اللبنانيون وإحتقار الذات.. شينكر نموذجاً

لم يكد يخرج لبنان من إحتفالية استقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بوصفه حاملاً "ترياق النجاة" للبنانيين، حتى بدأ التهليل لوصول الدبلوماسي الأميركي ديفيد شينكر. الأول، أهان الطبقة السياسية وهدّدها وأمهلها. الثاني، قرر أن يحتقر الطبقة نفسها بتجاهلها لمصلحة "مجتمع مدني"، كان الأحرى بـ"مدنيته" أن تجعله يرفض أصل هكذا لقاء!

ليست الطائفية السياسية وحدها مسؤولةً عن تسخيف معنى لبنان الدولة. ما يُسخّف هذا الوطن أكثر فأكثر هو الولع الهستيري باستقبال موفدين دوليين وعرباً. الولع هذا صار طبيعة من طبائع اللبنانيين الذين يتصدون لممارسة السياسة وتجارة “المجتمع المدني” المزدهرة. هؤلاء جميعاً يجعلون لبنان ملفاً بدلاً من أن يكون دولة. لا بل يستخدمون لقاءاتهم بالموفدين لينتصروا على حلفائهم وأخصامهم في آن. هناك هوىً غريب يبلغ درجة الهوس عند كل طامح للقاء موفد دولي. ما يزيد الأمر سوءاً، هو الإعلام الذي يؤسطر عن قصد أو غيره هذه اللقاءات.

قرر ديفيد شينكر أن ينتقي من السياسيين بعض النواب المستقيلين وأهدر وقته بإجتماع إلكتروني مع بعضٍ “مدني” فاض الحديث عن مضامينه المشينة للجالسين قبالة “الديسكتوبات”. لكن الأهم هو لقاء الموفد الأميركي مع مجموعة شيعية أنعم عليها بحضوره الشخصي وتناول الغداء معها، في مكتب بيروتي ببدارو، غير آبهٍ بجائحة كورونا، ربما لأن اللقاح السياسي “حصّن” عقول المدعوين، ضد “الثنائية الشيعية”.

تجدر الإشارة، إلى أن الضيف الذي سيزورنا مجدداً، طمأن الحاضرين ألا يراهنوا على عقوبات تطال رئيس مجلس النواب نبيه بري، وحاول تهدئة خواطر بعض المستفزين من حضور المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم في صلب السياسة اللبنانية، لكنه أكد لهم أن الضغط بالعقوبات على حزب الله لن يتوقف حتى لو تغيرت الإدارة الأميركية.

إهمال ديفيد شينكر للسلطة السياسية كان موازياً لأداء ماكرون على طريق تسمية رئيس الحكومة المكلف (الموظف) وتحديد مهلة التأليف وبرنامج الحكومة المزمعة. ذلك أن إفراط اللبنانيين في مفاخرة بعضهم بعضا باستقبال الموفدين والانصياع لهم يرفع من وظيفة هؤلاء فيتحولون تلقائياً لأوصياء ينهون عن هذا ويأمرون بذاك.

لذا يكون استقبال شينكر مصحوباً بدعايتين. أولى، تصفه بـ”حامل أسرار المستقبل”. أما الثانية، فتنعته بما فاضت به اللغة العربية من نعوت. نحن أمام شخصية غير دبلوماسية تتولى منصباً بارزاً في وزارة الخارجية الأميركية. تخرّج من جامعة فيرمونت ببلاده. أكمل دراسة الماجستير في جامعة ميشيغان. كما تخرّج من معهد الجامعة الأميركية بالقاهرة بعد إتقانه اللغة العربية.

كان شينكر شاهداً على زمن “الفوضى الخلاقة” وتدمير العراق. فقد عمل في مكتب وزير الدفاع دونالد رامسفيلد إبان عهد الرئيس جورج بوش الابن. صفته كانت مدير شؤون دول الشرق الاوسط، ومساعداً أعلى في سياسة البنتاغون الخاصة بدول المشرق العربي. الغامض اللافت فيه أنه كان شخصية رئيسية تقدّم المشورة حول الشؤون السياسية والعسكرية لسوريا ولبنان والأردن ومناطق السلطة الفلسطينية.

“أصدقاء” شينكر من اللبنانيين مفتونون به. هم يشبهون أقرانهم من اللبنانيين الذين يحترفون “تقديس الزعامة”. إفتننانهم بالرجل الأبيض القادم من واشنطن يدفعهم للقول بأن “شينكر يختصر الموقف الاميركي الترامبي” من اية حكومة لبنانية مقبلة.

هل يمكن ربط ما يقول شينكر بما كان يقوله زميله جيفري فيلتمان، الذي كان يبيع قوى 14 آذار الكلام والمواقف النارية الخلبية، بينما كانت هذه القوى تُحصي خيبة تلو أخرى؟

أما بحسب “الاعلام المشاغب”، فالرجل “متشنج وغير مرن، على عكس الطرح الفرنسي الذي اعترف بدوره بالقاعدة الشعبية الكبيرة للمقاومة في البلاد.. وصهيوني لطيف” بحسب قناة “الجديد”. و”مؤيد قوي لإسرائيل” بحسب اذاعة “النور” الناطقة بلسان حزب الله. وحل “ضيفاً ثقيلا على لبنان، باحثا عن بعض جمر فتنهم السابقة لينفخ في أتونها، والتحريض على بعض المكونات اللبنانية، وتشويه القوى والشخصيات الوطنية اللبنانية التي أبت الدوران في المحور الصهيوـ أميركي، ومنعت تحقق حلم هذا المحور في “شرق أوسط جديد” وفق الرؤية الاميركية والاسرائيلية” بحسب قناة “العالم” الإيرانية الهوى والهوية والعربية الإسم.

توصيف شينكر من اعلام حزب الله أو الدائرين في فلكه، يأتي بسبب اندفاعات الدبلوماسي غير الدبلوماسي وحماسته للعقوبات على الحزب والمتعاونين معه. لكن السؤال الأساس: هل يمكن ربط ما يقول شينكر بما كان يقوله زميله جيفري فيلتمان، الذي كان يبيع قوى 14 آذار الكلام والمواقف النارية الخلبية، بينما كانت هذه القوى تُحصي خيبة تلو أخرى؟.

مُبرر السؤال أن مواقف شينكر النارية وعراضاته على مساحة لبنان تحت عنوان “العقوبات الاميركية على حزب الله”، أفضت ـ ولله الحمد ـ إلى سقوط لبنان برمته، بينما عناصر حزب الله تتقاضى رواتبها بالدولار، حتى أن المتفرغين في حركة أمل في القرى والدساكر الجنوبية والبقاعية يغارون من أقراهم الحزباللهيين الذين يقبضون رواتبهم بالعملة الصعبة!

لذلك، يبدو كلام شينكر أقرب الى المفرقعات ونيترات الأمونيوم. يضغط على الواقع اللبناني ولا يؤثر فعلياً على حزب الله. في العام 2010، وأثناء ولاية باراك أوباما، اقترح شينكر أن تراجع الولايات المتحدة الأميركية تقييم المساعدات العسكرية المقدّمة للبنان، على خلفية استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري وعلاقة المؤسسة العسكرية بحزب الله. تذرع وقتذاك بالخشية من حزب الله وتأثيره على الجيش اللبناني.

إقرأ على موقع 180  "الثلاثاء الأسود".. ما هي الأهداف وما هو سر التوقيت؟

حين عيّنه ترامب مساعداً لوزير خارجيته، كان يحشد الدعم لما سمي بورشة البحرين آنذاك، وصفقة القرن، وعندما جاءت أخبار تصويت مجلس الشيوخ المؤكّد، أبدى المدير التنفيذي لمعهد واشنطن روبرت ساتلوف حماسة وجزم بأن “مسيرة شينكر مكرسة لتعزيز جودة سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ومن المناسب أن يكون الآن هو الشخص الذي يسن هذه السياسات في مثل هذا الوقت الحاسم لمصالح الولايات المتحدة في المنطقة”.

كلام كهذا لا يُقال إلا عن محترف أو له. ذلك أن شينكر صاحب رؤية أكثر من كونه صاحب رأي، وإن كانت الأسئلة كثيرة عما إذا كان دوره أكبر من لقبه، أو العكس. ففي جلسة مجلس الشيوخ للمصادقة على تعيينه قال أن جهوده ستنصب على “صرف نظر دول مثل السعودية وقطر ومصر، عن إبرام صفقات أسلحة مع روسيا”، خاصة منظومة “إس- 400” الدفاعية. كما شدد على أنه سيعمل مع حلفاء أميركا لصرف نظرهم، أو تشجيعهم على تجنب عمليات شراء أسلحة قد تكون مشمولة بالعقوبات الأميركية عليهم.

لطالما عُرف شينكر بمقالاته وأطروحاته عن سياسة الشرق الأوسط وتاريخها ومتابعته لثورات الربيع العربي وإدلائه بآراء عن أوضاع البلدان العربية اقتصاديًا وسياسيًا قبل وبعد زوال رؤسائها. وقد نشر في هذا السياق عدة كتب أبرزها كتابه حول مصر في عهد حسني مبارك بعنوان:”التحديات المستمرة أمام مصر تجسيد البيئة في المرحلة ما بعد مبارك” عام 2011، ونال كتابه “الرقص مع صدام: التانغو الاستراتيجي للأردن” اهتمامًا كبيرًا من المحللين الأميركيين.

يوضح موقع “ميدل إيست آي” أن شينكر أجرى في أيلول/سبتمبر 2017 مقابلة مع موقع “غماينر” الألماني، توقع فيه أن يبادر حزب الله بعد إنتهاء الحرب السورية إلى مهاجمة إسرائيل، وقال “مع وجود الكثير من شباب الجماعات المسلحة الذين ليس لديهم ما يفعلونه في لبنان، من المحتمل أنها مجرد مسألة وقت حتى يبدأ حزب الله مرة أخرى بجس نبض إسرائيل واستفزازها”.

لا يحتاج البحث عن شينكر كبير عناء للإطلاع على إنحيازه لإسرائيل، على جاري عادة معظم من يحتلون المنصب إياه، لكن المشقة هي في العثور على مكانة لبنان عنده وخصوصاً “مجموعة الشيعة المعارضين” الذين يولي شينكر بعضهم المحدود جداً “عناية خاصة” كتبادل الرسائل بالبريد الإلكتروني أو عبر الواتساب.

 تاريخ البلد قريبه وبعيده يقول بأننا صرنا مدمنين وصاية، لا بل يفيض بأكثر من ذلك: السياسة في لبنان لعبة، وما على اللبنانيين إلا أن يكونوا جمهوراً متحمساً. ومتى خفت حماسته، استُدعيت الطائفية وانتصبت الكراهيات المتبادلة للتحفيز مُجدداً… أهلاً وسهلاً بك ديفيد شينكر مُحرضاً، ورحم الله غازي كنعان، أقله كان يحاول جمع اللبنانيين على “كلمة سواء” ولو إقتضى الأمر الطلب من “نواب الأمة” التصويت برفع الأيدي لإنتخاب رئيس جمهوريتهم.. أو التمديد له!

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  سؤالنا اللبناني: هل نبقى على قيد الحياة؟