الكاظمي ودياب مرشحا الضرورة من بغداد إلى بيروت

يقول الشاعر العربي الكبير نزار قباني: "ما دخل اليهود من حدودنا وانما.. تسربوا كالنمل من عيوبنا". هذه نماذج من الأواني المستطرقة للفساد والإسئثار من بيروت إلى بغداد.

لم تصمد الهدنة السياسية في لبنان طويلاً بعد تسوية الدوحة. موجبات التحشيد للإنتخابات البرلمانية التي كلّفت السعوديين ما يزيد على المليار دولار في العام 2009، أدت إلى تعويم الخطاب الطائفي والمذهبي، لكن سرعان ما طوتها مبادرة “السين سين” (السعودية ـ السورية)، فتصالح سعد الحريري ووليد جنبلاط مع بشار الأسد، وحل زعيم تيار المستقبل رئيساً للحكومة للمرة الأولى منذ تبوئه سدة زعامة شارعه السني في العام 2005.

في كانون الثاني/يناير 2011، عندما تشكلت حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي، بعد مضي حوالي التسعة أشهر على الإنتخابات النيابية العراقية، قرر الرئيس باراك أوباما، بموافقة من مستشاريه، إبقاء القوات في العراق. في الشهر نفسه، وبينما كان رئيس وزراء لبنان سعد الحريري يدخل إلى البيت الأبيض، قرر وزراء الثلث الضامن أن يطيحوا بحكومته بقرار من حزب الله، فخرج الحريري من اللقاء مع أوباما رئيساً سابقاً لحكومة لبنان.

ثمة مفارقة لافتة للإنتباه. كان قرار طهران واضحاً: المالكي في بغداد ونجيب ميقاتي في لبنان. إنزعج بشار الأسد من الخيارين الإيرانيين. كان قد أبرم إتفاقاً مع الملك السعودي عبدالله يقضي بتسهيل وصول إياد علاوي والحريري، بموجب تفاهم “السين سين”. إنزعج السعوديون، وقالوا كلاماً كبيراً مفاده أن الأسد لا يعوّل عليه، وأن قرار طهران هو الساري المفعول في كل من بيروت وبغداد. كان لا بد من تدفيع الإيرانيين أثمان خياراتهم.

إحتدم الخلاف السياسي والطائفي والمذهبي في كل من لبنان والعراق ملقياً في كل محطة جديدة منه بأعباء جديدة على كاهل المواطن اللبناني أو العراقي، ليتم تسويغ ذلك، على انه يأتي في سياق معركة دفاع قيادات كل طائفة (أو مذهب) عن مصالح (ابنائها).

مما لا شك فيه ان الانظمة في اقليمنا قد شاخت وامضت في السلطة احقابا بأكثر مما يلزم واستنفدت كل ارصدتها واستدانت من جمهورها ومطلته دينه. ولكن، وربما لسوء الحظ، فقد تحولت الدكتاتوريات بحكم تمرسها في السلطة وهواجسها الامنية الى ضمانة للامن تحصر خيارات الشعوب بين السيء والاسوأ. الا ان ذلك لم يمنع من اندلاع موجات تذمر شعبي طال كبتها ووجدت في النموذجين التونسي والمصري امكانية استنساخ وتكرار. فاندفع الحراك السوري، في ربيع العام 2011، مطالباً بالتغيير والاصلاح. فما كان من الاميركيين الا ان امسكوا باللحظة وشرعوا في الاستثمار محرضين مؤلبين حتى تحول مجرى الاحداث الى صراع دام اكل الاخضر واليابس بعد ان دخل المال الخليجي مشغلا  للفصائل التي مارست ابشع انواع الجرائم في سوريا وتنادى حلفاء النظام، وان لم تتطابق اهدافهم، للتدخل الى جانبه بوصف سوريا عقدة تشتبك عندها مصالح اطراف عدة ومصائرها، وكان طبيعيا ان تكون ايران وحزب الله اول من يهرع لنجدة الشام وكان طبيعيا ايضا ان تكون لذلك منعكساته في لبنان وايران والعراق.

وقف الاميركيون امام تقييم مقلق لقدرات طهران على دعم حلفائها في لبنان وسوريا وصولا الى غزة ثم اقناع الروس بالولوج الى ميدان الاشتباك، وبدا ان الخطر الايراني يحاصر المشروع الاميركي ويتهدده ولا سبيل لايقافه الا بالمواجهة الشاملة وذلك ما ستكون كلفته باهظة للغاية.

كانت العقوبات الاميركية ضد ايران تتشدد من حين لاخر وتتوالى حزمها فالحرب في سوريا اكملت عامها التاسع وبرغم الدعم الفعال الذي قدمه الروس الا ان بوادر الانهاك بدت على جميع الاطراف بينة، مع اتساع ميدان الصراع واشتداد اواره واستنزاف طاقة اطرافه في الاقليم.

مع نهايات عام 2019، تفجرت الاوضاع في العراق ضيقاً بالفساد المتراكم الذي انغمست فيه الفئة السياسية حتى النخاع ودب في نفوس الشباب شعور مستحكم بالاحباط واليأس من اي امل بالحصول على فرصة عمل تدر على احدهم ما يحفظ به كرامته بينما يرفل السياسيون في بلهنية العيش الى الحد الذي ارتد العراقيون عنده يجهرون بالرحمات تنهال على روح صدام حسين، وذلك كان شاهداً على ان الاستياء الشعبي قد بلغ مداه.

وجد الاميركيون الثغرة النافذة الى قلب “الحلف الصامد” وتخيّروا الظرف المناسب والذريعة الملائمة للاستثمار.. بين حلفاء طهران. نشطت السفارة الاميركية في بغداد وحركت كل مفاتيحها لخلق زخم مستدام وضجت مواقع التواصل الاجتماعي بجيش يروي عن موبقات السياسيين.. صدقاً وكذباً. كان القرار متخذاً بإخراج ايران ولا سبيل لاخراجها وكبح نفوذها الا بالقضاء على حلفائها. كما صدّعت الفضائيات الممولة خليجياً رؤوس مشاهديها وشحنتهم تحريضاً وتأليباً ضد فصائل الحشد، وفي قلب البيئة الحاضنة للحشديين.

كان المشهد العراقي يضم ساسة بائسين متخبطين يترنحون في متاهات ازمة صنعتهم وصنعوها ثم جمعت اخطاء مرحلة سياسية كاملة ووضعتها دفعة واحدة امامهم فوقفوا عاجزين. لم تجد المبادرات والعروض والوعود بل والعنف في ايجاد مخرج من التيه. وعن عمد خلط الاميركيون بين حليف طهران السياسي الفاسد وبين الحليف المقاوم وعمدوا الى اضافة جرعات من الابتزاز السياسي لتضييق الخناق على الساسة الشيعة القلقين.

وفي خضم الحراك السياسي والشعبي، اقدم الاميركيون على اغتيال القياديين قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس على ارض مطار بغداد منتهكين سيادة العراق في عملية جس نبض واختبار لمستوى القوة الايرانية عند الحد الاقصى من العقوبات.

تشنج الاوضاع في العراق، رافق تأزم في لبنان، لكن بوتيرة اقل عنفاً واكثر شمولاً. تكفي هنا مقارنة عدد ضحايا الحراك في العراق وهم بالمئات، بينما لم يسقط ضحايا في لبنان سوى أربعة من شباب الحراك.

في لبنان، كانت الازمة الاقتصادية في تعاظم مستمر وسياسات المصرف المركزي تحاول خلق موازنة بين متطلبات السياسة المالية للبلاد ومصالح المودعين والادارة المحاسبية وبين ممالئة التلاعب السياسي بالاموال وشرعنة الاختلاس وتبويب الفساد. وعبثاً.. اذ اخذت الاعباء تميل بثقلها على كاهل المواطن العادي رويداً رويداً دون ان يقيم المسؤولون مخاطر اسرافهم في النهب وتطويع السياسة المالية للبلاد وفق مصالحهم الى ان انزلق الحمل بكامله يفري لحم المواطن اللبناني ويهشم عظمه.

في العراق، جرى حصر الأزمة في الحيز السياسي الشيعي بصفته المتولي لمسؤولية الادارة الحكومية. كما ان حركة الاحتجاج كانت ضمن الرقعة الجغرافية الشيعية ولم تتجاوزها. وحين اجبر عادل عبد المهدي، رئيس الوزراء، على الاستقالة من منصبه في خريف العام 2019، بالتزامن مع إستقالة سعد الحريري رئيس وزراء لبنان، كان ذلك ايذاناً بضرورة مغادرة منطق المحاصصة والتقاسم الحزبي للمكاسب، وان المطلوب هو الانجازات لا الشعارات وان الاقرار بانتهاء صلاحية هذه الطبقة السياسية للحكم امر لا مفر منه لان البلاد بحاجة الى قادة من طراز جديد لا تتنازع الايديولوجيات الجدلية اذهانهم، ولا يقف النقد متأدبا امام اطروحات منظريهم.

إقرأ على موقع 180  بن سلمان (إيكاروس) يُدرك الحقائق الصعبة أميركياً.. ولكن!

كما شرّع كل من نظام المحاصصة والمحسوبيات الحزبية والسياسية بوابات فساد استنزفت ميزانيات العراق لاكثر من عقد ونصف مبقياً على تذمر متراكم من سوء الخدمات واخطاء يتلو بعضها بعضاً. انتهت الى اندلاع تظاهرات تشرين المطلبية التي لم تلبث الاصابع الاميركية ان حاولت أن تمسك بخيوط ومفاتيح أساسية فيها لتجيير الازمة ضد طهران وحلفائها الذين نجحوا في اجتياز اختبار داعش الصعب في كل من العراق وسوريا وشرق لبنان.

على وقع تصاعد الحراك العراقي الذي اريد له اميركياً الا يفرق بين حليف سياسي لطهران متهم بالفساد وبين حليف مقاوم يبذل دمه، بدا ان الاميركيين يحققون تقدماً في مواطىء قدم يسهّل الاستيلاء عليها فساد الطبقة السياسية وفشلها ثم تخبطها في معالجة المستجد في ازمة الحراك. اذ كان اغتيال قاسم سليماني والمهندس مؤشراً فاضحاً للضعف السياسي في صيانة السيادة الوطنية العراقية.

جاء الرد الايراني الثأري بقصف قاعدة عين الاسد مخالفاً للمقاييس التي توقعها الامريكيون وقرروا تقبله، ولكنه كشف، في المقابل، عن ان الجميع يقف على حافة صراع مروع بين اكبر قوة عسكرية في العالم واكبر قوة عسكرية في الاقليم. والعراق لا ريب سيكون ابرز مسارح الصراع لا مناص من الاقرار بان عقوبات الحد الاقصى ضد ايران قد اخذت مأخذها وان كان لا بد ايضا من الاعتراف بان الايراني لا يزال صامداً وعنيداً. ثم حلّت جائحة وباء كورونا لتدخل على معادلة الاحداث من باب الطوارئ. لتضيف عبئاً على كاهل كل الاطراف ويبدو انها دفعت بالمتناوءَين ايضا الى التراجع ولو قليلا لالتقاط الانفاس واعادة التقييم. عزّز من هذا التوجه، انهيار اسعار النفط وتراجع الواردات وبروز ازمة اقتصادية هددت معائش عشرات الملايين في ايران والعراق ولبنان وسوريا. عند هذا المنحنى، تعززت معادلة تحتم المهادنة والتوافق وتبادل اشارات التهدئة.

في العراق، التقطت الكتل الشيعية عناصر المعادلة وظهر ميل فصائلي الى التعاطي معها وان كان بمستويات متباينة. فكان من نتاجها التوافق على تكليف السيد مصطفى الكاظمي برئاسة الحكومة  لما تبقى من عمرها. مصالح البلاد كاولوية تقدمت على التحفظات على شخصية توصف بشدة القرب من الاميركيين.

لم يكن الاميركيون اقل رغبة في التهدئة اذ نقلت منهم رسائل عبر وسطاء فصائليين لقوى فاعلة في الحشد تطلب التهدئة. كما انهم عبروا عمليا عن ارتياحم بمنح العراق استثناءً  استيرادياً من العقوبات ضد ايران لاربعة اشهر.

وفي لبنان، وقفت العملية السياسية هامدة امام تمسك الشيخ سعد الحريري برفضه تولى رئاسة الحكومة. اصر حزب الله وحركة امل على شخص الحريري وسلكوا مداخل عدة في محاولة اقناعه، لكنه قرر مغادرة المسرح الحكومي متذرعاً بأنه لا يحكم إلا بميثاقية مسيحية لم يوفرها له موارنة لبنان (التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية والكتائب اللبنانية).

وبتجرد، يمكن القول ان قبول حسان دياب للتكليف وقبوله  التصدي للمسؤولية، هو قرار سياسي جريء ينطوي على قناعة ذاتية بأن القيادة ليست وحيا يُنزلهُ الله تعالى على من يشاء من رسله بل هي مهمة وطنية يمكن ان يتصدى لها من تتوافر فيه شروط الكفاءة والنزاهة المناسبتين…

وفي الحالة العراقية، ضاعفت ازمتا الوباء وانهيار اسعار النفط من مأساة الساسة… الا انهم لم يعتادوا صنع قرار سياسي يستند الى الحكمة والخبرة. بل جرى اتباع اسلوب الصفقات السياسية التي تتضمن تبادلا للمنافع بين طرفين او اكثر وما ان بدرت اشارة اميركية افصحت عن رغبة في التهدئة قوبلت باستحسان طهران ورغبتها بالعمل “على القطعة”، حتى تنفس الساسة العراقيون الصعداء اذ وجدوا في مصطفى الكاظمي طوق نجاة لم يجدوا عنه حولاً، لا سيما وان الخيارات بدأت تضيق امامهم بعد فشل اتمام تكليف سلفيه محمد علاوي وعدنان الزرفي.

لقد جسد الكاظمي المفهوم الحرفي لمعنى مرشح الضرورة اذ بدا ان كلاً من واشنطن وطهران بحاجة الى التراجع عن خط المواجهة والاشتباك لمسافة معقولة ولزمن معقول يمنح الاطراف كلها فرصة لالتقاط الأنفاس وللتقييم وإعادة التقييم قبل الانطلاق مرة اخرى للمواجهة والتي ثبت حتى الآن ان الاساليب التي اتبعت فيها غير مفضية الى حسم. وان شعوب المنطقة التي تعيش اجواء الصراع وتعاني آثاره منذ اكثر اربعين سنة في ظل قيادات لا تصلح للائتمان على مصالح الاوطان قد طفح بها الكيل وهي بحاجة الى نظم وطنية تكرس معاني الحرية وقيم الديموقراطية وتصون سيادة البلاد وكرامة اهلها دون ترميز وتصنيم.

ومن مجانبة الصواب الادعاء بأن الاميركيين في وارد تقليص وجودهم او إرخاء قبضتهم للحد الذي يسمح بتفلت الخيوط منها. الاميركيون سيبقون لفترة طويلة يستأثرون باوراق مهمة في ايديهم ويتحكمون في كثير من الاولويات في منطقتنا والعالم وان بدت الصين وروسيا واوروبا وحتى اميركا اللاتينية مجالات للقوة يحسب حسابها الا ان علينا أن نتذكر ان كل هؤلاء لديهم روابط من المصالح الضخمة مع الاميركيين لا يستطيعون المغامرة بها.

مهمة الكاظمي، بهذا الارث وبالواقع القائم وبالشعارات التي رفعها كالسيادة وحصر السلاح والنأي عن الصراعات، لن تكون يسيرة. على ان هناك رؤية تلقى شيئاً من الاجماع، مؤداها ان الرجل اذا نجح في ما تبقى من عمر الحكومة في تجاوز الازمة الاقتصادية ولو بتخفيف آثارها وتحييدها واقرار قانون للانتخابات يكفل ممارسة حرة ونزيهة تستبعد الفاسدين، يكون قد احدث اختراقاً يفتح الباب لمزيد من الاصلاح وقد يكون عندها جديراً بالتجديد له لتكملة الشوط.

(*) من بيروت إلى بغداد.. دروس ما بعد “الزلزال”: https://180post.com/archives/10595

Print Friendly, PDF & Email
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  المسرح الإستراتيجي السوري: عقد من الحروب.. ولا ضربة قاضية!