ثمة مفارقات كثيرة في السياسة الدولية. نظرياً، بيلاروسيا صديقة يجب حمايتها، بينما الولايات المتحدة عدو يجب قتاله حتى آخر جندي (ويفضل أن يكون الجندي الأخير أميركياً). ومع ذلك، من الناحية العملية، تعتبر العلاقات الدولية مجموعة متشابكة من التناقضات التي قد تتشابك عندها، في لحظة معينة، مصالح اثنين من الأعداء اللدودين في الدفاع عن دولة ثالثة.
هذا بالضبط ما يحدث الآن في المثلث الإسرائيلي – الأذربيجاني – التركي. تدعم تل أبيب باكو – حليف أنقرة – أخلاقياً وعسكرياً وفنياً، وهي تدرك جيداً أنها تتصرف بطريقة ما ضد مصالحها الخاصة.
“كيف يمكن لأرمينيا وإسرائيل أن تخطوان خطوة مشتركة نحو المستقبل، تشمل في المقام الأول تعزيز العلاقات الثنائية بين الدول؟ لا أرى بديلاً عن المشاريع الإنسانية التي تعمل كقوة دافعة وحافز لضمان تعاون مستدام ومنتج ومتعدد الأطراف بين البلدان والشعوب في القرن الحادي والعشرين”. كانت تلك كلمات السفير الأرميني في إسرائيل آرمين سمباتيان خلال حفل افتتاح السفارة الأرمينية في تل أبيب في 18 أيلول/سبتمبر الماضي (بالرغم من أن الدولتين أقامتا علاقات دبلوماسية منذ العام 1992).
ومع ذلك، تحرك السفير الأرمني في هذا الاتجاه الايجابي لمدة أسبوعين فقط، ففي الأول من تشرين الأول/اكتوبر استدعته يريفان رسمياً للتشاور. السبب هو عمليات تسليم أسلحة إسرائيلية على نطاق واسع للجيش الأذربيجاني، الذي يقاتل في ناغورنو قره باخ ويفقد الكثير من المعدات، ويتحطم في حواجز الأمواج في مواقع الدفاع الأرمنية.
وفقاً لما يتردد في وسائل الإعلام، فقد أرسلت إسرائيل في الأيام الأخيرة من شهر أيلول/سبتمبر طائرتين محملتين بالأسلحة إلى أذربيجان.
صحيفة “هآرتس ” الإسرائيلية كتبت أن “الطائرات الأذربيجانية تهبط علناً في قواعدنا العسكرية في صحراء النقب”.
من جهتها، اعتبرت أرمينيا هذه الإمدادات بمثابة خطوة معادية. المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأرمينية آنا نغداليان أشارت إلى أنه “من خلال القنوات الدبلوماسية، ذكرنا مراراً وتكراراً زملائنا الإسرائيليين بأن هذا الأمر مؤسف، وخصوصاً في الوقت الذي تشن فيه أذربيجان، بدعم من تركيا، عدواناً واسع النطاق ضد آرتساخ وأرمينيا”.
قد يبدو موقف يريفان غريباً بالنسبة إلى البعض، فالتعاون العسكري بين أذربيجان وإسرائيل ليس وليد اليوم، فالدولة العبرية تعد من أكبر موردي الأسلحة للجيش الأذربيجاني. تبيع تل أبيب إلى باكو طائرات من دون طيار، وأنظمة إطلاق صواريخ متعددة، وقذائف هاون وأنظمة اتصالات، والعديد من المعدات الأخرى التي تبلغ قيمتها مئات الملايين من الدولارات.
علاوة على ذلك، يمكن للإسرائيليين أن يحاججوا بأن لهم كل الحق في الاستمرار في توريد الأسلحة لأذربيجان، وأنهم لا ينتهكون أية التزامات، وليست أمامهم أية قيود قانونية (لا يوجد حظر دولي) ولا حتى أخلاقية (على عكس روسيا وبيلاروسيا)، فأذربيجان ليست عضواً في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وبالتالي فهي لا تزود عدو حليفها بالسلاح.
لذلك، فإن الخطوة الرسمية التي اتخذتها أرمينيا في وجه تل أبيب سوف يُنظر إليها في أحسن الأحوال على أنها ادعاءات باطلة مردّها الإهانة التي شعرت بها يريفان بعد الاستخدام الناجح لطائرات الكاميكاز الإسرائيلية من دون طيار من قبل القوات الأذربيجانية، وفي أسوأ الأحوال كتخريب متعمد للعلاقات الثنائية، التي اتخذت منحى متقدماً الشهر الماضي بعد افتتاح السفارة الأرمينية في تل أبيب.
ومع ذلك، يثير موقف يريفان سؤالًا مهمًا يتعلق بعمل غريب بنفس القدر: ما الذي تريده إسرائيل في دعمها لأذربيجان؟
بالطبع لدى الخبراء الإسرائيليين إجابة منطقية على ما يبدو، وهي لا تقتصر على حقيقة أن باكو تزود تل أبيب بـ 40٪ من النفط الذي يستهلكه الإسرائيليون.
وزير الدفاع ووزير الخارجية الإسرائيلي السابق أفيغدور ليبرمان أوضح أن “أذربيجان على مفترق طرق ثلاث إمبراطوريات – فارسية وعثمانية وروسية”، ومن المهم لإسرائيل بالتالي أن “تكون لها دولة صديقة في هذه المنطقة – دولة مسلمة وعصرية وعلمانية”.
في الواقع، بالنسبة إلى إسرائيل، تفسر الأهمية الاستراتيجية لأذربيجان من خلال حدودها مع إيران.
أخذاً في الحسبان العلاقات الأذربيجانية الإيرانية المعقدة (في طهران، لا ينسى الإيرانيون مزاعم القيادة الأذربيجانية بشأن أذربيجان الكبرى، بما في ذلك أذربيجان الإيرانية، وفي باكو يتذكر الأذربيجانيون محاولات آيات الله اختراق سكان الدولة الواقعة عبر القوقاز)، قامت إسرائيل بتسليح أذربيجان تحسباً لحرب محتملة، ليس ضد أرمينيا، بل ضد إيران.
في وقتٍ ما، سرت شائعات تفيد بأن أذربيجان يمكن أن تصبح واحدة من نقاط انطلاق للعملية الأميركية – الإسرائيلية ضد الجمهورية الإسلامية. باكو، بالطبع، تنفي وجود مثل هذه المحادثات، وتتحدث عن عدم التدخل في الصراع بين طهران وتل أبيب. ومع ذلك، فإن الوضع في الشرق الأوسط في الوقت الحالي ليس على تلك الدرجة العالية من التوتر التي من شأنها أن تجعل رئيس أذربيجان، إلهام علييف، مضطراً لاتخاذ خيار نهائي بين إيران من جهة وإسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى. ولكن “عدم التدخل” الأذربيجاني لا ينفي حقيقة أن الإسرائيليين يقومون بعمليات استطلاع (وربما عمليات تخريب) ضد إيران من أراضي أذربيجان.
الإيرانيون يصرون على أسنانهم، لكنهم ليسوا في عجلة من أمرهم لتوجيه الإنذارات إلى القيادة الأذربيجانية. إيران الآن ليست في وضع يمكنها من تحويل دولة محايدة رسمياً إلى عدو جديد.
مشكلة المنطق الإسرائيلي المتمثل في معادلة “نحن ندعم الأذربيجانيين ضد إيران” هي أن إسرائيل في الواقع لا تدعم باكو بقدر ما تدعمها أنقرة، فأذربيجان شريك أساسي لتركيا، وبحسب العقيدة التركية، فإنّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هو حاكم أذربيجان والعالم التركي بأكمله.
تركيا بالذات، تعد اليوم واحدة من أشد المعارضين لدولة إسرائيل، على النحو الذي تبدّى في الدورة الحالية لاجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، حين غادر المندوب الإسرائيلي قاعة الجلسات في اللحظة التي تحدّث فيها أردوغان عن “اليد القذرة التي تمسك بالقدس، حيث توجد الأماكن المقدسة لديانات العالم الثلاث”.
ومن المتوقع حدوث العديد من الاشتباكات من هذا النوع، وبعد كل شيء، ستنخفض العلاقات بين البلدين شهراً تلو الآخر.
أدت سلسلة اتفاقيات السلام بين إسرائيل ودول الخليج (التي بدأت بتوقيع اتفاقيتين مع الإمارات والبحرين) إلى تفاقم العلاقات الفلسطينية- الإسرائيلية وتقرب تل أبيب من دول الخليج. وهذا الأمر يؤدي إلى زيادة حدة المشاعر في العلاقات بين إسرائيل وأردوغان. ستمول تركيا حركة “حماس” وتقدم المساعدة المعنوية والمادية للمقاومة الفلسطينية، وقد يصل الأمر إلى دعمها بمجموعات “الباشيبازوك” (عساكر غير نظاميين في الدولة العثمانية) من الإرهابيين السوريين الذين يقاتلون من أجل المصالح التركية في سوريا وليبيا، وحالياً في ناغورنو قره باخ.
ربما يبدو لشخص ما في إسرائيل أن ناغورنو قره باخ أرضاً بعيدة، وبأن الدعم غير المباشر للسياسة التركية في القوقاز (والغرض منه ليس الاستيلاء على قره باخ، ولكن إنشاء منطقة نفوذ تركية من بحر قزوين إلى البحر الأسود مع احتمال امتدادها إلى حدود العالم التركي مع الصين) لا يضر بالمصالح الإسرائيلية بأي شكل من الأشكال. حتى أن البعض سيقول إن ذلك مفيد إلى حد ما لتل أبيب، ففي نهاية المطاف، يساعد القتال في إرسال الإسلاميين السوريين إلى قره باخ للقاء حُور العين.
ومع ذلك، فإن اللعبة هنا لا تستحق كل هذا العناء. لا يمكن النظر إلى سياسة تركيا تجاه القوقاز بمعزل عن الخط العام لأردوغان، الذي يتسم بالحزم والعدوانية، فإذا ما سُمح للزعيم التركي بفعل ما يشاء في القوقاز، فسوف يضاعف جهوده لزعزعة استقرار مناطق أخرى، بما في ذلك الشرق الأوسط.
لقد فهم الفرنسيون، على سبيل المثال، هذا الأمر، ولذلك يتم حالياً تشكيل توافق فرنسي- روسي، حيث لا تدافع باريس عن قره باخ (برغم نفوذ الجالية الأرمنية في فرنسا)، بل تدافع عن اليونان والاتحاد الأوروبي. ربما ينبغي على الإسرائيليين أن يفهموا أيضاً أنه بمساعدة تركيا على مواجهة التهديد الإيراني الأسطوري (إيران لن “تحول إسرائيل إلى بحر من النار” لأنها لا تريد أن يُرد عليها بقنبلة نووية إسرائيلية) فإنهم في الواقع يشجعون تركيا على دعم حركة “حماس” والمقاومة الفلسطينية.