إن دلّت مجريات الساعات الأخيرة على شيء، إنما على عدم رغبة الفرنسيين بالتفريط بمبادرتهم “الإنقاذية” اللبنانية، برغم ما رافقها منذ حوالي الأربعين يوماً من تهويل بأن بديلها هو الإنهيار الذي يعيش اللبنانيون أصلاً يومياته الكارثية، بودائعهم المحتجزة ومعيشتهم المُكتوية ونفسيتهم المحبطة. كل ذلك ينعكس إقبالاً على الهجرة. خيار يطرق باب كل بيت لبناني.. والحبل على الجرار.
عملياً، مُددت مهلة تأليف الحكومة. العقدة المُعلنَة هي وزارة المالية، لكنها بحقيقتها أعمق من ذلك بكثير. يكفي أن يقول مكون لبناني يعتبر نفسه أساسياً أن إقصائه عن وزارة سيادية بعينها “هو إستهداف للميثاقية”. إذا صح ذلك أو لم يكن صحيحاً، لكنه يعبّر عن عمق أزمة النظام السياسي اللبناني. نظام باتت صيغته السياسية والإقتصادية تترنح، والأخطر أن البديل غير متاح، أي أن كل حديث عن إتفاق طائف جديد لا معنى له طالما لم تنضج ظروفه الداخلية والخارجية. بالعكس، كل الإحتدام في الإقليم وفي العالم، في هذه الظروف، وفي هذا التوقيت، لن يوفر للبنانيين مظلة توافق على صيغة جديدة، سواء في باريس أو القاهرة أو بيروت، طالما أن السعودية تحديداً لن تكون بعد الآن هي العنوان الجامع للبنانيين، كما حصل في إتفاق الطائف في العام 1989.
وعملياً أيضاً، لم يبق من النظام السياسي إلا ظلاله الباهتة. لا أحد يُلزم رئيس الجمهورية بمهلة للتكليف ولا أحد يلزم الرئيس المكلف بمهلة للتأليف. لا أحد يستطيع أن يتخلى عن حقائب صارت موازية وربما تتفوق على المواقع الرئاسية والأمثلة كثيرة دستورياً. لنأخذ نموذج وزارة المالية. لا يختلف إثنان من المشاركين في الطائف على أن المداولات تطرقت إلى جعلها من حصة طائفة معينة. أول وزير مالية كان علي الخليل. لكن الرعاية السورية للبنان، بتفويض دولي وإقليمي، من لحظة الإحتلال الأميركي للعراق، جعلت إتفاق الطائف مجرد أداة بيد دمشق. قايض حافظ الأسد الصلاحيات الإستثنائية التي طلبها رفيق الحريري لحكومته، بوزارة المالية، لكن الفريق الذي أمسك بالنصاب السياسي الشيعي في الدولة وعلى رأسه نبيه بري، قرر أن لا يجيّر رفيق الحريري وزارة المالية، وقتذاك، لأحد غيره، فحمل لقب وزير المالية، إلى جانب لقب رئيس مجلس الوزراء، وجعل صديقه فؤاد السنيورة وزير دولة للشؤون المالية. هذا الواقع السياسي الدستوري، سرعان ما تراجع. الأسباب كثيرة، ولعل أبرزها “حالة الغرام والإنتقام” بين نبيه بري ورفيق الحريري.. ودائماً برعاية دمشق ومظلة حماية لبنان الإقليمية والدولية.
يصبح السؤال: لماذا لم يطالب “الثنائي الشيعي” (أمل وحزب الله) بحقيبة المالية منذ العام 2005 حتى العام 2014، مروراً بإتفاق الدوحة؟
هنا، تتعدد الأجوبة وكلها لا تقدم جواباً شافياً ومقنعاً. حتماً في المرحلة التي تلت زلزال إغتيال الرئيس رفيق الحريري، لم يكن لا بري ولا حزب الله بوارد رفع السقف. المطلوب الإنحناء أمام العاصفة. التعبير الأوضح هو “الإتفاق الرباعي”: لكم السلطة ولنا المقاومة. هذا المسار إستمر “نتيجة سوء الإدارة حتى العام 2014″، يعترف قيادي كبير في “الثنائي”.
سمع الفرنسيون كلاماً جميلاً من الجميع. إتكلوا على الله وعلى مصطفى أديب. فجأة، وُلد المطلب (المالية والتسمية). تهيب الفرنسيون الموقف. تبنوا المداورة. صارت مبادرتهم مهددة. قرروا العودة خطوة إلى الوراء. أخذ ورد مع كل الأطراف اللبنانية لأنهم لا يريدون لمبادرتهم أن تفشل، لكنه لبنان. ثمة تحريض للفرنسين يتأتى من مطارح داخلية وخارجية. لا تقبلوا أن يسمي نبيه بري وزيراً للمالية. لعل الإتصال الذي لم يعلن عنه بين ميشال عون وإيمانويل ماكرون، في الساعات الأخيرة، يصب في الخانة ذاتها. كلام معسول من بعبدا بإتجاه الضاحية الجنوبية وتحريض للفرنسيين حتى لا يتراجعوا عن المداورة. يسري ذلك على آخرين محلياً. وقع مصطفى أديب في محظور المهمة والدور والتفويض والصلاحيات والكاريزما. بات الحلقة الأضعف. لا يريده الفرنسي أن يعتذر أبداً إلا بقرار منه حصراً. نادي رؤساء الحكومات وفّر لأديب الغطاء السني ومشروعية المهمة ولسان حاله أن المبادرة متكاملة فلا تتنازل يا مصطفى وإلا “أكلت يوم أكل الثور الأبيض”. رسائل من تحت الطاولة إلى أديب مصدرها القصر الجمهوري: هات التشكيلة يا مصطفى بلا مداورة وسيوقعها فخامة الرئيس (ضمناً لم يخف عون رغبته بأن تؤول إليه وزارة المال). أما “الثنائي الشيعي”، فصار متصلبا أكثر من اي وقت مضى، سواء بعقوبات أميركية أو من دونها. سمع مصطفى أديب من حسين الخليل وعلي حسن خليل اليوم (الخميس) ما لم يكن يخطر على باله أن يسمعه. كان جوابه مقتضباً: لست بوارد الصدام معكم أبداً ولكنني لا أستطيع تبني وجهة نظركم. أقنعوا سعد الحريري وأنا بخدمتكم.
ولكن ما هو سر تصلب سعد الحريري؟
حتى الآن، ثمة فرضيات كثيرة:
أولا، يعبّر سعد الحريري عن حقيقة الموقف الفرنسي، وكل ما يقال خلاف ذلك ليس دقيقاً. فرضية تحتمل التدقيق.
ثانيا، يعبّر الحريري عن الموقف الأميركي الذي قرر أن ينقلب على المبادرة الفرنسية، ردا على تصلب الإيرانيين وتشددهم، خاصة في ضوء ما يجري في الإقليم. فرضية ضعيفة لأن الحريري لم يخرج من الحضانة السياسية الفرنسية أبداً، إلا إذا إقتضى توزيع الأدوار أن يوحي بأن تشدده مصدره واشنطن، حماية للفرنسيين ومصالحهم، ثم أن الحريري لو كان ليستمع إلى كلمة الأميركيين، لكان أقدم على تسمية نواف سلام رئيساً للحكومة وليس مصطفى أديب.
ثالثاً، يُعبر الحريري عن موقف السعودية. هذه الفرضية تساوي صفراً لأن الخطوط مقطوعة بين الحريري والسعوديين حتى الآن، برغم إهتمام الرياض الإستثنائي بالوضع اللبناني، بدليل الأمر الآتي من الديوان الملكي السعودي، قبل عشرة أيام للسفير وليد البخاري بإرجاء إجازته السنوية حتى إشعار آخر.
رابعاً، يُعبر فقط عن موقفه وعن موقف رؤساء الحكومات السابقين، إنطلاقاً من وهم إعادة الإعتبار إلى إتفاق الطائف الذي صار القاصي والداني يقول أنه لم يعد يشكل الوصفة المناسبة للأمراض السياسية المستعصية في الجسم اللبناني، ولكن لا يجوز التفريط به قبل التوصل إلى إتفاق جديد.
هل هناك من يخشى أن يؤدي تثبيت موقع وزارة المالية في التركيبة السياسية اللبنانية لمصلحة الطائفة الشيعية، بموافقة فرنسية (ضمناً أميركية) إلى تأبيد هذا الواقع وجعله صنو إتفاق الطائف بمباركة دولية؟
هذه الخشية موجودة عند دوائر محلية ودولية.
هل ثمة مخارج؟
من طلب من مصطفى أديب عدم الإعتذار هو فرنسا، على أن يترافق ذلك مع إعطاء فرصة جديدة للمشاورات التي ستتكثف في الساعات المقبلة، وهذه المرة بزخم دولي وإقليمي. إتفق ميشال عون ومصطفى أديب على إستمرار الإتصالات وأن لا يلزم الرئيس المكلف نفسه بأية مهلة. قال عون لأديب أن الكل متسمك بالمبادرة الفرنسية بكل مندرجاتها والتي كانت حظيت بتوافق جميع القيادات السياسية التي إلتقت ماكرون في قصر الصنوبر.
هذه الجملة الأخيرة تحمل في طياتها دعوة للرئيس المكلف ألا يتخلى عن مطلب المداورة. أي خروج عن ما سُميت “مندرجات المبادرة الفرنسية”، ستجعل رئاسة الجمهورية تغير قواعد اللعبة. هذا ما حذر منه الفرنسيون عندما كانوا يقولون بأنهم يخشون إذا تم تثبيت معادلة وزارة المالية إلى فتح شهية آخرين على التمسك بحقائب وربما بأسماء وزراء. تطرح قضية المندرجات إشكالية إدارة المبادرة الفر نسية، محلياً وخارجياً. كان الإعتقاد السائد أن الفرنسيين ملمون بالواقع اللبناني، لكن تبين أنهم ما زالوا مبتدئين.
في الخلاصة، مصطفى أديب ممنوع من الإعتذار فرنسياً. محكوم بالولاء سياسياً وميثاقياً لنادي رؤساء الحكومات الذي إختاره لهذه المهمة المستحيلة. لا يستطيع التأليف من دون “الثنائي الشيعي” الذي تجاوزت حساباته هذه الحكومة الجديدة بذاتها. هل يمكن أن ينتج هذا المناخ المحتدم داخليا وخارجيا حكومة أديبية؟ للبحث صلة.