الكاظمي إلى الرياض وطهران: ليس زمن تسويات ووساطات

كيفية صياغة علاقة العراق بكل من السعودية وإيران والولايات المتحدة، من شأنها أن تحدد عمر كل حكومة عراقية وإمكان تجديد ولاية رئيسها. يحاول رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إستثمار منظومة علاقاته الأمنية أثناء توليه جهاز المخابرات، في موقعه السياسي الجديد. هل ينجح أم يفشل؟

لن يجد وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف في بغداد ما يقلقه كثيراً. ما زالت بغداد تستهلك من رصيد قائد “قوة القدس” الجنرال قاسم سليماني. من يُدقّق في الشأن العراقي، يُدرك أن “الترويكا” العراقية الحالية المقيمة في المنطقة الخضراء: رئيس الجمهورية برهم صالح، رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي، رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وصلوا إلى مناصبهم بـ”بركة” سليماني وشريكه العراقي أبو مهدي المهندس.

ربما لن يشكك أحد بتزكية كل من برهم صالح ومحمد الحلبوسي، وهما على قيد الحياة، ولـ”البركة” شهودها، لكن ماذا عن تسمية الكاظمي الذي صار رئيسا للوزراء بعد حوالي ثلاثة أشهر من الغارة التي نفذها الأميركيون قرب مطار بغداد وأدت إلى مصرع سليماني والمهندس؟

طُرح إسم الكاظمي للمرة الأولى قبيل تسمية عادل عبد المهدي في خريف العام 2018. لكن سرعان ما طوي الإسم. عندما إستقال عبد المهدي في مطلع كانون الأول/ديسمبر 2019، كان الكاظمي من بين أكثر الأسماء جدية لخلافته. عندما إجتمع مدير المخابرات العراقية بسليماني، طلب منه الأخير أن “ينام” على ترشيحه. سأله أحد المقربين جداً من إيران، وقتذاك، كيف تطرح نفسك رئيساً للحكومة وأنت محسوب على الأميركيين، فأجابه الكاظمي “ومن سيكون أفضل مني في موقع رئيس الحكومة للحوار بينكم وبين الأميركيين”.

كان المطلوب تأمين النصاب الشيعي العراقي (الإجماع)، قبل إعلان ترشيح الكاظمي. هذه “الوصفة” قدمها تحديداً الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الذي إستقبل الكاظمي، عدة مرات، بصفته مديراً للمخابرات العراقية. كل الإتهامات التي كيلت لرئيس وزراء العراق بشأن تورطه في جريمة إغتيال سليماني والمهندس، لم يـأخذها حزب الله اللبناني نهائياً على محمل الجد. هم يملكون روايتهم ومعلوماتهم، وهم قاموا بتحقيقهم، وكانوا يدركون أن إتهامات بعض الفصائل العراقية، إنما هي إتهامات سياسية بإمتياز، ولو أنها إقتضت من الإيرانيين التدقيق في مضامينها، وتحديدا من قبل أجهزة الأمن التابعة للحرس الثوري، فيما كانت وزارة الإستخبارات الإيرانية (إطلاعات) على تواصل مستمر مع الكاظمي منذ اللحظة الأولى لوقوع الغارة التي نفذتها مروحية أميركية قرب مطار العاصمة العراقية.

الكاظمي يدرك بطبيعة الحال “الحساسيات” الإيرانية، سواء ما يتعلق منها بحماية منظومة “الحشد الشعبي”، وهو أعطى إشارة سياسية قوية بهذا الشأن منذ الأيام الأولى لوصوله إلى منصبه، أو ما يتصل بعدم تحول العراق رأس حربة لحصار أو إستهداف إيران

بطبيعة الحال، لم يضع الإيرانيون أية شروط أمام الكاظمي، لكن الرجل يدرك بطبيعة الحال “الحساسيات” الإيرانية، سواء ما يتعلق منها بحماية منظومة “الحشد الشعبي”، وهو أعطى إشارة سياسية قوية بهذا الشأن منذ الأيام الأولى لوصوله إلى منصبه، أو ما يتصل بعدم تحول العراق رأس حربة لحصار أو إستهداف إيران.. أما النقطة الثالثة، فيلتفت إليها كل أركان “البيت الشيعي” في العراق، وهي مسألة تنظيم خروج الجيش الأميركي من الأراضي العراقية.

من طهران القلقة جداً في هذه الأيام، يأتي وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف إلى بغداد، وهو مطمئن إلى أن الكاظمي يمسك العصا من الوسط، بحيث لن يُفرط بالثوابت الوطنية التي تحمي بلده، ومنها ما يشكله العراق من عمق حيوي للأمن القومي الإيراني. وفي الوقت نفسه، يسعى رئيس وزراء العراق إلى التجسير مع محيطه العربي، وهو المسار الذي مشى فيه قبله كل رؤساء الحكومات في العراق، ولا سيما حيدر العبادي الذي دشّن مرحلة جديدة في العلاقات السعودية العراقية، في مرحلة ما بعد العام 1990، فأعيد إفتتاح سفارة السعودية في بغداد للمرة الأولى منذ خمسة وعشرين عاماً (2015).

أدرك السعوديون منذ سقوط مرشحهم إياد علاوي في العام 2010، لمصلحة نوري المالكي، أن معادلة “السين سين” (سوريا/السعودية) لا تنسحب على بغداد المحكومة بمعادلة “ألف ـ ألف” (أميركا/ إيران). لذلك، ظلت مبادرات السعودية إزاء العراق محكومة بحذر في بلد صارت طهران تتدخل في كل شاردة وواردة فيه، بينما تراجع الحضور العربي فيه بشكل كبير وفاضح.

كان الكاظمي قد صارح عدداً من زملائه من قادة الأمن في العالم العربي، بشأن نيته فتح بعض الأبواب، إذا وصل إلى رئاسة الحكومة، خصوصاً وأنه ساهم في التحضير لزيارات العبادي ثم عادل عبد المهدي إلى عدد من العواصم العربية، ولا سيما الرياض، من موقعه في مديرية المخابرات، قبل أن تنتكس العلاقة السعودية الإيرانية، بعد تصريحات أطلقها السفير السعودي ثامر السبهان، إعتبرها العراقيون “تأجيجياً للخطاب الطائفي”.

كان على الكاظمي أن يدرك أنه “جزء من تسوية غير مباشرة وليس مؤهلاً لقيادة تسويات”، غير أن الرجل، على ما تشي المعطيات حتى الآن، أراد أن يُجرّب حظه. تواصل سراً مع الإيرانيين والسعوديين، وحصل على ضوء أخضر أميركي، فكان قراره بزيارة كل من الرياض وطهران

عندما جسّ الكاظمي النبض، جاءه الجواب من بعض الدوائر المقررة، بأن التوافق الأميركي ـ الإيراني في بغداد لا يتعدى حدود فك الإشتباك بين الطرفين، وبالتالي، عليه أن يكون حذراً في ظل المسار التصاعدي للإشتباك بين طهران وواشنطن، بحيث لا يعرّض نفسه أو بلده لأية دعسة ناقصة، لا سيما وأن مسار الحوار الإستراتيجي بين بغداد وواشنطن بشأن سحب القوات الأميركية قد يشهد طلعات ونزلات، تبعاً للإشتباك الكبير.

إقرأ على موقع 180  النظامان الدولي والعربي.. نحو أفول أم شيء آخر؟

كان على الكاظمي أن يدرك أنه “جزء من تسوية غير مباشرة وليس مؤهلاً لقيادة تسويات”، غير أن الرجل، على ما تشي المعطيات حتى الآن، أراد أن يُجرّب حظه. تواصل سراً مع الإيرانيين والسعوديين، وحصل على ضوء أخضر أميركي، فكان قراره بزيارة كل من الرياض وطهران.

ما الذي يمكن أن تحدثه هذه الرحلة المكوكية؟

جُلَّ ما يمكن أن يحدثه الكاظمي هو ترطيب العلاقات بين بلاده والسعوديين، طمعاً بالحصول على قروض أو مساعدات سعودية، خاصة في ظل العجز الكبير والمتراكم في ميزانية الدولة العراقية، الأمر الذي يهدد قدرة الدولة على سداد رواتب وأجور الموظفين في القطاع العام، غير أن هذه النقطة تحديداً تصطدم بواقع إقتصادي خليجي مأزوم، سواء بسبب أزمة كورونا أو تراجع أسعار النفط، ما يعني أن السعوديين وغيرهم من دول الخليج، قد يكونون على إستعداد لتقديم مساعدات إنسانية ولكن لا وجود لفرصة الحصول على قروض كبيرة.

النقطة الثانية سياسية بإمتياز. لن يفتح السعوديون الأبواب أمام أي مشروع للوساطة بينهم وبين الإيرانيين. هم والإماراتيون حاولوا ذلك سابقاً وسارعت واشنطن إلى كبح جماح هذا المسعى الخليجي، فكيف إذا كانت الولايات المتحدة مصممة على زيادة الضغط على إيران؟

لسان حال السعوديين حتى الآن أن طهران هي “المعتدية”، وهذا الإعتداء يتخذ أشكالاً محتلفة، من اليمن الذي يزداد إشتعالاً وتهديداً للأمن السعودي، فضلاً عن إستهداف قلب شركة “أرامكو” والملاحة في الخليج وتمدد أذرعة إيران في العالم العربي، “فالمطلوب هو عدم تدخل إيران في الشؤون العربية”.

هل يجد الكاظمي أبواباً مفتوحة في طهران للوساطة مع السعودية؟

لا يملك الإيرانيون إلا أن يقفوا مع العراقيين والسوريين والإيرانيين “لكن العين بصيرة واليد قصيرة”. إيران تقاتل من أجل كسر الطوق الإقتصادي والسياسي الأميركي. التفجيرات والحوادث الأخيرة أربكت طهران. الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية في إيران تزداد صعوبة. يمكن للإيرانيين أن يساعدوا في قطاعي النفط والكهرباء، لكن القرار بيد العراقيين ورهن قدرتهم على تأمين إستثناءات من الأميركيين.

لسان حال المتابعين للشأن العراقي أنه قبل أن يلتفت مصطفى الكاظمي إلى هذه العاصمة أو تلك، عليه أن يلتفت للداخل العراقي. هل فكّر بارسال رسائل تطمين لحلفاء إيران في الداخل العراقي وهل أظهر إهتماماً بطمأنة كل مكونات المجتمع العراقي؟

الكاظمي لم يثبت حتى الآن أنه يملك كاريزما القيادة. ميزته حتى الآن أنه يتحرك بغطاء سياسي توفره له جميع قوى البيت الشيعي العراقي. إذا قرر أن يتمايز، وهو في طريقه نحو إطلاق تيار سياسي ثالث في العراق من أجل كسر الإصطفافات الطائفية والحزبية والمذهبية، قد يصبح عرضة للإستهداف ممن يوفرون له الغطاء اليوم.

في خضم الإشتباك الإيراني ـ الأميركي المرشح للتصاعد حتى الإنتخابات الأميركية في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، لن تكون هناك مساحة لوساطة من أي نوع كانت. هذه مرحلة الحد من الأضرار بالنسبة إلى إيران وكل حلفائها في المنطقة. الكاظمي يغرد خارج السرب. سلوكه يشي بأن الولاية الثانية له في رئاسة الحكومة، من بعد الإنتخابات النيابية المقبلة (2022)، باتت مهددة، إلا إذا فاجأ الجميع ونجح في تشكيل كتلة نيابية عابرة للإصطفافات.

هذا في العراق، فماذا عن بيروت التي تتحرك على الإيقاعات البغدادية؟ للبحث صلة.

Print Friendly, PDF & Email
حسين أيوب

صحافي لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  لاعبون إقليميون فى الأزمة الأوكرانية.. ولكن