مقاربة نيوليبرالية لـ”كورونا”: التكيف مع الكارثة… لانقاذ الاقتصاد!

ليس من المبالغة وصف جائحة كورونا بأنها التحدي الأكبر الذي يواجه النظام الدولي منذ الحرب العالمية الثانية، بل يذهب الكثير من المفكرين والباحثين والعلماء إلى أنها تمثل التحدي الأكبر للحضارة البشرية ككل، وليس للنظام الدولي ونمط اقتصاده وتجلياته الاجتماعية والسياسية فحسب.

ثمة من يصف جائحة كورونا بأنهت نقطة تاريخية فاصلة. ما قبلها ليس كما بعدها. بالنسبة إلى البعض هي بداية لتأريخ جديد في تاريخ الحضارة البشرية على غرار التقويم الميلادي.

اتساقاً مع النمط النيوليبرالي في إدارة الأزمات، أتى التعامل مع جائحة كورونا باعتبارها فرصةً يمكن أن توظف اقتصادياً وسياسياً على مختلف المستويات، سواء بين الأفراد والشركات، أو بين الدول، وهو الأمر الذي حدث أن ثبتت صحته منذ سبعينيات القرن الماضي في مختلف الأزمات، والاقتصادية منها على وجه التحديد.

ولكن في ما يبدو، وحتى كتابة هذه السطور، فإنّ مواجهة الفيروس العالمي الخارج عن السيطرة لا يمكن أن تتناسب مع هذا النمط في إدارة الأزمات، ليس فقط لأن الفيروس، ومن منطلق علمي بحت، لا يصنف ضمن حالات الأزمة التي يمكن إدارتها آنياً، بل لأن ثمة حاجة إلى سيناريوهات استباقية ووقائية كي لا يصل إلى حد الوباء الشامل، وهي سيناريوهات لم يسمح النظام الاقتصادي العالمي بإيجادها على الرغم من تحذيرات العلماء والمتخصصين، نظراً لعدم وجود أرباح فيها.

ما يزيد الطين بلة أن الجائحة الوبائية الحالية تتزامن مع أزمة اقتصادية عالمية كانت متوقعة مسبقاً، وهي لم تكن نتيجة لـ”كورونا” نفسها، وهو ما جعل الفيروس، في شهور انتشاره الأولى، وربما حتى الأسبوعيين الماضيين، فرصةً لاستثمار سياسي في نظر قادة العالم، وخاصة مع توافر مناخ من الصراعات السياسية والاقتصادية بين مختلف القوى العالمية الكبرى في السنوات الأخيرة، جعلت خطاب العولمة محل شك أمام القُطرية الانعزالية التي تقودها حكومات وأنظمة اليمين الشعبوي الصاعد مؤخراً في مختلف الدول.

لكن الفيروس الذي يضرب النظام العالمي في توقيت حرج، ووسط تباطؤ لجهازه العصبي المتمثل في اقتصاد السوق، من المؤكد أنه لا يأبه بالجنسيات، ولا بالتصنيف الطبقي، ولا بالحدود السياسية والاجتماعية، ولا بالصراعات الهوياتية والدولية والجيوستراتيجية، ولا بتوقيتات السياسة والانتخابات، ولا بالأزمات الاقتصادية وسوق المال والبورصات العالمية وأسعار النفط. لذلك، لا يصلح أن يُطبق على كورونا نمط أو نموذج إدارة واستثمار وتوظيف الأزمات، ليس فقط لاعتبارات بيولوجية بحتة، ولكن لأن الفيروس ينشط وينتشر في مراحل الجائحة الأولية في المجتمعات والمدن التي احتكرت ثمرة الرأسمالية بطورها النيوليبرالي، والتي كانت تكلفتها إفقار الغالبية من سكان هذا الكوكب بوتيرة تصاعدية متسارعة، تجعل التصدي لخطر الوباء أولوية ثالثة أو رابعة على أجندة  معظم قادة العالم وصانعي ومتخذي القرار؛ حيث معالجة تباطؤ وركود الاقتصاد أهم من خطط الصحة العامة في وقت وباء عالمي، أي الإبقاء على أولوية الأرباح مقابل الإنسان، وهو ما يلخصه مثلا ترامب بقوله: ضحايا انكماش الاقتصاد أكبر من ضحايا كورونا!

هنا لايمكن النظر إلى توظيف أزمة كورونا على النحو السابق كاستثناء، بل هو السمة الغالبة على مشهد السياسة الدولية في العقود الأخيرة؛ فمع القناعة بأن هذه اللحظة مفصلية في تاريخ العالم، ومحملة بالفرص مثلما محملة بالأخطار، ومع غلبة نمط توظيف الأزمات والاستثمار فيها كعلامة مميزة للأنظمة السياسية ذات التوجه الاقتصادي النيوليبرالي، والمحمولة اجتماعياً على قاعدة شعبية تجمع ما بين الهوياتية والزبونية، أو ما أصطلح على تسميته بـ”اليمين الشعبوي”، فإن نمط الاستفادة من الكوارث والأزمات وتوظيفها سياسياً يزدهر بشدة ويصبح في ذروته في مثل توقيت كهذا، سواء على مستوى محلي أو خارجي، لتصبح عقود من سياسات العولمة تحت شعار “العالم قرية صغيرة” مجرد دعاية بلا تطبيق. يصح ذلك حتى وإن كان الفيروس يهاجم الإنسان ككائن حي، ولا يميّز بين غني أو فقير، وبين صيني أو أميركي.

ولكن أمام هذا الوضوح الفيروسي، فإن الدول والشركات -بصفتها أرقى مؤسسات الاقتصاد والسياسة- لا يمكنها الخلاص من نمط أن كل “أزمة هي فرصة” بشكل دوغمائي يتخطى بديهيات المنطق والحس الفطري للإنسان في أوقات الازمات الكبرى.

أمام هذه المعضلة فإن التكيّف مع وجود الفيروس، وتَقَبُل موت ملايين البشر بسببه في المدى القريب، والاعتياد على تأخير إنقاذهم ولو بإجراءات وقائية مثل العزل الصحي والتباعد الاجتماعي على أولوية الأرباح، كان هو الحل “البراغماتي” و”الواقعي” لمعظم قادة الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي أصدر رئيسها أمس تعليمات بتخفيف الإجراءات الوقائية حتى تستمر عجلة الإنتاج ومنظومة الأرباح!

وكدليل على ما سبق، جاءت “قمة العشرين” لتُبرز تدليس الأولويات ما بين خطاب سياسي دولي يدعو إلى البحث عن جهود لمكافحة الوباء بعيداً عن الصراعات السياسية المعتادة، وما بين ممارسة تهدف بالدرجة الأولى إلى استغلال الوباء كعنوان لجولة جديدة من التنافس والصراع الاقتصادي والسياسي، فمخرجات القمة التي عقدت عبر الفيديوكونفرانس بشكل استثنائي، كان أولها وأهمها ضخ خمسة تريليون دولار في الاقتصاد العالمي، كإجراء استثنائي للمرة الأولى ليس في تاريخ المنتدى الاقتصادي فحسب، ولكن في التاريخ ككل، سواء من حيث الرقم أو من حيث الظروف المحيطة.

إقرأ على موقع 180  هل يحقّ للأكاديمي تنزيه الذات.. وشيطنة الموضوع؟

أعطت القمة أولوية لوقف تدهور الاقتصاد العالمي، وتخفيف أثر “كورونا” عليه، وضمان أمن واستقرار منظومات نقل وإمداد البضائع والسلع حول العالم، وترك خطة مواجهة الوباء للتنسيق بين وزراء مالية ومحافظي المصارف المركزية، عبر البحث في آليات دعم أبحاث تهدف مستقبلاً إلى إيجاد لقاح للفيروس – أي باختصار تطبيق ما تحدث عنه رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، قبيل تأكيد إصابته بالمرض أمس، حول “مناعة القطيع” كحل واقعي للوباء!

“قمة العشرين” أبرزت تدليس الأولويات ما بين خطاب يدعو إلى البحث عن جهود لمكافحة الوباء بعيداً عن الصراعات المعتادة، وما بين ممارسة تهدف إلى استغلال الوباء كعنوان لجولة صراع جديدة.

الأكثر تطرفاً مما سبق، أنه في ظل تساؤلات عن شكل العالم بعد جائحة كوفيد19، والذي يبدو أنه سؤال سابق لأوانه أو يُطرح كآلية دفاعية نفسية للهروب من واقع السياسة الدولية المُنحط الذي يوظف أزمة الوباء لتسجيل مكاسب في خلافات وصراعات ما قبل كورونا بين مختلف الدول، فإنّ اقتصاد السوق المهيمن حالياً على حياة البشر لا ينظر إلى الوباء وتوقيته المزامن للأزمة الاقتصادية كفرصة ربحية بمعناها الاقتصادي والسياسي فحسب، بل كنقلة نوعية شاملة لكي تتكيّف دول العالم  مع هذا النمط كسبيل أوحد للعيش، واستغلال صدمة الوباء للقبول بـ”الأمر الواقع”، وهو ما لخصه الملياردير والمصرفي الأميركي ديفيد روكفلر في كلمة له أمام اللجنة الاقتصادية التابعة للأمم المتحدة 1994 بالقول: ” إننا على وشك إجراء تعديل عالمي، وكل ما نحتاج إليه هو الأزمة الشاملة الصحيحة، وسوف تقبل الدول النظام العالمي الجديد”.

لكن الفترة الفاصلة بين ما قبل كورونا وما بعده، أي الفترة الجارية التي بات فيها الجنس البشري فريسة لعدو خفي، هي التي ستحدد المستقبل حسب مجريات الأزمة العالمية الحالية وكيفية معالجتها أو انفلاتها بشكل تدميري، وخاصة أن الجائحة تأتي في توقيت أزمة اقتصادية تسارع من وتيرت الجائحة الفيروسية وتبطئ مواجهتها.

يضاف إلى ما سبق، حماقات النظام الاقتصادي والسياسي السائد، الذي فوت كل فرصة ممكن لتأجيل هذه الأزمة أو احتوائها قبيل انتشار الوباء الذي يعطل حتى إجراءات الإنقاذ الاقتصادية المفترضة، بل ويعطل الحياة نفسها ويهددها.

ملامح إدارة الأزمة على مستوى السياسة الدولية في المستقبل القريب، تشي بتحلل نموذج النيوليبرالية المعولمة، ولكن ذلك لا يعني سقوط الرأسمالية

ملامح إدارة الأزمة على مستوى السياسة الدولية في المستقبل القريب، تشي بتحلل نموذج النيوليبرالية المعولمة، ولكن ذلك لا يعني سقوط الرأسمالية؛ فالأرباح كانت وستظل، حتى مستقبل غير معروف مداه، هي الأولوية المطلقة، حتى على حساب الإنسان ذاته، ولكن المتغير هنا أن خصائص انتشار الفيروس والأزمة الاقتصادية الموازية له تضرب نموذج النيوليبرالية كنموذج أوحد للحياة ومواجهة تحدياتها، وتبرز أسوأ ما يمكن أن يحدث على مسرح السياسة الدولية من قرارات وإجراءات وبروباغندا انعزالية وعنصرية تعرقل جهود مكافحة الوباء.

على سبيل المثال، أتت مثلاً دعوة الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، إلى تعليق كافة العقوبات الأممية والدولية على مختلف الدول، لكونها تعطل جهود مكافحة الوباء، كصوت خافت بلا أي فاعلية، وذلك في خضم الصخب السياسي الراهن بين الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين في تحميل مسؤولية الفيروس وانتشاره، والتي وصلت إلى حد التلويح بعقاب دولي جماعي ضد بكين، التي اتهمت بدورها واشطن بأنها نشرت الفيروس كسلاح بيولوجي.. إلى آخر مظاهر التوظيف السياسي والدعائي لكارثة كورونا التي حولتها النيوليبرالية إلى مضمار تنافس ونزاع واقتناص فرص سياسية واقتصادية، لحصد مكاسب مستقبلية.

Print Friendly, PDF & Email
إسلام أبو العز

كاتب صحافي ومحلل مختص بالشؤون الإقليمية والعلاقات الدولية - مصر

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  لقاح كورونا بخدمة مَنْ: البشرية أم الرأسمالية؟