كان ” انتحار” العميد غازي كنعان في العام 2005 في خِضم التغيّرات القاسية والدموية لبنانياً وإقليمياً، السقوط الأول والمعبّر عن أحد أبرز أركان هذه التركيبة التي سُرعان ما غادرها عبد الحليم خدام بعد رحيل رفيقه كنعان وذهاب حكمت الشهابي إلى الصمت المهيب في المنفى الإختياري الاميركي، وإعلاناً واضحاً عن رسم المعادلة اللبنانية – السورية الجديدة، وعنوانُها معادلة “الفَصل” لا “الوَصل”.
كان “الوصلُ” والرَبط بين التركيبات الحاكمة في البلدين تعبيراً عن السيطرة السورية على لبنان وصياغة توازناته الجديدة بعد إخراج الشريك المسيحي، بما يخدم مصلحة النظام في سوريا وتعزيز أوراقه الإقليمية في فترة المفاوضات مع إسرائيل برعاية إدارات أميركية همها الأول إنهاء الصراع العربي – الإسرائيلي، وليس أفضل من رفيق الحريري الجامع بين توازنات عربية ودولية، لقيادة هذا المشروع لبنانياً. وفي الجانب اللبناني، كان “الوصل” أداةً ممتازة للحكم ومراكمة الأرباح والنفوذ واستباحة البلد وإدارات الدولة، ما سمح بتكبير حجم الأوهام والطموحات للتسلل إلى تلابيبِ النظام في سوريا واستخدام الرشوة لاستخدام معادلة “الوصل” ليس فقط لبنانياً، إنما التجرؤ على محاولة اكتسابِ “حُصصٍ” في داخلِ نظامٍ صُنعَ وبُنيَ بكثيرٍ من حِرفية ودِقة وبراعة حافظ الأسد الشخصية في إدارة التوازنات السورية الداخلية، والعربية، والإقليمية والدولية.
لم تكن معادلة “الوصل” هذه سوى “لعبة روليت” روسية قاتلة عنوانُها الربط بين الوجود في السلطة وليس “السيادة” بمفهومها التقليدي لبنانياً. “إلى اللقاء” سوريا من ساحة الشهداء، وهجوم وليد جنبلاط العنيف على بشار الأسد في 2006، وتأكيد سعد الحريري في العام 2011 أنه سيعود إلى لبنان من مطار دمشق، هي تعبيرات لفظية حقيقية عن مكنونات الصدور وهي الإطاحة بالنظام السوري لنحكم لبنان.
“الوصل” المُتبنى من تركيبة الطائف وحليفة الراحلِين خدام وكنعان والشهابي، ناقضت مقولة “الفصل” المبنية على السيادة وأن سوريا في سوريا ولبنان في لبنان، من دون الإهتمام، لا بل الحَذر، من الدخول في أية معادلات سلطوية في داخل التركيبة السورية. يمكن اعتبار المؤسسة السياسية والعسكرية في البيئة المسيحية من المتمسكين بمعادلة “الفصل” هذه وفي صلب خياراتها، وقد عبّر العماد ميشال عون في خطابه التاريخي في21 تشرين الثاني/نوفمبر 2004 في باريس عن معادلة “الفصل” عندما دعا إلى حوار لبناني – سوري يواكب التغيّرات العاصفة، مؤكداً في عبارة استراتيجية “لا نريد تحرير لبنان من الدبابة السورية لنأتيَ بالدبابة الأميركية”، بما يعكس حدود المطالب اللبنانية الوطنية المكتفية بحدود “السيادة”. تقف هذه المطامح عند الحدود اللبنانية – السورية.
لم يُعرف أساساً عن التنظيمات العسكرية المسيحية وفي أوج قوتها وتحالفاتها المواجهة لسوريا، أنها تورطت أو طَمحت إلى معادلات “الوصل”. أقصى ما بلغته كان التحالف مع عراق صدام حسين الذي أكرمَ القوات اللبنانية والجيش اللبناني بقيادة العماد عون، بالسلاح والذخائر، ومع ياسر عرفات، وهما الخَصمان التقليديان لسوريا البعثية. كان اهتمام سوريا أوائل تسعينيات القرن الماضي يتركز على حجم النفوذ او الإختراق العراقي في الوضع اللبناني المخاصم لها، أكثر من أي شيء آخر، على ما يذكر مسؤولون سابقون في القوات اللبنانية، وما يورده نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي في مذكراته “أجمل التاريخ كان غداً”، نقلاً عن غازي كنعان، بأن قائد “القوات” سمير جعجع أبدى استعداده لتسليم سوريا مسؤولين ذوي علاقة بالعراق البعثي ومخابراته.
كانت المعادلة مسمومةً بالفساد وأوهام الرهانات الأكبر من حجم أصحابها بعدما أرادوا ليس فقط حكم بيروت، بل حكم دمشق من العاصمة اللبنانية
أما خطابات بشير الجميّل التي استخدمها مناصرو القوات اللبنانية في صراعهم مع سوريا لاستحضار الماضي كأداةٍ تعبوية في الوجدان المسيحي الذي يحتفظ بذاكرة المواجهة مع النظام السوري، فلم تكن في ثمانينيات القرن الماضي إلا تعبيراً عن السرور بوجود مصاعب داخلية أمام نظام خصم، ولو كان بشير الجميل متيقّناً أن “الأخوان المسلمين” وورثة الشيخ المقاتل مروان حديد سيصِلون إلى السلطة في سوريا ويحكمون نسيجها المتنوع، لكان بدّل رأيه حكماً، أو بَدت المسيحية السياسية متناقضة مع أسسها الفكرية ومصالحها.
المفارقة في معادلة “الوصل” و”الفصل” اللبنانية السورية، أن هذا الترابط هو ذاته كان في مصلحة تكريس “الفَصل” وإعادة إحياء السيادة اللبنانية، من رَحم التغيّر في النظام السوري. فإضافةً إلى 11 أيلول/سبتمبر 2001، يمكن اعتبار بشار الأسد، وللمفارقة، لاعباً أساسياً في تحرير لبنان من القبضة السورية.
منذ صعود الأسد الإبن تمهيداً لتسلمه السلطة، راحت الديناميكيات في لبنان تتحرّك على صفيح الحراك داخل التركيبة السورية. يُمتِّن الأسد الإبن مواقعه تدريجياً في سوريا، ومن ضمنها المشاركة في “ملف” لبنان، فيزدادُ تأثير إميل لحود وجميل السيّد وطلال أرسلان وسليمان فرنجية ويتصاعد صراعهم مع تركيبة الحريري – بري – جنبلاط، المترابطة مع تركيبة كنعان – خدام – الشهابي، فكان من الطبيعي في موازاة تداعيات قمة النورماندي جورج بوش وجاك شيراك في العام 2004، الوصول إلى الصدام الشهير، في الوقت الذي أراد فيه “المحافظون الجدد” أن تكون دمشق الهدف التالي بعد بغداد. كان الصراع بين منظومتين لبنانيتين – سوريتين مشتركتين، وليس صراع “سياديين” في مواجهة “النظام الأمني المشترك”، على ما روّجت له أدبيات قوى 14 آذار/مارس.
هذه التركيبة الثلاثية السورية كانت عائقاً أمام السلطة الجديدة، ومؤسِسة وحامية لتركيبة الفساد في لبنان، فأصبح ما تبقى منها في منعطف الـ 2005 وفي زمن حصار سوريا من العراق ولبنان مصدراً محتملاً للمتاعب. من هنا، كان قرار بشار الأسد الإنسحاب من لبنان وسيلةً لحماية النظام في سوريا في فترة هجوم، وبالتالي عودة السيادة اللبنانية، وعملياً الإنتهاء من معادلة “الوصل” التي تحولت من نعمةٍ لسوريا إلى نقمةٍ ولعنة عليها.
كانت المعادلة مسمومةً بالفساد وأوهام الرهانات الأكبر من حجم أصحابها بعدما أرادوا ليس فقط حكم بيروت، بل حكم دمشق من العاصمة اللبنانية.
والراحل عبد الحليم خدام، الهارب ليقطن في بيت أمّنه له آل الحريري في باريس، كان وجهها البشِع سياسياً، وكنعان الوجه البشع أمنياً، في حين حمت هيبةُ حكمت الشهابي وتحفظه العسكري صورتَه من كراهية اللبنانيين.
خدام، صَلِف ومتكبّر. بعد انشقاقه عن النظام قال في أوائل العام 2006 “لن أعتذر لأحد من اللبنانيين”. هم أساساً لم ينتظروا منه اعتذاراً. قرار الإنسحاب المطبق في 26 نيسان/ابريل 2005 كان في حد ذاته، اعتذاراً للبنانيين، وأيضاً لسوريا من تداعيات لعنة معادلة “الوَصل” المسمومة، نحو علاقةٍ أكثر صحة ومنفعة للشعبين وليس للقوى الحاكمة وفسادها.
رحل أركان المنظومة السورية الثلاثية، أما حلفاؤهم في لبنان، فيراقبون بحسرةٍ بناء الحكم الجديد على أنقاض تداعيات 13 تشرين الأول/أكتوبر 1990.
“وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون”!
(*) صحافي وكاتب سياسي لبناني