على مدار الأسابيع الماضية، انشغلت سوريا، للمرة الأولى منذ تسع سنوات، عن الحرب وأخبارها. خبر واحد تصدر اهتمام السوريين، حالهم كحال بقية العالم، فيروس “كورونا” المستجد وانتشاره، أعراض هذا المرض وسبل الوقاية منه. لم يكن الأمر أكثر من مجرد اهتمام، قبل أن يتحول إلى كابوس مع مرور الوقت، خصوصاً بعد انتشاره في إيران وظهور حالات في العراق ولبنان وتركيا، الأمر الذي جعل وصوله إلى داخل سوريا مسألة وقت.
اتخذت الحكومة السورية إجراءات وقائية بشكل متسلسل، بدأت بتعليق الدوام في المؤسسات التعليمية، وإغلاق جزئي لمؤسسات الدولة، لتوسع تدريجياً من دائرة الإغلاق لتشمل كل شيء تقريباً، باستثناء المديريات الضرورية التي لا يمكن الاستغناء عنها، بالإضافة إلى بعض القطاعات الهامة كالصيدليات ومحلات البقالة والأفران، قبل أن تعلن أخيراً إغلاق جميع المنافذ البرية، باستثناء حركة البضائع، إضافة إلى تعليق الرحلات الجوية حيث حطت آخر طائرة وصلت إلى سوريا يوم الأحد آتية من روسيا، لتغلق المطارات السورية أبوابها. كذلك، أعلنت وزارة النقل السورية توقف حركة نقل الركاب بين المحافظات يوم الثلاثاء المقبل، وتجميد عمل حافلات النقل الداخلي أيضاً، للحد من عمليات الانتقال، وإجبار المواطنين على البقاء في منازلهم، تحت تهديد مباشر سربته وسائل الإعلام السورية باتخاذ إجراءات صارمة، بينها حظر التجول.
الحرب وخريطتها
الإجراءات الحكومية السورية، والتي تماشت بشكل كبير مع التوجهات العالمية في طرق الوقاية من الفيروس المستجد والحد من انتشاره، وبالرغم من الجدية الكبيرة في تطبيقها، واجهت منذ إعلانها أزمة حقيقية تتعلق بالمناطق الجغرافية التي ستطبق فيها، في ظل وجود مناطق خارجة عن سيطرة الحكومة، حيث تسيطر الحكومة على معظم سوريا باستثناء المناطق الشمالية الشرقية التي تسيطر عليها “قسد” (قوات سوريا الديموقراطية) تحت إشراف أميركي، ومناطق في الشمال والشمال الشرقي من سوريا تسيطر عليها تركيا مباشرة ( منطقتي درع الفرات، غصن الزيتون)، بالإضافة إلى محافظة إدلب التي تمثل التجمع الأكبر للفصائل “الجهادية” في سوريا، والتي تنتشر فيها أيضاً قوات الجيش التركي، وتعتبر “جبهة النصرة” (هيئة تحرير الشام) القوة الأكبر فيها.
إضافة إلى هذه الخريطة، ثمة خريطة انتشار أخرى للسوريين تتعلق بمخيمات النزوح الداخلية، حيث يقطن الآلاف في مخيمات مؤقتة قرب الحدود التركية شمال سوريا، إضافة إلى مخيمات أخرى بينها مخيم الركبان قرب الحدود الأردنية، ومخيم “الهول” الذي تسيطر عليه “قسد” في الحسكة قرب الحدود العراقية ويضم عائلات مسلحي تنظيم “داعش”، حيث يعيش في هذه المخيمات الآلاف ضمن ظروف غير إنسانية داخل خيم ومبان بدائية، وضمن تجمعات كبيرة، الأمر الذي يجعلها أرضاً خصبة لانتشار الفيروس، في ظل تدني مستويات الرعاية الطبية فيها.
الحكومة السورية، وخلال الأسابيع الماضية أكدت عدم اكتشاف أية حالة لمصابين بـ”كورونا”، حيث أجرت اختبارات عديدة لمرضى ظهرت عليهم أعرض الإصابة بهذا الفيروس، ولوافدين من خارج سوريا، وكانت نتيجة هذه الاختبارات والتحاليل سلبية. رغم ذلك، لا يمكن معرفة مدى انتشار “كورونا” فعلياً، سواء في مناطق “قسد” أو مناطق تركيا، أو “جبهة النصرة” في إدلب، أو حتى في مخيمات النزوح الداخلية، الأمر الذي يجعل المشهد الصحي في سوريا معقداً، حاله كحال تعقيدات المشهدين الميداني والسياسي.
وبينما اتخذت الحكومة السورية إجراءات طبية وصحية، بينها تخصيص مستشفيات ومراكز لعزل من يحتمل إصابته بالفيروس، يبدو اتخاذ إجراءات مماثلة في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة أمراً غير ممكن، سواء بسبب عدم القدرة على ذلك، أو بسبب عدم إدراك بعض القوى المسيطرة على الأرض أهمية مثل هذه الإجراءات.
أعباء مضاعفة
تسببت الحرب بدمار واسع في مختلف القطاعات السورية بينها القطاع الصحي. وفيما تتضارب الأرقام حول حجم الخسائر، تشير تقديرات عدة إلى أن الأضرار طالت نحو 45 في المئة من القطاع الصحي في سوريا، الأمر الذي يتطلب، وفق دراسة أعدها الباحث السوري عمار اليوسف في العام 2017، نحو 25 مليار دولار لترميم وتلافي الأضرار.
تظهر بيانات وزارة الصحة واقعاً غير مبشّر حول آثار الحرب على القطاع الطبي، وقدرة المرافق الطبية على استيعاب الحالات في حال تفشي “كورونا”
وبينما تشرف أربع وزارات على القطاع الصحي في سوريا (الصحة، التعليم العالي، الدفاع، الداخلية)، حيث تمتلك كل وزارة مستشفيات عدة، تعتبر وزارتا الصحة والتعليم العالي الأكثر تأثيراً على هذا القطاع، حيث تستحوذان على النسبة الأكبر من المستشفيات والمرافق الطبية. وفي ظل عدم توافر بيانات دقيقة حول المرافق الطبية الخاصة بوزراتي الدفاع والداخلية، والأضرار التي تسببت بها الحرب في هذه المرافق، تظهر بيانات وزارة الصحة واقعاً غير مبشّر حول آثار الحرب على القطاع الطبي، وقدرة المرافق الطبية والمستشفيات على استيعاب الحالات في حال تفشي المرض.
ووفق النشرة الإحصائية لوزارة الصحة، الصادرة العام 2018 يبلغ عدد المستشفيات العامة التابعة لوزارتي الصحة والتعليم العالي، والخاصة التي تشرف عليها وزارة الصحة 510 مستشفيات، في جميع المحافظات (المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة أيضاً)، حيث تحتوي هذه المستشفيات بمجملها على 31622 سريراً، بمعدل سرير واحد لكل 707 مواطين ( باعتبار عدد سكان سوريا وفق المكتب المركزي للإحصاء تجاوز 22 مليون نسمة). وبينما تعتبر دمشق الأكثر توفراً للخدمات الطبية وعدد الأسرّة في المستشفيات بمتوسط سرير لكل 400 مواطن، تتذيل إدلب (التي تسيطر عليها “جبهة النصرة”) القائمة بواقع سرير لكل 1258 مواطن.
بموازاة ذلك، لا تتوافر بيانات حول عدد الأسرّة في غرف العناية المركزة، وأجهزة التنفس الصناعي التي يحتاجها المرضى الذين يعانون من فيروس “كورونا” المستجد، في ظل عدم توافر أي دواء حتى الآن، علماً بأن إيطاليا على سبيل المثال تملك خمسة آلاف سرير، في حين أن لدى ألمانيا نحو 25 ألف سرير وفق تقرير نشرته “فوكس نيوز”.
وإضافة إلى الأضرار التي تسببت بها الحرب، يعاني القطاع الصحي في سوريا من ضغوط مضاعفة بسبب العقوبات الأميركية والأوروبية، والتي أعاقت، ومازالت تعيق، استيراد التجهيزات الطبية والمعدات اللازمة للنهوض بالقطاع الصحي، الأمر الذي يزيد من صعوبة تدارك أي نقص في المعدات الطبية اللازمة لمواجهة أي وباء.
العقوبات الغربية على سوريا تزيد من صعوبة تدارك أي نقص في المعدات الطبية اللازمة لمواجهة أي وباء
وعلى الرغم من الموارد المحدودة في سوريا، أعلنت وزارة الصحة استعدادها التام، واستنفارها بشكل كامل، لمواجهة أي انتشار للمرض، سواء عن طريق إجراءات التعقيم المتواصلة، أو عن طريق تجهيز مستشفيات ومراكز صحية وتفريغها لاستقبال اية حالات قد تظهر، بالتزامن مع عملية الحجر المنزلية المستمرة.
وأمام هذا الواقع، تبدو الإجراءات الحكومية المشددة، والمتزايدة، في تقييد حركة المواطنين، وإلزامهم في منازلهم للحد من انتشار الفيروس، واقعية، ولا غنى عنها، خصوصاً أن دولاً متقدمة، وتمتلك تقنيات حديثة وقطاعاً طبياً أكثر تقدماً أثبتت عجزها عن الاحتواء الكامل للمرضى الذين أصيبوا بالفيروس.
الآن ومع الإعلان عن أول حالة تم اكتشافها في سوريا، تبدو التهديدات الصحية أكثر قرباً من الأيام الماضية، ليبقى الرهان الأول والأخير على المواطن نفسه، وقدرته على منع انتشار الوباء، عن طريق الالتزام في المنزل، وإجراءات التعقيم الوقائية المستمرة، أملاً بإزاحة هذا “الكابوس” وعدم الدخول في متاهات لا يمكن التكهن بنتائجها، في بلد مازال ينزف تحت وطأة حرب لم تنته بعد.