا حزبي مباي ومبام اللذين أقاما الدولة العبرية وقاداها منفردين في عقودها الثلاثة الأولى. ومن الجائز أن الاندفاع نحو الاستقطاب لم يعد بين ما كان يعرف باليمين واليسار وإنما صار بين اليمين والوسط بعدما غدا المجتمع الصهيوني برمته أشد يمينية من أي وقت مضى.
ضمن هذا السياق، انتقلت الكثير من القوى الهامشية إلى المركز، وصارت هي مركز الحياة العامة الجديدة في الكيان. وتكفي هنا نظرة واحدة لتشكيل الحكومات الأولى في الكيان حين كان شعار مباي ومبام: المهم من دون حيروت وماكي. ومعروف أن حيروت كان حزب اليمين الفاشي بزعامة مناحيم بيغين والذي تحول إلى الليكود لاحقا بتحالفاته مع الحزب الليبرالي اليميني. أما ماكي، فهو الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي لم يبق فيه عمليا سوى الأعضاء العرب وقلة من اليهود.
زادت هذه القائمة العربية المشتركة عدد نوابها في الكنيست أيضا بفضل الرغبة في التخلص من نتنياهو
والواقع أن نتائج الانتخابات لا يمكن فهمها من دون التطرق لنتائج التصويت للقائمة العربية المشتركة. فقد زادت هذه القائمة عدد نوابها في الكنيست أيضا بفضل الرغبة في التخلص من نتنياهو. فسياسة اليمين المعادية للفلسطينيين عموما وللمواطنين العرب داخل الكيان لم تترك للعرب مفرا سوى الاتحاد في مواجهة الفاشية الجديدة. وربما أن ما مر بين بنود صفقة القرن الأميركية من إشارة إلى تبادل سكان قرى المثلث، شكل حافزا آخر على ترك منهج اللامبالاة الذي وسم سلوكيات الكثير من الناخبين العرب في الماضي.
عموما ومن قراءة نتائج الانتخابات الأولية، يبدو أن معسكر اليمين من دون ليبرمان لا يزال بعيدا عن القدرة منفردا على تشكيل ائتلاف حكومي. وفي النهاية، يمكن القول أن النتائج تبين استحالة قدرة معسكر الوسط على تشكيل ائتلاف حاكم، ولو كان ائتلاف أقلية. وهذا يعني أن فرص قيادة اليمين للحكومة المقبلة أكبر بكثير من فرص معسكر الوسط، فما ينقص اليمين هو صوت أو صوتان ليمتلك الأغلبية البسيطة. وبالنظر إلى أن ليبرمان وحزبه كان ولا يزال جزءاً أساسيا من معسكر اليمين، فإن احتمالات تراجعه عن تشنجه في العلاقة مع نتنياهو والحريديم واردة. قد يقول قائل أن هذه الاحتمالات ضعيفة بسبب تأكيد ليبرمان عدم رغبته في الانضمام إلى حكومة يوجد فيها الحريديم. ولكن ما هو منطقي أيضا الافتراض بأن ليبرمان الذي صمد بعد أن أجبر الحلبة السياسية على خوض ثلاث معارك انتخابية في عام واحد جراء موقفه من حكومة نتنياهو، قد لا يقبل الاستمرار في منطقه خشية معاقبة الجمهور اليهودي له. وربما لهذا السبب يعلن ليبرمان أنه لن يقبل بانتخابات رابعة من جديد.
فرص قيادة اليمين للحكومة المقبلة أكبر بكثير من فرص معسكر الوسط
ولهذا السبب، فإن الاحتمالات الأكثر ترجيحاً خلال الأسابيع الثلاثة المقبلة، أن تشهد الحلبة السياسية معارك عض أصابع شديدة داخل اليمين. ويعتقد أن قوى اليمين سوف تضغط من أجل تحقيق اختراقات جوهرية فردية في كل الأحزاب المعارضة. وهذا يعني أن العثور على صوت أو صوتين أو ثلاثة في حزب إسرائيل بيتنا، وفي أزرق أبيض وحتى في حزب العمل-ميرتس-غيشر ليس مستبعدا. ومثل هذا الاختراق يعني توزير كل من هو على استعداد للانشقاق عن حزبه ومنحه امتيازات وضمانات في الانتخابات المقبلة. وقد سبق للحلبة الصهيونية أن شهدت انتقالات كهذه من معسكر إلى آخر.
وبعد ذلك يأتي الضغط على ليبرمان لدفعه للتنازل عن بعض مواقفه مقابل تلطيف هيمنة الحريديم على حكومة نتنياهو وبالتالي تشكيل حكومة يمينية بعد تراجع ليبرمان عن انفصاله. ومن المؤكد أن هذا التراجع سوف ينطوي على ضمانات بأن لا يشق الحكومة اليمينية في وقت قريب.
وأخيرا هناك احتمال ضغط العديد من القوى على نتنياهو وغانتس لتشكيل حكومة وحدة وطنية. وواضح أن قوى اليمين المتطرف بزعامة حزب “يمينا” ترفض حكومة الوحدة الوطنية لأنها تعني تقييد نشاطها الراغب في ضم الأراضي المحتلة والقضاء نهائيا على حل الدولتين. وقد أعلن نفتالي بينت أن الانتخابات بينت أن الجمهور الإسرائيلي يرغب في حكومة السيادة على أرض إسرائيل.
في كل حال من الواضح أن التأييد الأميركي لنتنياهو أعطى أكله، ولكن هذا التأييد لم يقد إلى حسم الأزمة الداخلية، وبقيت الأمور مفتوحة في انتظار خطوات حاسمة قد تستغرق وقتا. ولهذا، فإن حديث نتنياهو عن بدء المشاورات لتشكيل الحكومة وحديث زعيم شاس عن ذلك وإعلان وزير الخارجية إسرائيل كاتس عن انتهاء زمن تداول رئاسة الحكومة، كلها أحاديث معنوية لا تستند حتى الآن إلى أساس، كما أن الكثير سوف يعتمد في الأسابيع المقبلة على موعد محاكمة نتنياهو وأثر ذلك على مواقف الأحزاب.